صحيفة المثقف

البروفيسور سهيل فرح ونظرية تحالف الحضارات (2)

محمود محمد عليعندما يتناول المرء المجال الجيوسياسي لحضارة ما، عادة ما يربطها بالعوامل الكبرى الفاعلة بصيرورة الأحداث ومصيرها، وبالتكوينات التاريخية المستقرة للأحداث وبالتحولات في المنظومات والعلاقات الدولية، وبالمفاهيم النظرية والتطبيقية التي تساعد علي فك ألغاز التاريخ، وعلي إدراك العوامل التي أدت إلي تحقيق بعض الأهداف الاستراتيجية، وإدراك طابع الحروب العسكرية والاقتصادية والنفسية . ولكون المهمة المطروحة في هذه المقالة تسعي إلي الكشف عن نظرية تحالف الحضارات من وجهة نظر سهيل فرح، فقد سئل الرجل عن ذلك فقال: " والحوار باعتقادي، هو قيمة مطلقة بذاته، وهو اليوم أصبح مكسباً من مكتسبات الثقافة، والحياة السياسية السليمة والشفافة.. غير أن البعض ممن كان يرفضه بالأمس، أصبح يقدمه اليوم على أنه "الحل المثالي" لأي خلاف، أو اختلاف، أو نزاع. وبعد عقود وعقود على سيادة "الافكار الثورية" والتي كانت تعتبر الحوار مساومة وتسوية وتنازلاً، وبعد مرحلة تمجيد سلطة الحزب الواحد (ضمير الامة) والزعيم الأوحد (القائد الملهم وسبب وجود الامة)، إذا بنا ننعطف 180 درجة فيصبح الحوار مضغة تلوكها الأفواه ومشجباً تعلق عليه كل المزايا. فما العمل لتنقية الحوار من شوائبه وتطهيره من دواخله وليكون فعلاً أداة الشعوب للتفاهم والتعايش؟

ولم يكتف "سهيل فرح" بذلك بل يقول:" يقوم الحوار بين مختلفين متعددين. فإما أن نؤمن بالحوار، وهذا يستبطن اعترافا بالتعدد والاختلاف، وإما أن نزعم بأننا متطابقون، فلا تكون لنا حاجة بالحوار. ولكم زعم الكثيرون منا في الماضي أنهم يريدون قولبة البشر في قالب واحد، وكم حاولوا إكراه الناس على معتقد واحد.. إلا أن حقائق الحياة هزمتهم وأولها حقيقة الاختلاف بين البشر. فالاختلاف (أو التعدد والتنوع) ليس حالة شاذة، بل هو قاعدة تكوينية شاملة،ومتحققة بداهة، في أي اجتماع إنساني، أكان على مستوى محلي أو وطني أو إقليمي أو عالمي. لذلك فإن السعي إلى إلغائه، بدعوى التوحد والمطابقة، هو سعي عقيم ينم عن سوء فهم وسوء تقدير، هذا في أحسن الأحوال. والتعايش مع الاختلاف أو التعدد ضمن الوحدة يفرض اعتماد "مشتركات" (تفاهمات استراتيجية أو توافقات وطنية) لا تنهض بدونها حياة اجتماعية أو يقوم مجتمع دولي .

عمل سهيل فرح ورفاقه الروس في حوار الحضارات والثقافات بين روسيا والاسلام إذ هي تفلح وتحرث في حقل من الألغام ومن الحدود الدامية بين الطرفين.. إن المشكلة في حد ذاتها لا تنشأ من وجود الاختلاف، ولا من وجود أنظمة لمصالح مختلفة، فهذا شأن طبيعي بين البشر، بل تنشأ من العجز عن إقامة نظام مصالح مشترك، أو من تخريب هذا النظام إن كان موجوداً.. على الحوار أن يبدأ إذن،  من الاعتراف بالآخر كما هو، شريكاً مختلفاً، ومن احترام هذا الاختلاف وفهم أسبابه، واعتباره حافزاً على التكامل لا داعياً إلى الافتراق. وعليه فإن الحوار لا يدعو الآخر إلى مغادرة موقعه الطبيعي والتخلي عن تطلباته المشروعة، ولا يسعى إلى استيعابه، كما لا يسعى الى التماهي معه. إن الجهد الحواري ينصب على اكتشاف المساحة المشتركة، وبلورتها، والانطلاق منها مجدداً ومعاً في النظر إلى الأمور، ما يسمح بتحصيل خلاصات جديدة ينبني عليها تفاهم أكثر عمقاً ومواقف أكثر ايجابية.

والحوار بهذا المعنى في نظر "سهيل فرح" يتجاوز خطة "التقارب والتقريب"، أو سياسة "التحالف والاستيعاب"، ليدخل في مشروع "التضامن" مع شريك كامل الاعتبار والندية، من خلال اعتبار المشتركات شأناً أساسياً لكل طرف تتحقق بها مصالحه . فالتضامن (وهو صيغة عزيزة على إخواننا من أصحاب التجربة الروسية) ليس انضواء خلف طرف أو مركز (كما أيام الكومنترن)،وليس إرتباطاً بسلطة عليا آمرة (كما في الحاكمية الإلهية وولاية الفقيه)، وإنما هو تظهير وتجسيد للمشتركات وللخلافات في آن معاً، فنعمل على تنفيذ وتطوير المشتركات التي تسمح بنمونا المشترك، ويعذر بعضنا بعضاً في ما لا نتفق عليه، من دون أن يتحول الاختلاف إلى عداوة ( ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم- قرآن كريم). والحوار الحقيقي يتطلب من المحاور شجاعة في المراجعة ومساءلة الذات، إذ هو في معناه الأعمق قدرة على رؤية الذات من موقع الآخر، وقدرة على فهم الآخر بملاحظة اعتباراته ومعاييره الخاصة.

إن النجاح في بلورة المشترك، مع القدرة على التزامه في نظر "سهيل فرح"، هو عينه النجاح في إقامة "التسوية" على أساس من الوعي والقناعة... وما التسوية إلا عقد ينطوي على أخذ وعطاء وتنازلات متبادلة بالضرورة.. فالعقد الاجتماعي الذي يقوم عليه السلم الأهلي في المجتمعات إنما هو في الجوهر تسويات كبرى مركبة تتطلب عناية مستمرة وحسن تدبير من قبل أصحابها مثلما تتطلب إبداعاً في تجديدها بموازاة مستجدات الحياة. والتوافقات الكبرى أو التفاهمات الاستراتيجية على المستوى العالمي هي من النوع الذي يقيم تضامناً حوارياً بين ثقافات وشعوب مختلفة..

ولم يكتف سهيل فرح بل يؤكد بإن الحوار بحاجة إلى فكر يحترم الفروق والتنوّع إلى الحقائق المجتمعية الوطنية والدولية ماهيات مركّبة ذات وجوه وأبعاد كثيرة، لا جواهر بسيطة مطلقة ذات بعد واحد.. الحوار فكر يجيد التبادل والتأليف انطلاقا من توسّط مشرِّف، من غير أن يجنح إلى دمجية كلانية تلغي المسافات والتخوم، أو يقع في تفريعية انقسامية عصبية تقطع العلائق وتعدم التواصل.

إن مجمل المفاهيم المتصلة بالحوار في نظر "سهيل فرح" تحملنا على الاعتقاد بأنه نهج حياة وأسلوب عيش ليس مجرد وسيلة تنتفي الحاجة إليها عند تحقيق غرض معين لذلك هو دائم متجدد يستجيب لبداهة الحياة وضرورات التواصل والإجتماع. وهو إلى ذلك موقف في غاية الإقدام والشجاعة ولا سيما أثناء صعود الغرائز والعصبيات لأنه يتجنب الهروب إلى الأمام بالتطرف أو الهروب إلى الوراء بالسلبية والانسحاب التطهري.

وفي نظر "سهيل فرح" لا ينجو مفهوم الحوار في بلادنا من تحريفات متنوعة تنأى به عن غايته الحقيقية فيغدو أحياناً شكلاً من أشكال النزاع البارد حين يعتبره البعض مناقشة ومجادلة (استقصاء في محاسبة الآخر ومخاصمته) أو مساجلة (مباراة ومفاخرة وسعياً إلى الغلبة)؛ كما يغدو أحيانا أخرى آلية قاصرة عقيمة حين يعتبره البعض تبادلاً لوجهات النظر بديبلوماسية ماكرة أو هدنة بين وقتين للنزاع أو إنه أفضل المتاح مؤقتاً من بين خيارات كلها سيئة.. وفي مختلف الأحوال فإن انتفاخ الذات يحول دون التواصل والتبادل أي إلى الحوار الحقيقي.

إن الحوار كما يقول "سهيل فرح" بحث دائم عن المشترك بانفتاح وتواضع على أساس فكرة التسوية واستناداً الى قيم التوسط والاعتدال.. أما بدائل الحوار فتعني عملياً الاستمرار في الخصام، وتحّين الفرصة للإنقضاض على الآخر مع ما يرافق ذلك من إضعاف لمقومات اي مجتمع ومن إهدار لما راكمته الحياة المدنية والعيش المشترك والتراث الإنساني العالمي.. وهذا كله يتجاوز في أثره الحاضر والراهن ليمثل اعتداء على مقومات المستقبل. إن هدف الحوار هو الافساح في المجال أمام البشر للتعرف والتعارف المتبادل كمقدمة للفهم والتفاهم المتبادل (...)، ولا يمكن للحوار أن يبنى على غير معايير الحقيقة والحرية والعدالة المقبولة دينياً وأخلاقياً لدى كل الشعوب والحضارات.

وثمة نقطة مهمة يشير إليها سهيل فرح وهي "أنه بدل فكرة الصراع والصدام والحروب الثقافية، هناك ميل لدي فئات ليست قليلة في هذا الكوكب للحوار المتكافئ واللقاء . فالقيم والمفاهيم والمبادئ والرؤي يمكن أن تنتشر داخل الثقافة الواحدة بسلام، كما أنها يمكن أن تتفاعل مع الثقافات الأخرى بالروحية نفسها . المطلوب في البداية هو تحرير الثقافات المحلية والعالمية من خطر اللاثقافة الممثل بالاستسلام للغريزة والمخدرات، والعنف، والجنس الرخيص، والإنبهار الأحمق بكل قيم الثقافة المادية الإستهلاكية . فالإنسانية، وكما يشير عن حق المفكر الروسي، إيغور بستوجوف –لادا، تحقق ذاتها من خلال إقصاء خطر اللاثقافة.

ويستطرد سهيل فرح فيقول: قبل أن يفتش الإنسان عن تفادي الصدام مع الآخر عليه أن:" يبحث في نفسه عن السبب الذي أدي إلي عدم إيجاد لغة من الحوار الهادئ، واللقاء الدافئ مع الآخر . علينا أن نحرر أنفسنا من خطر الإنغلاق، والتطرف، والتعصب، وأن تكون علاقتنا مع أنفسنا نقدية . فكلما كان الإنسان منفتحاً مع الآخر، كلما كانت قدرته علي الحوار أقوي . وهذا ينعكس أيضاً علي العلاقة بين المجتمعات والحضارات. والعلاقة بين الثقافات ليست بالضرورة علاقة دائمة ترتكز علي النزاع والصدام والتناقض . داخل كل حضارة قوية أو ضعيفة، وبين كل جماعة دينية أو إثنية وبين جيران الأحياء وداخل الأسر، وفي داخل كل واحد منا المنفتح والمنغلق، المتسامح والمتعصب، الديمقراطي والمستبد،المحب والمبغض، المسالم والدموي، والكل مدعوون إعلاء الجوانب الإيجابية في ذواتهم وذات الآخرين.. فرغم أن الصراع والحروب يحتلان مساحة مهمة في العلاقة بين الأنا والآخر، فإن هناك أيضاً مساحات أخري من التفاعل والتواصل الخلاق بين الثقافات ينبغي العمل علي تطويرها.

وأخيراُ وعلي كل حال لسنا نستطيع في مقال كهذا، أن نزعم بأننا قادرون علي تقديم رؤية ضافية شاملة ومستوعبة لكل نظرية حوار الحضارات من وجهة نظر العالم المبدع سهيل فرح، وحسبنا هذه الإطلالة السريعة الموجزة علي نظرية حوار الثقافات والحضارات لمفكر مبدع، ونموذج متفرد لعالم مثل سهيل فرح، ذلك الرجل العظيم الذي نذر حياته بطوله وعرضه لخدمة الثقافة العربية، وأثري حياتنا الفكرية بكل ما قدمت من جهود.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل - جامعة أسيوط

..............

1- فرح، سهيل: لقاء الثقافات أم تصادمها، شؤون الأوسط، مركز الدراسات الاستراتيجية، العدد 104، 2001.

2- فرح، سهيل: الجيوبوليتيك الروسي ملامح القوة والضعف،، شؤون الأوسط، مركز الدراسات الاستراتيجية، العدد 112،2003.

3- فرح، سهيل: المفكر العربي بين سلتطه و تسلطه، مجلة الفكر العربي المعاصر، مركز الإنماء القومي، العدد 127،126، 2003.

4- فرح، سهيل: العولمة الثقافية ومصير الحضارات مقاربة أمريكية روسية، شؤون الأوسط، مركز الدراسات الاستراتيجية، العدد 113، 2004.

5- فرح، سهيل: الدين والسياسة في روسيا: ( الكنيسة الأرثوذكسية والسلطة مثالاً )، شؤون الأوسط، مركز الدراسات الاستراتيجية، العدد 118، 2005.

6- فرح، سهيل: نقد النقد والتواصل مع الذات والآخر، الفكر العربي، معهد الإنماء العربي، مج، 20، ع، 96، 1999.

7- فرح، سهيل: الاستشراق الروسي: نشأته ومراحله التاريخية، معهد الإنماء العربي، مج،5، ع31،1983.

8- فرح، سهيل: حول التراث العربي الإسلامي: وجهة نظر فلسفية للاستشراق السوفياتي، مجلة الفكر العربي المعاصر، معهد الإنماء العربي، مج22، 20، 1982.

9- فرح، سهيل: الجيوبوليتيك الروسي ملامح القوة والضعف، شؤون الشرق الأوسط، مركز الدراسات الاستراتيجية، ع 112، 2003.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم