صحيفة المثقف

البروفيسور سهيل فرح ونظرية تحالف الحضارات (1)

محمود محمد عليمن أي مكاناً تُقارب روسيا، من إيفان الرهيب، وكاترين، والقياصرة، أم من مؤسس المسيحية الأمير القديس "فلاديمير"، أم من الراهب "راسبوتين"، من "لينين" أم "جوزيف ستالين"، من " يلتسين" أم من "بوتن" .. روسيا الكنيسة الأرثوذكسية التي عصيت علي السوفييت سبعين عاماً، وما استطاعوا دفنها، وعادت فاعلة في المجتمع والسياسة .. روسيا "بوشكين" و"تولستوي" .. أم روسيا المستشرقة، أو الشرقية، أم روسيا حوار الحضارات .

قصدت أن أستهل هذه المقدمة التمهيدية لأتحدث عن الباحث اللبناني البروفيسور "سهيل فرح " ذلك العالم والمفكر، والذي أصفه دائماً، بأنه يمثل بالنسبة لنا نحن العرب، واحداً من أبرز الوجوه الأكاديمية والفلسفية على الساحتين العربية والروسية على مدى العقود الماضية، والحاصل على وسام روسيا للصداقة الذي قلده إياه الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف عام 2011، وهو العام الذي تم فيه اختياره شخصية العام في ميدان العلوم في روسيا .

كما ساهم سهيل فرح في تدشين حقل معرفي جديد مرتبط بعلم الحضاريات. يطلع برؤية تكاملية علمية- منهجية تقدم رؤية استراتيجية جديدة للجيل الخامس من الحضارات على كوكبنا أطلقوا عليه تسمية الحضارة الإنسانية النووسفيرية، الذي يسعى ليكون بديلاً للازمات العضوية المستفحلة التي تعيشها حضارة الإنسان اليوم وعلى كل الصعد.

وسهيل فرح (مع حفظ الألقاب)، لبناني الأصل روسي الجنسية، وهو صاحب العديد من المناصب العليا في روسيا كرئيس للجامعة المفتوحة لحوار الحضارات، ولايزال، ورئيس تحرير القسم العربي لموقع روسيا العالم الإسلامي، ونائب لرئيس المعهد العالمي لبيتريم سوروكين ونيكولاي كونرانوف، وعضو مجلس رئاسة المنتدى العالمي للثقافة الروحانية “كازاخستان”، وهو أيضاً عضو أكاديمية التعليم الروسية والأستاذ في فلسفة العلوم والحضارات والأديان فى جامعتى لبنان وموسكو والمرشح لجائزة نوبل للسلام أن الثقافة تنقذ الإنسان ويمكنها أن تلعب دوراً مهما في درء كافة أنواع التعصب والتطرف بين حملة الخطابات الدينية، أو الأيديولوجية، أو الفكرية، أو الفلسفية المختلفة. وهو كذلك عضو مجلس رئاسة المنتدى العالمي الحضاري يالطا ٢ . ومنح في عام 2000 ميدالية بوشكين الدولية، وفي 2004 منح وسام الصداقة بين الشعوب. كما شغل عدداً من المناصب العليا في روسيا كرئيس للجامعة المفتوحة لحوار الحضارات، ونائباً لرئيس المعهد العالمي لبيتريم سوروكين، ونيكولاي كونرانوف، وعضو مجلس رئاسة المنتدى العالمي للثقافة الروحانية "كازاخستان". والمؤلف لعشرات الكتب العميقة.

علاوة علي أنه أيضاً مثال للعالِم المتواضع، وهذه خصال حميدة جسدها في شخصه، وفي سلوكه، وفي كل حياته، فجاء كتابه ناطقاً بما في ذاته، كاشفاً عما في قلبه. وقد أفاض "سهيل فرح" إلى جانب ذلك كله، حباً ومودة، صدقاً وصداقة، شجاعة ومسؤولية في معالجة شؤون الوطن والأمة، لا بل شؤون العالَم الصديق وثقافات وشعوب هذا العالم، وأخصها الشعوب الروسية وحضارتها.. وكان ذلك بوحي من المعاني الخالدة والملهمة في قِيَم الأديان كلها وفي الثقافات الإنسانية جمعاء.

وُلد الدكتور سهيل فرح عام 1951. وبدأ مسيرته العلمية العليا من موسكو، فحاز درجة الماجستير في الإخراج التلفزيوني عام 1979، ثم ناقش رسالة دكتوراه في فلسفة التاريخ في الجامعة نفسها عام 1984 وحصل على درجة دكتوراه علوم من جامعة نيجني –نوفغورود عام 2001 .

درس الفلسفة في جامعة وهران ويدرسها في الجامعات اللبنانية منذ عام 1992م، وهو أستاذاً زائرا في جامعتي " موسكو الحكومية، وجامعة نيجني نوفغورود، وعضواً في أكاديمية التعليم الروسية، ورئيساً للجامعة المفتوحة لحوار الحضارات، وكذلك مستشاراً علمياً لجمعيات ثقافية في روسيا، وألمانيا، وقزخستان، والجزائر.

ساهم "سهيل فرح" بأكثر من مائة وخمسين بحثاً، وفي تنظيم سبعة وعشرين مؤتمراً علمياً، ودولياً، وهو عضو الفريق العربي للحوار الإسلامي – المسيحي، والفريق الاستراتيجي لمنظمة روسيا والعالم الإسلامي،ورئيس الهيئة الإدارية للبيت اللبناني الروسي .

وقد صدر له أكثر من ثلاث وعشرين كتاباً، ترجم منها إلى العربية والروسية والانجليزية، تركز معظمها على موضوعات فلسفة العلوم وقضايا حوار وشراكة الحضارات والأديان والثقافات المتنوعة، والحضارات والأديان؛ حيث تلاقي أعماله صدى واسعاً في العالم العربي وروسيا على حد سواء.

ومن أهم كتبه "الحضارة الروسية.. المعنى والمصير" الذي يحاكي الحضارة الروسية بكل ما تحمله من تاريخ عريق ومن جغرافيا واسعة، وكتاب "حوار وشراكة الحضارات" الذي تم على أساسه وأساس غيره ترشيحه لجائزة نوبل للسلام، فيما ارتبط نشاطه منذ دراسته في جامعة موسكو في مطلع السبعينيات بموضوع حوار الحضارات وقضايا العولمة والمسألة الثقافية في الفكر الفلسفي العربي المعاصر.

وقد حصل الباحث اللبناني، عضو أكاديمية التعليم الروسية البروفيسور، سهيل فرح، على جائزة يفغيني بريماكوف لهذا العام عن كتابه: الحضارة الروسية - المعنى والمصير. وكان لكتاب فرح حول الحضارة الروسية، والصادر عن الدار العربية للعلوم (ناشرون) في بيروت، والحضارة التي يتحدث عنها الدكتور سهيل فرح في هذا الكتاب هي الحضارة الرّوسيّة، ذات الخصوصية في نشأتها وتطورها. يشرع بإلقاء نظرة بانورامية سوسيوثقافية وأنثروبولوجية، تتوخى معرفة جبروت المكان على حراك الروسي في عالم دنياه، وفي توقه الأزلي للروحانيات.

ولما كان "سهيل فرح" يتعامل مع الأفكار كنمط من الوجود الحي؛ فهو ينفتح في عمله، على كل الصعد والمجالات، فنراه يقيِّمُ منظومة القيم، التي حملها الروس في تاريخهم. كما يحاول دراسة التجارب والفتوحات، التي قامت بها الأجيال الرّوسيّة، في المجال الأوراسي. يسلِّطُ الضوء على الإرث الثقافي والعلمي والروحي؛ مما تركته الشعوب الرّوسيّة عبر التاريخ في نقاط انتصاراتها وتعثراتها. يركز على دراسة الإرث الذي تمثَّل ويتمثَّل في وعي الروس لقوانين التطور في الطبيعة والمجتمع، (العلم)، وفي الفهم الوجداني والسلوكي لأنماط التفكير والسلوكيات (الثقافة)، كما يسلط الضوء على حصيلة القواعد النفسية، والمثل والمحفزات (السلوكية النفسية، الإيديولوجية، الدين) ويرصد طرق نقل التراث الثقافي وأشكاله من جيل إلى آخر (القيم والتعليم). كما يهتم بالبحث عن نقاط القوة والضعف في الجيوبوليتك الرّوسي. كما يتناول عوالم الاقتصاد والثقافة في تاريخ روسيا المعاصر. ويختتم الكتاب برؤية مستقبلية تستشرف الحضور الروسي، في أوراسيا الكبرى وكذا في العالم.

وقد كان "سهيل فرح " عميق الأثر على لجنة التحكيم المكونة من أرفع الشخصيات المرموقة من بلدان الشرق والغرب، ليحصل على جائزة هذا العام لدوره الملحوظ في التقارب بين ثقافات وأديان الشعوب، كما جاء في نص الشهادة الممنوحة له. وقد اختير سهيل فرح عام 2001 كشخصية العام في ميدان العلوم، حيث قلده الرئيس الروسي آنذاك، دميتري مدفيديف كما قلنا، وسام بوشكين للصداقة بين الشعوب.

يذكر أن جائزة بريماكوف الدولية تأسست عام 2016، تخليدا لذكرى الدبلوماسي ووزير الخارجية ورئيس الوزراء الروسي الأسبق، يفغيني بريماكوف (1929-2015). وتخصص الجائزة لدعم الطاقات المبدعة المشاركة على نحو فعال في تعميق حوار السلام والتعاون بين الحضارات. فقال، عن الجديد في حقل المعرفة الذي تم ترشيحه على أساسه: "يرتكز على مجموعة من المبادئ الأساسية. من الناحية المنهجية، إن رؤيتنا للحضارة رؤية تكاملية علمية تأخذ بعين الاعتبار المقاربة الفلسفية للحضارة، المقاربة التاريخية، المقاربة السوسيوثقافية والجيوبوليتيك، والمطلة أيضاً على علم المستقبليات كوننا ندرس الحضارة الكوكبية - الإنسانية ككل".

وأشار "سهيل فرح "إلى أنه يرتكز مع زملائه في الأكاديمية على "نهج معرفي، ملخصه أن الحضارة على هذا الكوكب مرت بأربعة أجيال من الحضارات، وكل جيل يعيش حركة دورانية حضارية معينة. علما بأن المرحلة التي تعيشها الحضارة الإنسانية المعاصرة تمر بمجموعة من الأزمات لعل أهمها الأزمة الإيكولوجية بمعنى مشكلة الإنسان مع الماء، الهواء، البيئة عموماً، فعندما بدأ العقل العلموي يقتحم عالم الطبيعة غاب التناغم بين الإنسان وأمه الطبيعة".

وقال: "لمكونات كل ظاهرة في الوجود بما في ذلك السياسية، أو العلمية، أو الدينية؛ هناك طاقتان، الأولى بناءة والثانية مدمرة. في الطاقة العلمية، لا يوجد تقدم بدون عقل علمي. وإذا غابت القيم الأخلاقية عن العلم، يصبح مدمراً، ويدخل في المنطقة المظلمة، والمدمرة في الشخصية الإنسانية.

وأضاف: "نحن نشهد نهاية جيل رابع لدورة حضارية كوكبية، وما نراه اليوم أمامنا يشير إلى أن الكوكب في مأزق، لا بل مآزق عضوية في كل المجالات، وتجسيداتها ليست ظاهرة للعيان فقط في لبنان أو الشرق الأوسط. الحضارة الإنسانية كلها تعيش أزمة ايكولوجية، أزمة ديموغرافية؛ إذ يوجد انفجار سكاني في المواقع الفقيرة، ونمو سكاني في المناطق الغنية، والعرق الأبيض على عتبة أن ينقرض نظراً لوجود مشاكل في مناطقهم لأسباب عديدة منها ندرة وجود الأسرة، لا يوجد ولادات، تشريع الزواج المثلي، ناهيك عن الأزمات المستعصية في مجالات المال، الاقتصاد، الاجتماع والطاقة، وكذلك هناك أزمة قيم إنسانية كبيرة جداً".

وأعلن " سهيل فرح " "أن نظريتنا، التي تم ترشيحنا على أساسها لجائزة نوبل للسلام، من قبل علماء روس وأيضاً من قبل أكاديميين فرنسيين، وألمان، وأميركيين، تشير إلى أننا ندشن حقلاً علمياً معرفياً جديداً بعلم الحضارات، يدعو إلى حضارة من نوع جديد، حضارة النووسفيرا، تسود فيها حكمة العقل العلمي والعدالة، وتمثل القيم الإنسانية والسماوية المشتركة... وقد تصل البشرية إلى ذلك بعد الخروج من مآزقها العضوية الحالية إلى حالة بديلة، ستظهر بداية معالمها بدءً من بداية خمسينات هذا القرن".

وقال: "لقد علمتنا فلسفة التاريخ بأن الحلول تولد من بطن الأزمات والمشاكل، مثلما يأتي السلام بعد الحروب، لذلك نحن نعمل على تفعيل حراك الشراكة بين الحضارات والأديان والمعارف المتنوعة، نظرا لوجود صراعات هائلة بينهم. ونسعى لفضح دائم للعقيدة الداروينية- الاجتماعية المسيطرة على عقل من بيده القوة والمال والسلطة والمعرفة في الغرب والشرق معاً... كما أننا نبين محدودية لا بل مخاطر كل عقيدة توتاليتارية بما فيها، لا بل، حصراً العقيدة الدوغماتية الدينية التي تعتقد بأنها تملك الحقيقة المطلقة، فكيف ذلك ونحن نعيش في عالم متنور مفتوحة عقوله على بعضها البعض".

وتساءل "سهيل فرح": "إلى متى سيبقى الصراع بين الأديان، بين الإسلام والغرب؛ وعموماً بين الشرق والغرب، وهل سيبقى الصراع شاملاً بين منظومة القيم الليبرالية، ومنظومة القيم العلمانية من جهة والدينية من جهة أخرى، وهل سنبقى أسرى العقلية الداروينية التي تقول بأن الأقوى هو من يملي شروطه على الآخر أم علينا الانتقال إلى مرحلة انفتاحيه عقلانية أرقى بالعلاقات الإنسانية؟.

وشدد على "ضرورة تجديد الفكر الديني عن طريق إدخال الطاقة الإيجابية التصورية للعلم على الدين وإبعاد حضور ما يسمى بالمقدسات في وعي المؤمنين وإبعاد الدين عن الحروب"، وقال: "نحن نحاول أن نقول بأن هذه الكرة الأرضية حبلى بالأزمات، وما نراه هو أن الحروب تزيد المشاكل الإيكولوجية والأزمة الديموغرافية والهجرة من الشمال الى الجنوب. في كل الحالات نعيش اليوم زمن الانهيارات الاكسيولوجية، فالاستبداد بالشعوب الشرقية يتزايد، ومنظومة القيم الغربية تترهل، ومنظومة القيم الدينية تشيخ".

وأعلن "أننا مع النظرية التي تقول بوجود 12 "بلوك" حضارياً على هذا الكوكب، وكل بلوك عليه ان يفعل وينشط الطاقات الاكثر حكمة ووعياً ورؤية مستقبلية واستراتيجية بعيدة البصيرة والمدى في دواخل وعيه وسلوكه من أجل تجديد الطاقة الثقافية والروحية والاقتصادية لكل شعوب هذا الكوكب. .. وللحديث بقية..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل - جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم