صحيفة المثقف

السماوة.. فصل آخر لصداقات الأمكنة (3)

جمال العتابيبين الخضر والسماوة عتبٌ قديم!!

يتناقل أبناء السماوة بأسف وحزن، أحداثاً دامية راح ضحيتها عاملان نقابيان (عاشور وفشلان)، حين تعالى الرصاص في أجواء المدينة الساكنة الوديعة، والمصوب نحو المحتفلين في الذكرى الأولى لقيام الجمهورية عام 1959، إذ تصدت الشرطة المحلية لمسيرة حاشدة بالمناسبة، سبقتها أجواء متوترة مشحونة ضد أجهزة الامن التي إعتقلت أحد قياديي النقابات في السماوة، ذرف اهل المدينة الدموع على شواطيء الفرات في أول حادث تشهده المدينة من هذا النوع، انها ذكرى تنطوي على مغزى أليم للصراع والتناحر بين القوى السياسية (المراهقة)، في خضم المعترك المتلاطم والتجاذبات الحادة بينها، وضياع الحلول للخروج من مأزق الأزمة التي صنعتها تلك القوى، بتدخل أطراف عربية وأجنبية، قادت إلى نتائج كارثية، ومثلما يرسم الجنرالات أحلامهم في الأزمات، يرسمون لنا وطناً للخراب، فقادوا البلاد إلى حتفها.

لم تتحمل مدينة كالسماوة هذا التشظي، لأنها متفردة بالجمال والتسامح والإنسجام، وأهلها ينشدون الحب، لكن التناحر ما عاد مقتصراً على المشتغلين في السياسة، إنما إمتد إلى فضاءات أخرى، بين طرفي الغربي والشرقي يبدو أكثر حدة في مناسبة إحياء أيام عاشوراء، لكل من الطرفين موكبه الخاص، الغربي بإدارة وإشراف حسون الدفاعي، يحدو بجموعه فاضل الرادود، بصوته الساحر، يأخذهم إلى عالم مسكون بالفجيعة والدموع، وموكب الشرقي الذي يشرف عليه جماعة الوطني الديمقراطي، المؤثر تاريخياً في المدينة، حتى المقاهي، فهي مصنفة حزبياً، وروادها تابعون لحزب واحد، لايجوز لغيرهم ان يشرب قدح شاي فيها، وخلاف ذلك يعني الإشتباك بالكراسي وفي أحسن الأحوال بالأيادي.

يتسابق موكبا الغربي والشرقي على تفجير مكنونات الحزن الكوني المستمر في نشيد بكائي ناعي لإرث السماء بأدق المشاعر، لم يكن (الرواديد والقراء) بحاجة إلى كاميرات، ومؤثرات موسيقية، فقد إختصروا دور المخر ج والمنتج وكاتب السيناريو، فهم يمتلكون مؤهلات كل هؤلاء بقدرات إستثنائية، ينتقلون من الشعر إلى السرد، ومن لحظة الدعاء والإبتهال إلى التمرد والإحتجاج، من مشهد التأمل إلى لحظة المواجهة الحاسمة، بإمكانات فائقة على الإيحاء، وبصورة معبّرة بكثافة عن أدق المشاعر ساعة الإحتدام.

نواح أزلي، تضوع منه رائحة العراق الطاعن في الأحزان، يتحول إلى مطالب سياسية، وشتم الحكام، واحياناً يصير مطلباً خدمياً ملحاً:

في إحدى المناسبات الأربعينية، إشتكى موكب أهل الخضر عند مرقد الإمام الحسين في كربلاء بنداء واحد وملتاع (يحسين إجيناك انريد إلنه (لنا) جسر، جسر السماوة تدفعه للخضر)، من حقهم الشكوى، فالناحية جنوب السماوة، مازالت تعتمد العبّارة في التنقل بين ضفتيها،، بينما تتمتع السماوة بجسرين عامرين يغار عليهما ابناء المدينة أثناء التجوال مساءً، لم يطلبوا جسراً من المسيب، ولا من الناصرية، إنما المطلوب تحديداً جسر السماوة لاغيره.

بعد عقود من الزمن، مازلت أسمع أصداء طبول مسير السبايا على ضفاف الفرات، تحت أضواء المشاعل، وخفقات البيارق الملونة، يتكرر ذلك عبر مقاطع تنصت فيها لصراخ رضيع إخترق السيف جسده، وصليل رماح، وأستشعر حرارة دم نازف عن كف مقطوع، أو صوت خنجر يغرز في ظهر طفل.

هي ذي السماوة، تلتف على نخيلها، وبها صرخة محبوسة، تستورد التمر من دول الجوار، لا نسمع غير آهاتها.

 

جمال العتابي

 24شباط 2021

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم