صحيفة المثقف

قراءة نقدية في شعر الشاعرة الأمريكية لويز غليك

حيدر عبدالرضاالدلالة الشعرية بين شفافية اللغة والفاعل المنفذ

توطئة: إن القارىء المتابع لعوالم شعرية الشاعرة الأمريكية الحائزة على جائزة نوبل 2020 في الآداب الشعرية (لويز غليك) لربما نعاين حالات الأشياء، في مجرى دوافع مضمرة ورمزية من حسية الذات الواصفة، لذا فإننا ومن خلال قصيدة (قديستان) ترجمة الشاعر عبد الكريم كاصد، واجهنا ذلك المعطى الدقيق من الربط بين حالتين متعارضتين في موجب الاستقراء النفسي والوصفي في علاقة الوظيفة الشعرية . فالشاعرة في هذه القصيدة تمنحنا ذلك السقف من الإيحاء والغموض في مجال من إمكانية استحضار النقائض في صورة علاقة موحدة من التشخيص والتفاوض من لدن مرجعية حالات (التصوير / الإيحاء / المسكوت عنه) امتدادا نحو انعطافات الموصوف، وهو في مجاورات وتقاطعات دلالية داخلية من تجربة غاية الرابط المعادل في مماثلات الواقعة الشعرية:

في عائلتي ثمة قدّيستان

خالتي وجدتي

لكنهما عاشتا حياتين نقيضتين . / قصيدة: قديستان

تتوزع الشيفرات الشعرية في هذه المقاطع الأولى من النص، ضمن محددات إشارية، مرئية وغير مرئية محسوسة وغير محسوسة، تسمح بحفظ المكتوب النصي ونقله في الرؤية القرائية، بعيدا حيث ضديات وبدائل الحالات المتصورة على لسان حال الأنا الشاعرة: (قديستان ـ علاقة خصوص ـ مرجعية مؤولة / في عائلتي ـ العامل المتصل وأفق المرجع / خالتي وجدتي ـ محاور تنفيذ / لكنهما عاشتا حياتين نقيضتين ـ علاقة تضاد = آليات النص) لعل ما تهدف إليه الشاعرة في محمولات وحالات المقاطع الشعرية، ذلك الارتباط المقارن والتمييزي بين صورة (الجدة) وصورة (الخالة) ولكن ما ثيمة دليل وصفة القديسة في محمل موضوعة الموصوف؟ أهي مماثلة توصيفية وحسب؟ أم إنها صفة مستثمرة في مكامن مقصدية مرجعية في دلالة الخطاب الشعري:

جدتي هادئة حتى وهي تبلغ النهاية

شبيهة كانت بمن يسير في ماء ساكن

ولعلّةٍ ما، لم يقوَ على إيذائها البحر

حين سلكت خالتي الطريق ذاتها

تكسرت الأمواج فوقها وشرعتْ

بالهجوم

هكذا تستجيب الأقدار

لطبيعة روحين حقيقتين .

بهذا المنظور والمستوى من روح وحافزية الاختلاف، ما بين دال (الجدة) ودال (الخالة) نشعر بأن الذات الواصفة، تسعى إلى توظيف وتوطين مقاربة العلاقة المفارقة المطروحة في ذات الجدة والخالة، نظرا لتفاصيل أكثر تمهيدا في مضمر وتوالد حالات النص، فما معنى جملة (جدتي هادئة وهي تبلغ النهاية؟) أهناك كيفية مصيرية تربط دال الجدة إزاء مستحدثات دلالة الخالة مستقبلا؟ ثم هل أن مؤشر البحر في المقاطع الشعرية، دلالة على مقصدية المصير أو سطوة القدر مثالا؟ كما ويبقى التواصل ما بين دال الجدة والخالة قائما على هيئة وعاملية (المقصدية + المماثلة + المشابهة + التبجيل = قديستان = مرجعية مشتركة في التفارق) وقد يتضح الفارق النوعي ما بين الأنموذجين، على أساس من المخالفة والتضاد، وصولا إلى وسيلة بلوغية خاصة من دلالة الفارق والفروق ما بين (جدتي تبلغ النهاية / سلكت خالتي الطريق ذاتها / تكسرت الأمواج فوقها وشرعت بالهجوم) أن هذا التخالف التركيبي في محمل الموضوعة، ممكن له أن يمنحنا دور التخصيص والانفراد في مستوى محور الموضوعة، إذ أن هذا الرابط في محور الموضوعة يظل بمثابة المستوى في المعاينة والاستنتاج الدقيق في محفل القراءة للقصيدة قدما . أقول مجددا أن العلاقة الواقعة بين دال الجدة ودال الخالة، لربما هو حقيقة في كشف المصير الاحوالي والدلالي في حسابات رؤية الشاعر، وذلك نظرا إلى مقصدية الجمل اللاحقة من القصيدة:

جدتي حذرة، محافظةُ

و لهذا تحاشت الألم

خالتي لم تستطعْ

ففي كلّ مرّةٍ يتراجع فيها البحر يتوارى

واحدُ من أحبائها .

1ـ جدلية الموت والبحر في موضوعة الدوال:

وينبني المعنى في مكونات العلاقة القصدية المتمثلة بجدل ثنائية (الجدة .. الخالة = البحر = الموت) وهذا الارتباط النواتي في محاور النص، يقودنا نحو أسئلة الفارق والمغايرة المتصلتان في مؤشر الاستعارة المتحملة بين صورة المتكلم في النص، وفعالية بؤرة حساسية مسمى (قديستان) وبهذا المعنى يستفيض الفاعل الأول عن الآخر في مساحة أخرى من المحايثة النصية (جدتي حذرة .. محافظة، ولهذا تحاشت الألم) أن الدوال الصفاتية في ملفوظ هذه المفردات من النص، تسعى إلى حركية ما تقترب من حياة التنزه والتطهر والتدين إلى حد ما، فيما تبرز لنا فاعلية الطرف الآخر، وكأنه يمارس حياة عابثة، لكونه بعيدا عن عوامل فعل التقدس أو ما شابه ذلك (خالتي لم تستطع) ويعبر هذا المستوى من حياة دال الخالة عن حالة الشرود والتقادم نحو مساحة الانفصال عن مركزية دال قديسة، توغلا في سياق ذلك المعادل الزمني والثيماتي من التشكل النصي: (ففي كل مرة يتراجع فيها البحر .. يتوارى واحد من أحبائها) هذا المعنى من حسية المعادل النصي، تجعلنا نباشر التوقع بأن البحر ما هو إلا أداة الموت المستعارة في النص، فهو يلتقط الأحباب من ذوي القديسة ـ الخالة ـ لذا فأن بحكم كونها من تعاطى مع مألوفية الموت، تسلم حالها عادة إلى فعل التصديق والدعم لهذه المشيئة الربانية:

مع ذلك فهي لم تعتبر البحر شريراً

بالنسبة إليها: الأمر سواء

حيثما لامس (البحر) اليابسة حلّ العنف.

و من خلال ما يتحدد به المعنى الأخير من النص، تتضح لنا الأبعاد الحجاجية الرافضة قاب قوسين منها، إلى فعل وخلفية الموت، خصوصا وأن مقدمات دلالة هذه الخالة من الهشاشة والخذلان في العلاقة مع معطى القداسة في حقيقتها الروحية . لذا تراها في لحظة مزاولة فقدها لأحبابها من ذويها، تنطلق من فكرة أن الموت بمثابة حالة من الاغتصاب أو جبروت النيل المتمثل بصورة البحر، وهو يقتص من مساحة مثال تربة اليابسة: (حيثما لامس البحر اليابسة حل العنف) .

ـ التواصل الذهني بين وجود الأنا وغياهب الأحوال .

تحملنا دلالات قصيدة (منظر بدائي) للشاعرة ذاتها وللمترجم الصديق عبد الكريم كاصد أيضا، نحو وظيفة خاصة من التواصل الذهني الكامن بين (وجود الأنا) و(غياهب الاحوال) في مواطن حاضرة وغائبة من مساحة الواقع واللاواقع والزمن واللازمن واليقظة أو اللايقظة، امتدادا نحو مشخصات السؤال الوجودي:

تدوسين على أبيك، أمي قالتْ،

و بالفعل فأنا واقفةُ تماماً في منتصف

بقعةِ عشبٍ شُذّبتْ،

قد تكون هي قبر أبي،

مع أنه لا توجد شاهدةٌ تعلن ذلك . / قصيدة: منظر بدائي

الواصف الشعري في المقاطع الأولى من النص، يسهم في تأليف صورة مثقلة بأهداف زمنية ومكانية ودلالية وأحوالية أكثر تساؤلا وبحثا في موجودات الحس الصوري ما بين حال (أنا الفاعل) وبين (مفاصل الفعل) أسنادا إلى جملة المخاطب الإيهامية (تدوسين على أبيك) ثم تليها جملة اللاحق من صوت الأنا نقلا عن ضمير دال الأم (أمي قالت) توكيدا على أن الفاعل في وجوب الصوت المفترض في المخاطبة، هو عائدا إلى صوت الأم ذاته، وفي هذا الحال ما يعنيه الأمر بأن أنا الفاعل، هي متلقية لذلك لنداء المحمول في توليفة السياق الحواري . إذ تبادرنا وبصورة مباشرة صورة جملة (فأنا واقفة تماما في منتصف بقعة عشب شذبت، قد تكون هي قبر أبي) لعلنا نتوقف قليلا في تصور اللحظة العابرة، التي هي عليها حالات الموقف الشعري في القصيدة، لنقول أن الأبعاد الوصفية في محفز هذا الضرب من ضروب المخاطبة بين (الأنا / الآخر) مجرد صورة أحوالية لا أكثر، ولكننا عندما ندقق في جملة (بقعة عشب شذبت) وجملة (قد تكون هي قبر أبي) تتضح لنا دلالة تحول الموقع الصوري، لتدخلنا في جهة قيمة محتملة من موضوعة الفاعل المشار إليه . ويتم ذلك في ظل من الوسيلة الاقناعية والترابطية مع محور موجهات الفاعل المنفذ (مع أنه لا توجد شاهدة تعلن ذلك) أن الفعل التأويلي المنصوص عليه في كفاءة مرحلة أدائية هذه الجملة، يقودنا نحو (علاقة موضوعة ـ أنا الفاعل = جهة التحول) وينمو الوازع الأحوالي في مستحدثات المقاطع الأكثر إدهاشا وتأويلا، وذلك عندما يترتب قول الفاعل المنفذ في دائرة زمنية متصلة من حقيقة الاسترجاع ونقل حقيقة العلاقة نحو أصعدة خاصة من الفقدان (الأم / الأب) في الآن نفسه . فيما تتوضح لنا أنقطاعية الأواصر بين مرحلة الأنا والآخر المتمثل بصوت الأم محتملا:

أنت تدوسين على أبيك، ردّدتْ،

بصوتٍ أعلى هذه المرّة، فبدا لي ذلك

غريباً،

منذ أن ماتت هي أيضاً حتى الطبيب

أقرّ بذلك .

1 ـ جهات الفاعل المنفذ وإمكانية مفترض الحال:

قد يلوح بنا هذا الجزء المتوسط من المقاطع الشعرية المعروضة أعلاه، على عملية تحقق الوحدات الدوالية ضمن خلفية (جهات الفاعل المنفذ) في حدود معنى جملة (فبدا لي ذلك .. غريبا) وجملة (منذ أن ماتت هي أيضا) وذلك ما يعزز جملة التوكيد اللاحقة أيضا (الطبيب أقر بذلك) نفهم من وراء هذه الجمل، بأن علاقة الفاعل المنفذ في أحوال المقاطع الشعرية، ما هو إلا موقعا لاستجابة كل هذه الاعتبارات والصور المنصوصة بوسائل غياب الأوضاع الأحوالية الأخرى من عين صفات الملفوظ ذاته، كما وأن من يقدم على هذه الكفاءة في المخاطبة، هو الفاعل المنفذ في النص، كحالة كينونية جامعة لشتى الملفوظات من حقيقة واصلة الفاعل ذاته:

تنحيت ـ قليلاً ـ جانباً، حيث أنتهى

أبي، وبدأتْ أمي .

كانت المقبرة صامتةً، ريحٌ تهب عبر

الأشجار

كدتُ أسمع أصواتاً تبكي بخفوت على

مبعدةِ صفِّ قبورِ

و أبعد منها ثمة كلبٌ ينبح

أخيراً خفتتْ هذه الأصوات .

النص يتناسل عبر وحداته المشهدية، ممتدا نحو الأشارات الوصفية والاستعارية، فيما تبقى العلاقة الرابطة بين أنا الفاعل، وجهات موضوعة الأحوال المشهدية، مهتمة بتكريس حالاتها في توهجات المساحة المكانية المتخيلة والمفترضة، إقترانا بها وبذلك الكم من ميكانيزمات جملة (تنحيت ـ قليلا ـ جانبا، حيث أنتهى أبي، وبدأت أمي) أن مماثلات وظيفة الشاعرة، أدخلتنا في جهات متوارية من دلالة النص، إذ أنها تصوغ من جهة ذلك الفاعل تربة دال (أبي) ثم لاحقا يوافينا ذلك الصوت المتمثل بدال (أمي)، مؤاخما في معنى ما ذلك الحضور في عين تأويل جهات الأفعال؟ ولا ندري ما الأمر؟ أيكون مصدر الفاعل الذاتي مجرد زائر إلى المقبرة وتحديدا إلى قبر الأم وقبر الأب معا، حيث توافق اللازمن واللامكان في وحدات زمن الخطاب؟ أم أن هذا الفاعل مجرد وسيلة من قياس الزمن والمكان والوجود ذاته؟ ما معنى جملة (أصواتا تبكي بخفوت؟) وجملة (خفتت هذه الأصوات؟) ما المقصود من وراء هذه الواجهة الدوالية من التمويه والغموض؟، ربما تستفيد من جهة ما قابلية أنا الفاعل من ممكنات تكييف العلامات والأشارات الزمنية والمكانية اختزالا نحو دلالة المساءلة والقناعة الاستجابية من طرف الواصف ذاته، اقترابا منها نحو محمول السؤال الأحوالي الوحيد:

أختلط الأمر عليّ،

لا أذكر كيف وصلتُ إلى ما يبدو لي الآن

مقبرةً،

مع أنها قد تكون مقبرة في ذهني

حسب،

ربما هي كانت متنزّهاً

و إن لم تكن فهي حديقةٌ أو تعريشةٌ،

معطرةٌ، أدركتُ الآن، بعبق زهورِ ـ

عذوبةُ حياةٍ تملأ الهواء

حلاوةُ حياةٍ، مثلما يقال .

و هذا الأمر في الأوضاع المغايرة الحسية من زمن الدلالة المختلفة، تقودنا تساؤلات الفاعل نحو محتملات من وجوه الذوات المستخلصة في محكي النص؟ أو أنها قد تبدو عبارة عن إسقاطات في اللاشعور الفردي المتجسد في حادثة التضاد (قبر الأب / قبر الأم) إذ أن جهة العلاقة بمدلول تجربة أنا الفاعل، تتعزى بظروف ترابطية غريبة، إلى حد وصولها إلى محددات إيهامية من تشويش الذهن والسؤال (أختلط الأمر علي / لا أذكر كيف وصلت / يبدو لي الآن مقبرة) الأمر على ما يبدو عليه في مقاطع النص، متعلقا بحالات ذاكراتية مسترجعة من جهة عين الفاعل نفسه . وهذا الحال بذاته هو ما يجعلنا نستشف بأن معرفة الفاعل المنفذ، على مقربة ما من أحداث ومواقف مستعادة بذاكرة مضطربة أو مشوشة: (الترابط السياقي: منظر بدائي ـ قبر أبيك = ماتت هي = انتهى أبي = بدأت أمي / العلاقة المكانية: المقبرة صامتة = أسمع أصواتا تبكي / العلامة: كلب ينبح = ريح تهب / استقصاء اعتباري: لا أذكر = مقبرة في ذهني = الفاعل المنفذ) وتترابط مسلمات الحوادث التفاعلية ـ النصية، بما يوفر لنا مساحة الأهمية السيمانطيقية لأدوات الربط الزمني والمكاني والذواتي والسببي، امتدادا نحو البنية الضمنية للفاعل المنفذ: (مع أنها قد تكون مقبرة في ذهني) أن بنية المعادل الحلمية واللاشعورية في هذه الجملة المنتخبة، قد توفر علينا فرصة التعمق في وحدات النص الأولى، ارتباطا مع أبعاد شعرية الذاكرة المتصلة بعاملية الفاعل المنفذ، أي بمعنى ما، من الممكن أن تكون الذات في هذه الجمل من النص، استشرافا على تضاريس حركة استرجاعية، قد تكون بدايتها منذ زمن مخاطب صوت أمها إليها، ثم بعد ذلك تكون حركة الزمن في تنام مطرد، وصولا إلى حادثة تصادف قبرها إلى جوار قبر والدها افتراضا؟ ولكن المشكلة في الأمر، هي ما تحمله الجملة القادمة من النص، التي تخبرنا العكس مما افترضناه جدلا في هذه المساءلة:

في لحظة ما

حدث أن كنتُ وحيدةً .

أين ذهب الآخرون،

أبناء عمي وأختي، كيتلن وأبيغل؟

الآن بدأ الضوء بالشحوب

أين ترى السيارة التي كانت تنتظر

لتقلّنا إلى بيوتنا؟ .

2 ـ حلمية الفضاء ومرايا ذاكرة الحلم:

أن أهم مخصوصيات قصيدة (منظر بدائي)، هي التي تمنحنا مرايا التأويل ومفهوم المؤول في جملة كيفية وسببية مغايرة، فعلى سبيل المثال تخبرنا جملة المفترض الزمني (في لحظة ما) أي بمعنى أن هناك حدود زمنية ومكانية وأحوالية تتعلق بماهية الحدث المسترجع (حدث أن كنت وحيدة) والتفكر بها المستحدث الزماني والمكاني، يطرح أمامنا إمكانية التصور بأن الفاعل قد يبدأ الحديث الآن عن ذاته تحديدا، وبواصلة مشهدية بلاغية منزوعة عن خطية الوصلات الأولى من مقاطع القصيدة: (أين ذهب الآخرون .. أبناء عمي وأختي، كيتلن وأبيغل؟) أن حالات سؤال ومساءلة الفاعل في هذا المقطع لعلها تتوجس دلالة لفظة (الآخرون) بحسية الاستفهام والتقدير الوضعي، وكأنها تحيا في مجال آخر من عالم الواقع، أو أنها في حالة غريبة من الفقد والتفقد (الآن بدأ الضوء بالشحوب .. أين ترى السيارة التي كانت تنتظر لتقلنا إلى بيوتنا؟) المحصلة الأخيرة من ذروة المحتمل، يمكننا فهمها على أن صورة أنا الفاعل، هي من صنع الواقع المتحول في اللاوعي الحلمي لليقظة، أو أنها موجهات شعرية في غاية الابعاد النفسية في تصور الأشياء . لذا فأننا يمكننا وضع ملخصات وجودها في النص ضمن غاية خاصة من شرود الوعي واليقظة عن الفاعل نفسه، ويمكن وضعها أيضا في صورة أنتاج تخييلي للذات في الزمن اللاحاضر تماما:

لا تنسني، صرختُ به، راكضةً،

فوق العديد من القبور، الأمهات، والآباء

لاتنسيني، صرختُ به، وحين وصلت ُ إليه

أخيراً،

قال: سيدتي، مشيراً إلى السكة

مؤكٌد تعرفين أنها النهاية .

3ـ الفاعل الذاتي بين هوام الأرواح والبرزخ الشعري:

من حدود هذا الفرع البحثي، سوف نتعامل مع المقاطع الشعرية المعروضة أعلاه، على أنها وظائف في أقصى غاية الأنموذج الفقداني المتوحد إذ تتجلى لنا جملة (لا تنسني، صرخت به، راكضة لا تنسني صرخت به، وحين وصلت إليه أخيرا) وتقودنا دلالة متاهة الفاعل الذاتي، نحو اليقين بأنه من الأموات أخيرا، مجرد روح بالقرب من جسدها المدفون تحت الثرى في مشهد المقبرة العائلية، حيث تحوم الروح فوق قبور (الأمهات ..الآباء) وربما حتى على قبور أبناء العم والشقيقة لها أيضا، وحتى سائق القطار ذلك، هو بمثابة الروح المكلفة بنقل أرواح الموتى من عالم الدنيا إلى حياة البرزخ . وتبعا لهذا نعاين دلالات القصيدة وهي تتعاطى مع حديث سائق القطار أخيرا معها: (مؤكد تعرفين أنها النهاية) وعلى هذا النحو تتضافر محاور الفاعل الذاتي مع روح سائق القطار، الذي يقوم بإخبار الفاعل في النص، وذلك عندما تبادره جهة الفاعل بالسؤال الختامي من القصيدة:

ألا ترغب في الذهاب إلي البيت

لترى المدينة ثانيةً؟

قال: هذا هو بيتي.

المدينة ـ المدينة هي حيث أختفي .

و إيذانا بنهاية الحكاية الدوالية في القصيدة، تنفرد لنا العلاقة ما بين محاور الأمكنة والأرواح، في لحظات زمنية هي الأكثر مماثلة وتمويه وغموض في الأبعاد الشعرية العميقة .

ـ تعليق القراءة:

في الحقيقة أذهلتنا عوالم قصيدة (قديستان) وسرانية دلالات القصيدة الأخرى (منظر بدائي) وأعتقد أن الأخيرة هي ما تستحق بذاتها جائزة نوبل وحدها .. يمكننا تقييم عوالم الرائعة (لويز غليك) وتحديدا قصيدتها موضع بحثنا الأخير، على أنها ذلك المتخيل المحفوف بأقصى شيفرات المساحة الأبداعية التي قل نظيرها في الشعر الأوربي والأمريكي المترجم .. فعوالم تجربة هذه القصيدة (منظر بدائي) ما هي إلا مرئيات المتخيل الذي يصعب استنطاق دواله ومداليه، اللهم إلا في حدود رؤية تأويلية سيميائية بالغة الموضوعية والإجرائية الكاشفة عن ماهية بنيات الدلالات الشعرية المضمرة بين شفافية الأداة ومؤولات عوالم جوهرية القصد الشعري الرصين .

 

 حيدر عبد الرضا

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم