صحيفة المثقف

روسيا وأوربا: المأثرة التاريخية لفكرة دانيليفسكي السلافية (2)

ميثم الجنابيتقديم: إن هذه السلسلة من المقالات، التي بدأتها بالتعريف على شخصية دانيليفسكي وكتابه (روسيا وأروبا) كانت في بداية الأمر مشروعا لأحد فصول كتابي عن أثر فلسفة التاريخ في بلورة العقائد السياسية على ممر التاريخ. ومن خلاله كنت اسعى للكشف عن حقيقة واقعية ورؤية مستقبلية تتعلق بالعالم العربي المعاصر وفكرته السياسية المستقبلية. ومن ثم الكشف عن أن غياب التأسيس الفلسفي للفكرة السياسية كان وما يزال احد الأسباب الجوهرية في خلل النظام السياسي والأحزاب والحركات الاجتماعية. وذلك لأنه ابقى عليها جميعا عميان بتصوراتهم وأحلامهم وأوهامهم الأيديولوجية. ولا يذلل هذا الخلل سوى فلسفة التاريخ النظرية والعملية، أي تلك التي تكتشف "قوانين" التاريخ وتؤسس لكيفية البدائل انطلاقا من تاريخها الذاتي.

فالتاريخ هنا ليس الماضي ولا حتى الحاضر، بل هو مضمون الرؤية المستقبلية. وقد كان ذلك على الدوام الحافر الباطني العميق لفلسفات التاريخ الكبرى. وقد انجزت هذا العمل ودفعته للنشر وسوف يصدر قريبا تحت عنوان (بوابة التاريخ الأبدي).

وقد كانت فلسفة دانيليفسكي احد فصوله الأخيرة. وقبله تناولت بالتحليل والدراسة الخاصة بهذا الجانب كل من فلسفة اوغسطين وابن خلدون وميكيافيلي وهيغل وماركس، واختتمته بفلسفتي عن التاريخ والحضارة والمستقبل كما وضعت صيغتها الأولية المختصرة في كتابي (فلسفة البدائل الثقافية). أما صيغتها الكاملة فسوف تظهر في كتابي (فلسفة البدائل المستقبلية)، الذي يحتوي على عدد من المجلدات. 

لقد كان وما يزال دانيليفسكي شبه مجهول على النطاق العالمي بما في ذلك في روسيا! وهذه من مفارقات التاريخ والفكر والفلسفة أيضا. ولم يكن ذلك معزولا عن تعرج التاريخ السياسي الروسي وحنق التيار الغربي (الأوربي – الليبرالي) الروسي بمختلف فرقه في عدائه الغريزي تجاه ما وضعه دانيليفسكي في كتابه (روسيا وأوربا)، بما في ذلك من جانب التيارات الاجتماعية (الاشتراكية) الديمقراطية الروسية والشيوعية لاحقا.

وقد ادخلته أنا في برنامج المحاضرات الرسمية التي القيها لطلبة الفلسفة حول تاريخ ونظرية الثقافة والحضارات العالمية. إذ لم يسمع الطالب الروسي باسمه. وبعد التعرف عليه يأخذ الحماس الكثير منهم، بما في ذلك في مواقفهم النقدية من بعض أفكاره. بمعنى انه مثير للتفكير الفلسفي والعقل النقدي. وذلك لأن القضايا التي أثارها قبل أكثر من قرن من الزمن مازال الكثير منها فاعلا في الوعي السياسي والثقافي وطبيعة الصراع بين روسيا وأوربا. والآراء التي وضعها دانيليفسكي هنا ذات قيمة عالمية وليس روسية فقط. من هنا ضرورة إطلاع الثقافة العربية المعاصرة عليه. ودفعني ذلك لاحقا، بعد أن كتبت الفصل المتعلق به ضمن كتابي (بوابة التاريخ الأبدي) إلى ترجمة عمله (الأبواب الفلسفية النظرية الأساسية) وتقديم دراسة واسعة عنه وتدقيق ما في الكتاب مع الشروح والتعليقات الوافية. وسوف يصدر هذا الكتاب أيضا قريبا تحت عنوان (روسيا وأوربا. فلسفة الأمة الثقافية).

***

يبدأ دانيليفسكي في الفصل الثاني من كتابه (روسيا وأوربا)، أي في البداية النظرية للكتاب بعبارة أحد الأوربيين الذين خاطبه بما يلي:"انظر إلى الخارطة! هل يمكننا يا ترى أن نشعر بالأمان والاطمئنان مما تشكله روسيا من قوة ضاغطة علينا بحجمها كما لو أنها سحابة فوق رؤوسنا أو كابوس رهيب يجثم علينا؟". وينتهي كتابه بأبيات شعرية من احدى قصائد خومياكوف، التي تصور النهر الفائض وزرقة السماء الصافية والمروج الخضراء وهرولة الناس العطشى، أي الصورة المثالية والحالمة عن الدور التاريخي الثقافي والروحي لروسيا ممثلة الأرثوذوكسية الصادقة و"روما الثالثة" أو فاتيكان الروح النصراني الخالص في سعيه لخلاص البشرية عبر تحويل مجرى روافدها في الصيرورة الثقافية الروحية الجديدة.

غير أن دانيليفسكي حوّل هذه الصورة البلاغية والرمزية وحصرها ضمن مهمة التجميع الثقافي السياسي للشعوب السلافية حول بؤرتها الروسية، بوصفها القوة الصاعدة تاريخيا والمؤهلة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا لتأمين الاستقلال الفعلي للجميع في وحدة سلافية متماسكة. ومن خلالها صنع التوازن الضروري سواء في مواجهتها للغرب الأوربي الجرماني- الرومي (اللاتيني) أو توازنها الداخلي.

لقد اكتشف دانيليفسكي ما يمكن دعوته بالحلم التاريخي والمستقبلي لروسيا والعالم السلافي. انه اكتشف إحدى الحقائق الجوهرية في مجرى التطور التاريخي للأمم وحضاراتها من خلال المعرفة العلمية بالظواهر الطبيعية الحية، والمعاينة والمعايشة والدراية السياسية، والحدس المعرفي "لقوانين" الصيرورة التاريخية عما اسماه بالنمط التاريخي الثقافي، أي الحضارة وثقافتها. ولا يغير من هذه الحقيقة شيئا كونه لم يكن واسع المعرفة المعمقة بتاريخ الحضارات وثقافتها.

كان دانيليفسكي واضحا وبسيطا وعميقا بقدر واحد. فمعارفه في مجال التاريخ الثقافي للحضارات والأمم محدودة ومحصورة أساسا بالتاريخ الروسي والسلافي العام وأوربا. بينما العوالم الأخرى كانت أقرب ما تكون إلى صدى الأنغام النائية. من هنا نرى دقة ما يقوله عن العالم الروسي والسلافي والأوربي، لكننا لا نعثر على أي شيء جدي وعميق عن الأنماط التاريخية الثقافية التي يضعها في قائمة الحضارات الكبرى (الصينية والهندية والمصرية والبابلية والعبرية والفارسية واليونانية والرومية والعربية)1، على خلاف ما سنراه لاحقا عند اوسفالد شبنغلر رغم ضعف وعدم دقة الكثير من مقارناته واستنتاجاته ورموزه الثقافية، أو عند ارنولد توينبي. الأمر الذي يشير إلى انه أدرجها ضمن ما هو سائد آنذاك من معرفة عامة وأولية في الثقافة الأوربية والروسية أيضا عن هذه الحضارات.

وفيما لو جرى إهمال الأبعاد الدينية واللاهوتية في هذه المواقف، فإن مضمونها التاريخي الفعلي يقوم في الجهود النظرية لدانيليفسكي لكي تكون مطابقة مع حقيقة المسار العام والخاص للتاريخ الروسي، بوصفه جنين الفتوة الصاعدة للروح السلافي الخالص. بمعنى لعب الدور الذي مثلته العروبة الثقافية في جمع الشعوب والأقوام والأمم الإسلامية. وبغض النظر عن الفارق الجوهري بين جمع قبائل وأقوام من أرومة واحدة، وبين ما قام به العرب من تنشيط الكينونة الثقافية للجميع في كائن إسلامي موحد. بحيث تحول إبداع أقوامه وشعوبه وأممه إلى روافد صبت في بحرها الثقافي الهائج بقدر، والساكن بقدر2.  

إن المأثرة التاريخية والنظرية والسياسية لدانيليفسكي تقوم في تحويله أوهام التيار السلافي والقومي الروسي إلى أحلام اليقظة السياسية. كما انه جعل من التيار السلافي الإثني والهلامي تيارا سلافيا سياسيا ثقافيا. واستطاع تحويل العقيدة الدينية الأيديولوجية إلى عقيدة ثقافية سياسية. ومن ثم نقل التبشيرية الدينية الكاثوليكية – الارثوذكسية - البيزنطية وشعارها "موسكو روما الثالثة" إلى تبشيرية سياسية إثنية ثقافية شعارها "موسكو مركز الإتحاد السلافي" وليس العالمي. ووضع لهذا التحول الكبير والجوهري في الوعي السياسي الروسي ووعيه الذاتي أساسه الفلسفي في فكرة النمط التاريخي الثقافي.

فلسفة النمط التاريخي الثقافي

تعادل فكرة النمط التاريخي الثقافي معنى الرؤية الفلسفية للتاريخ الثقافي والسياسي للأمم في بناء حضاراتها الخاصة. كما أنها مبنية على أساس تأمل التجربة التاريخية السياسية والثقافية لروسيا. ومن خلالها حاول رؤية الاحتمال الواقعي والممكن في بناء هذا النمط بالشكل الذي يدرج فيه كل أقوام العالم السلافي. وقد حدد دانيليفسكي نفسه هذه المهمة من خلال ربط الاستنتاجات العامة أو قوانين التطور التاريخي الناشئة عن تعميم ظواهرها، وفقاً للأنماط التاريخية الثقافية. بمعنى، إن هذه الأنماط وكلّ منها لحاله تشكل مضمون الرؤية العامة والخاصة للتاريخ القومي وفي نفس الوقت هي مرجعية للنظر والعمل. وحصر دانيليفسكي هذه القوانين بخمسة هي على التوالي من حيث التصنيف والأولوية.

القانون الأول: ويؤكد على صيرورة الدولة القومية ووحدتها السياسية والإثنية، والتي تعادل بالمعنى التاريخي الخروج من مرحلة الطفولة. وكتب بهذا الصدد يقول بأن أية مجاميع قبلية أو عائلة من الشعوب تتميز بلغة واحدة أو مجموعة من اللغات المتقاربة، يمكنها أن تكوّن نمطا تاريخيا ثقافيًا متميزًا، خصوصا إذا كانت من حيث أجنتها الروحية قادرة على التطور التاريخي والخروج من مرحلة الطفولة.

القانون الثاني: ويؤكد على ضرورة الاستقلال السياسي. وحدد ذلك بفكرة تقول، بأنه لكي تنشأ وتتطور حضارة متميزة لنمط تاريخي ثقافي، فمن الضروري أن تتمتع الشعوب التي تنتمي لهذه الحضارة بالاستقلال السياسي.

القانون الثالث: إن بداية الوجود الحضاري (الدولتي والسياسي واستكماله الثقافي) لا يمكنها أن تكون نسخة أو نقل تقليدي صرف لمن سبقها أو يعاصرها. وحسب عبارته، ينبغي أن يكون لها طابعها الذاتي والتلقائي الخاص. وأن البدايات المميزة لحضارة من نمط تاريخي ثقافي خاص لا يمكن نقلها إلى شعوب أخرى. وذلك لأن كل نمط منها هو نتاج نفسه، لكنه يتأثر بهذا القدر أو ذاك بالحضارات الغريبة عليه سواء السابقة منها أو المعاصرة لوجوده.

القانون الرابع: إن الحضارة الخاصة لكل نمط تاريخي ثقافي لا تبلغ غايتها وتكاملها ما لم تشكل اتحادا فدراليا لمكوناتها. فالحضارة الخاصة بكل نمط تاريخي ثقافي، كما يقول دانيليفسكي، لا تبلغ حالة الامتلاء والتنوع والغنى من حيث مكوناتها الإثنية إلا حالما تشكل اتحادًا (فيدراليا) أو نظامًا سياسيًا للدولة يحتوي على كيانات سياسية كانت تتمتع بقدر تام من الاستقلال. ذلك يعني إن الثقافة أو الحضارة بالنسبة له هي نتاج مكون إمبراطوري كبير. وأن هذا القانون أقرب ما يكون إلى فكرة سياسية عملية ومستقبلية تتعلق بمشروع بناء الحضارة الخاصة أكثر مما هو قانون بالمعنى الدقيق للكلمة.

القانون الخامس: ويقول، بأن المسار الحضاري للأمم هو مسار طبيعي. البداية طويلة ومعقدة، بينما النهاية مثمرة وسريعة. فمسار التطور الملازم للأنماط التاريخية الثقافية، كما يقول دانيليفسكي، يشبه تطور النباتات المثمرة المعمرّة، التي عادة ما تكون فترة نموها طويلة جدا، بينما فترة الإزهار والإثمار قصيرة نسبيا وتستنفد حيويتها مرة واحدة وإلى الأبد.

وإذا كان القانون الأول والثاني (صيرورة الدولة القومية ووحدتها السياسية والإثنية، وضرورة الاستقلال السياسي) لا يتطلبان تفسيرات كبيرة، كما يقول دانيليفسكي، فلأنه لا مجال للشك فيهما. ومن بين الأنماط التاريخية الثقافية العشرة، التي يشكل تطورها مضمون التاريخ العالمي، حسب نظرته، ثلاثة منها تنتمي إلى قبائل السلالة أو العرق السامي. وكل فرع منها يتميز بإحدى اللغات الثلاث للمجموعة السامية وهي كل من الكلدانية والعبرية والعربية3، ولكل منها حضارته المتميزة. بينما تنقسم مجموعة اللغات الآرية، كما هو معروف، إلى سبع عائلات لغوية رئيسية وهي كل من السنسكريتية، والإيرانية، والهيلينية، واللاتينية، والكلتية، والجرمانية، والسلافية. ومن بين هذه العائلات السبع هناك خمس منها من كانت لها أنماط تاريخية ثقافية ومن ثم حضارتها الخاصة، وهي كل من الهندية والفارسية واليونانية والرومية (الإيطالية) والجرمانية. أما الكلتيون فإنهم الوحيدون الذين لم يصنعوا كيانا مستقلا. وذلك بسبب اختلاطهم مع العناصر المتحللة للحضارة الرومية والجرمانية. حيث تحولت إلى جزء أو إلى مواد إثنية في مكونات النمط التاريخي الثقافي الجرماني الرومي.(يتبع...).

 

ا. د. ميثم الجنابي

.......................

1- لا توجد في الواقع حضارة عبرية. بل يمكننا الحديث عن ثقافة عبرية يهودية فقط. بمعنى أنها جزئية وضيقة ومحدودة المجالات والميادين. فالحضارة من وجهة نظري تنشأ أولا عند الأمم الكبرى وليس عند الأقوام الصغيرة، أو عند الأقوام "الصغيرة" التي تتحول في مجرى صيرورة الدولة إلى قوة إمبراطورية بالمعنى الدولتي والسياسي والعسكري والثقافي، أي حالما يتحول القوم "الصغير" إلى بؤرة الوجود الإمبراطوري الكبير. وثانيا، حالما تبدع مرجعيات "كونية" أو ماوراطبيعية في تعاملها مع النفس والآخرين. ويستحيل بلوغ هذين الجانبين دون تأسيس وتحقيق مرجعيات ثقافية متسامية وبمبادئ عملية فعالة ومشتركة للجميع. بينما العبرية لا تتمتع بهذا الصفات جميعها. إنها قومية إثنية دينية ضيقة. إنها لم تصنع إمبراطورية، ولا أمة قومية ولا أمة ثقافية، بل قومية اثنية دينية. من هنا محدودية مرجعياتها الثقافية بوصفها نمطا قوميا إثنيا صرف معزولا ذاتيا ومحاصرا خارجيا. والشيء الوحيد الذي أعطى لها قيمة بالمعنى الثقافي هو انتصار وانتشار النصرانية العالمي. وبدونها كان يمكن أن تضمحل وتتلاشى، أو أن تبقى محلية شأن المئات أمثالها أو حتى من هو أكبر منها بما لا يقاس. وينطبق هذا التقييم على عشرات القوميات بما في ذلك تلك التي انتجت إمبراطوريات، لكنها خالية من قوة نموذجها الثقافي بوصفه منظومة مرجعيات متسامية وأصيلة في وحدة مكوناتها وأجزائها، كما هو الحالة بالنسبة للإمبراطورية العثمانية والروسية أيضا. وحتى دانيليفسكي يتحدث ويؤسس في كتابه (روسيا واوربا) عن مشروع انتاج "نمط تاريخي ثقافي سلافي" أي حضارة، تكون روسيا بؤرتها الفاعلة، وليس عن واقع حضارة مستقلة قائمة بالفعل. 

2- إن شيئا من هذا لم يحدث. بل على العكس كما نرى ملامحه الآن. لكن روسيا كانت تفوز دوما حالما تفكر بمنطق الرؤية الثقافية السياسية بتجريدها وتخليصها من الأبعاد الدينية (الارثوذوكسية) والإثنية (السلافية).

3- يعكس هذا التصنيف ما هو مشهور في تقاليد التاريخ والثقافة الأوربية وتصنيفها للحضارات والأمم. والقضية هنا ليس فقط في خطأ مبدأ التقسيم الآري السامي الحامي. لكنه يحتوي على بعد ثقافي صحيح نسبيا في حال الإبقاء عليه ضمن سياق التقسيم اللغوي، ولكن بعد إزالة المضمون الديني اللاهوتي الخرافي. إن عدم دقة ارجاع الثقافة العربية إلى فكرة السامية يقوم أولا وقبل كل شيئ في أن المقصود بها هنا هو الحضارة العربية الإسلامية. وهي حضارة لا علاقة لها بالسامية، وذلك لأنها من حيث مبادئها وعقيدتها الثقافية والكونية تقع خارج اطر التقسيم الإثني الضيق. والأهم من ذلك إنها تحتوي في مجرى صيرورتها وإبداعها الثقافي على مشاركة واشتراك مختلف الشعوب والأقوام التي تنتمي إلى "الآريين" و"الحاميين" أيضا.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم