صحيفة المثقف

حسرة الظل تجارب في الشعرية.. القراءة الأولى

توفيق الشيخ حسينحسرة الظل (تجارب في الشعرية النادرة والبساطة الجميلة) للشاعر والروائي والناقد " محمد الأسعد " الصادرة من دار خطوط وظلال للنشر والتوزيع، جمعت في هذا الكتاب بين ثلاث قراءات تتقاطع أضواؤها أو تسقط منفردة، على تجارب شعرية تحمل صفتين (الشعرية النادرة والبساطة الجميلة)، تقرأ الأولى تجربة الشاعر العراقي محمود البريكان، صاحب أسطورة الشاعر الساعي الى تحرير نفسه من كل ً قوة خارجية، سواء كانت سلطة حكومية أو رأيا ً عاما ً والباحث عن سلامه في ظل سلطة ضميره الخاص، وعنايته بكمال الإنسان والكون كله، محدقا ً بالأزمنة، ومعانقا ً الحياة بلا خوف ولا رياء، ممتلكا ً شجاعة الوقوف وحيدا ً في هذه المواجهة، وتقرأ في الثانية تجربة الشاعر الياباني " ماتسوباشو " مكتشف الجمال في الطبيعة والحياة، وصانع قصيدة الهايكو كما عرفتها الأزمنة الحديثة، تلك القصيدة التي اجتذبت أفضل المواهب الشعرية في مختلف اللغات، بما فيها العربية، تقرأ في الثالثة تجارب ثلاثة شعراء من فلسطين وسورية ولبنان (توفيق صايغ، ومحمد الماغوط، وأنسي الحاج) جمعتهم دائرة شعرية واحدة في منتصف القرن العشرين، امتازوا بمنح اللغة وظيفة غير معتادة، خارج كونها مجرد لغة تواصل يومي، لغة لا تختفي منها وظيفة التواصل، ولكن تتبدل الرسالة المرسلة بتبدل محتوى الرسالة وأداتها .

يؤكد " الأسعد " أن محمود البريكان (2002 – 1931) بعزلته وأبتعاده عن الوسط الأدبي، وانشغاله بقضايا ومصائر يؤمن أنه لا يستطيع مواجهتها إلا وحيدا ً ولم يترك لنقاده سوى القصيدة، وذاكرة أغنى مما يمكن أن نجد في ثقافة الاستعراضات والغناء المربح، لإنها ذاكرة الغريب والمغترب في وسط لم يتعرف على نفسه بعد، بل ويأبى أن يتعرف على نفسه وفق شروط تمليها حياة الشاعر البعيدة عن الاضواء، وقناعاته التي حولته الى نص مجهول، كان شاعرا ً ومثقفا ً من طراز رفيع، كان مثل طائر لا يألف القفص، وراهبا ً من رهبان الحرية، كتب لها أجمل قصائده وظل ممجدا ً لها حتى أيامه الأخيرة .

يتساءل " الأسعد ": هل كان البريكان نصا ً مجهولا ً؟ بهذه النزعة الى الإنعزال والتوحد والإبتعاد عن الأضواء، وهي أكثر الوقائع وضوحا ً في شهادات مجايليه واصدقائه القليلين، فلماذا كان على الشاعر أن يؤمن أنه لابد من الوحدة لمواجهة العالم؟ ولماذا هذا الإيمان بأن على الشاعر أن يكون متفردا ً في هذه المواجهة؟ ولماذا المواجهة أصلا ً؟

ينتمي الشاعر البريكان عائليا ً الى أسرة نجدية تسكن بلدة  الزبير (تبعد عن البصرة حوالي 20  كيلو متر جنوبا ً)، ونتيجة للنمط السكاني المتميز لبلدة الزبير خلق تركيبة نفسية (فكرا ً ووجدانا ً) تميزت بالإنعزال عن المحيط العراقي الذي عاش في خضمه وعن الوضعية الثقافية وتجربته وردود فعله في سياق الإتصال بالآخرين والمستويات الفكرية التي تطلع عليها ولم تكن مما يتوفر حوله، وان هذه العزلة الروحية تهيأت أسبابها وكوامنها قبل إطلالة الشاعر على أفق الثقافة العالمية  التي ستزوده بالوسائل والمبررات لتوطيد تجربته ووجوده في فضاء آخر .

في بغداد الأربعينات كانت تتدافع موجات التجديد وتمتزج الموجات بما كانت تحمله الى الوسط الثقافي المجلات والكتب القاهرية والبيروتية حاملة النبأ الجديد: ثورة الشعر الحديث، فكيف يمكن أن ينعزل أفراد أو فرد من بلدة نائية مثل الزبير في وقت غلبت فيه هذه الموجات مجتمعا ً وشاركت في نسج علاقاته وأفكاره وتطلعاته ونمطت توجهاته الثقافية والإجتماعية .

من هنا يسأل " الأسعد ": أين سنجد صورة البريكان؟ .

هل نجدها في ذاكرة من تحدثوا عنه بوصفه أهم شاعر عراقي (السياب) أو بوصفه الأكثر تطرفا ً في التجديد (طهمازي) أو بوصفه معلما ً (سعدي يوسف) أم في تعليقاته المنقولة عنه على لسان غيره مما أقترب منه فجاءت تعابير منقوصة أختلط فيها قصد الشاعر بمستوى فهم الناقل وقدرته على الاستيعاب؟، إننا لن نجده في شيء من هذا، بل في ما اختاره أن يكون صورته، في مقالاته القليلة التي ظهرت في فترات متباعدة وفي قصائده القليلة المنشورة، وهذا هو الأساس الذي أراد لنا الشاعر أن نبني عليه صورته، وهو ما راهن عليه بقوة مبعثها إيمانه الفريد بقيم عزيزة المنال في محيطه الذي عاش فيه .

كانت قضية الحرية أهم القضايا التي أنشغل بها الشاعر محمود البريكان ونالت الجزء الأكبر من اهتمامه، لكن الشعور بالحرية عند " الأسعد " عبء يثقل على الإنسان ويصاحبه الشعور بالألم والعذاب والعزلة، ومصدر هذا الشعور الفاجع هو محاولة الإنسان تنمية شخصيته بصرف النظر عن حياة النوع الإنساني، إنه في موقف طابعه الثنائية، فحريته تستوجب شعورا ً بالعزلة والتجرد من ضغط الوجود المتشيء، وهي تفسير التاريخ من جانب آخر بوصفه جزءا ً من مصيرها الشخصي، ولا يدرك الإنسان شخصيته واصالته وتفرده وتميزه عن كل شخص وعن كل شيء الا حين يكون وحيدا ً .

وحيدا ً أنتمي، حرا ً، الى فكرة

أرادت نحتها الموتى (ولم تنحت على صخرة)

إلى صوت النبؤات البدائي

إلى الثورات قبل تجمد الرؤيا

إلى الحب السماوي الذي ترفضه الدنيا

إلى البرق الذي يكشف وجه الدهر في لحظة

ولكن أي نوع من الفن؟ إنه المأساوي، لانه وحده يمتلك هذه البصيرة الثاقبة، منحوتات الأيطالي (جيلكومتي) التي كانت تسترعي اهتمام البريكان أو تجريدات (هنري مور)، والأساطير والشعائر والتناغمات الموسيقية، ليست مجرد أدوات تقنية، بل هي رؤى للكون منبعها حرية روحية تعلو بالإنسان فوق العرضي والمتعاقب والمحدود والموضوعي، وتصله بمنبع أصيل أشد خفاءا ً، بشيء هو أقرب الى اللغز منه الى المقولة المنطقية أو المعادلة الرياضية .

واذا نظرنا الى التلميحات القليلة التي تحدث فيها البريكان عن طريق بناء القصيدة لديه، يكتشف " الأسعد " أن تعددية الأصوات والمشاهد والأزمنة ومحاولة تكوين تناغم ضمن شكل دال، سمات أساسية في وعيه الشعري، انه مؤمن بداية بأن الصيغ لا يمكن عزلها عن طوابع التجربة، وتشمل هذه الصيغ الظواهر التعبيرية التي هي ليست مجرد مهارات، لأن عزلها عن سائر العناصر يفقدها خواصها الدالة .يقول البريكان انه مال منذ أواخر الأربعينات وفي قصائد كثيرة الى استعمال صيغ الأزمنة بأشكال خاصة في السياقات المتغيرة، ويضرب مثلا ً على ذلك باستخدام صيغة الماضي على نحو يضفي صفة أسطورية على الحدث (قصيدة خرافة روح /1948  وغيرها)، والميل باطنيا ً " لا شعوريا ً " الى السياق المتغير مداخلة الأزمنة أو المراوحة بينها (كما في مطولة أعماق المدينة / 1953) بل وجرب أيضا ً بصورة استثنائية الجمل الساكنة، أي الخالية من الفعل لتجسيم لحظة روحية (كما في قصيدة ساكنة / 1969) .

يكشف " الأسعد " بإنه اذا أضفنا الى هذه المراوحة بين الأمكنة، أو المجاورة المقصودة بين أحداث متباعدة زمنيا ً ومكانيا ً وتسريدها سردا ً يوحي بتزامنها وتحاورها أو يحققه بالآحرى، وأن كل هذه الخصائص الفنية إنما هي ترجمة لخصائص موسيقية (السمفونية منها بخاصة) حيث تتزامن الأصوات وتتحاور عدة الآت مختلفة مثلما تتحاور المشاهد الطبيعية والأحداث الإنسانية، وينبعث تيار متدفق واحد هو في الأصل نتاج وصول دقائق صوتية (أو بصرية في حالة الشعر) الى أقصى حالات التناغم، فتتحول الى تيار واحد، أو الى إيقاع لا نهائي يشبه أن يكون حلما ً أبديا ً حسب تعبيره، ولئن كانت قاعدة هذه الخبرات والإدراكات في الموسيقى هي تعددية الالات، فأن قاعدتها العملية في الشعر هي تعددية اللقطات وتجاورها عن وعي مسبق بهدف إيجاد تصميم للقصيدة ذي دلالة معينة يحتوي مستويات من الأزمنة والأمكنة في قبضة واحدة .

يتابع " الأسعد " بإن مصادر الشاعر البريكان تبدو غامضة للوهلة الأولى، وغريبة من نوعها، لأنها تظهر في قصائده ضمن تصميم خاص عماده أن الشاعر فنان يتصرف في زوايا الالتقاط ويتحرك على مختلف المستويات، ويخترق الأزمنة كما يقول (.. وحيث تبني النمل من تراب / مملكة التوازن الأعمى) الواردة في قصيدة (قصة التمثال من آشور / 1969)، الا حين قرأ " الأسعد " لمحة (جلبرت هايت) عن النمال الدوؤبة التي تمضي في نهجها الرتيب من حفظ النوع وتخليده كما كانت تفعل يوم كانت الديناصورات  العملاقة تسيطرعلى الأرض

يقول " الأسعد " ربما كانت قصيدة (القوة والأغلال) آخر أغنية أنتصار يكتبها البريكان، وآخر قصيدة يشعر القارىء معها بنشوة الشاعر أمام رؤيا فجر جديد، ونشرت القصيدة في صحيفة دمشقية في العام 1958، ويلاحظ " الأسعد " تماثلا ً بين هذه القصيدة الطويلة نسبيا ً وبين مطولات السياب الشهيرة مثل (حفار القبور، والمومس العمياء، والأسلحة والأطفال) في أسلوب تدوير التدفق الإيقاعي وفواصل المعنى، فكلا الشاعرين لا ينهي تدفق المعنى بشكل يتوافق مع نهاية الوقفة الوزنية، بل يتخطاها الى السطر الثاني، ويتوقف في أوله أو منتصفه، ثم يبدأ دورة تدفق جديدة، وقد فسر " الأسعد " هذا التماثل وأخذ بالأقرب الى الذهن، وهو أن البريكان أستمد هذه التقانة من السياب، لكن شقيق الشاعر محمود البريكان  (عبدالله البريكان) فاجأ " الأسعد " حين قال أن الأمر عكس ما ظن، فهذا النسق الأسلوبي في التدوير الذي تميزت به قصائد السياب ومطولاته بخاصة، هو في الأساس من مبتكرات الشاعر محمود البريكان في أواخر الأربعينات، وكان قد ظهر في مطولته (أعماق المدينة) ثم (المجاعة الصامتة) قبل أن يظهر في قصائد السياب بسنوات وذكر (عبدالله البريكان) شقيق الشاعر محمود البريكان بأن أخيه محمود حدثه عن واقعة أعتراف السياب بأنه حين كتب (حفار القبور) كان يحتذي في الحقيقة بالقصيدة (البريكانية) .

يؤكد " الأسعد " أن مطولات البريكان وقصيدة (القوة والأغلال) قد تكون آخرها إن لم يظهر دليل معاكس، حملت الى مناخ الحداثة الشعرية العربية هذا النسق العروضي الذي احتفظ بتنويع القوافي وتفاوت أطوال السطور، كما جرت عليه القصيدة الحرة، إلا أنه أدخل ميزة التدوير التي تحررت فيها موسيقى صور الأفكار من موسيقى الوقفة العروضية، الى أن يجىء الزمن الذي تعتمد فيه القصيدة على موسيقى صور الأفكار وحدها، ولا تطرح عنها القوافي فحسب، بل والإيقاع العروضي التفعيلي وتبتكر إيقاعات حرة تماما ً من أي قيد سوى ما تتطلبه القصيدة من داخلها، أي قصيدة النثر أو القصيدة الإيقاعية  .

أصغوا الى أصدقائي ! وهو قد يكون

أي امرىء يسير في الطريق

في وسط الزحام

وقد يكون بيننا الآن، وقد يكون

في الغرفة الآخرى يمط حلمه العتيق ْ

 

أن قصيدة (أسطورة السائر في نومه) المنشورة عام 1959، أي في ذروة إحساس جمهرة من الشعراء والمثقفين واسعة بأن حلمهم الثوري قد تجسد على الأرض، فهذا النموذج الإنساني الخاضع الذي يمارس حياته ممارسة آلية، مفتقرا ً للإرادة الحرة والذاكرة والروح سيكون أكثر واقعية من النماذج الوهمية التي اختلقتها عقول لم تر من الواقع إلا سطحه الظاهر وشعاراته وأبواقه ومهرجاناته وتبريراته المألوفة، وسيرى البريكان في هذا السائر في نومه ملامحنا جميعا ً، قدّم البريكان بهذا المنحى لأول مرة في شعر الحداثة العربية امثولة الشاعر الذي يخترق ادعاءات العصر وإعلاناته ومزاعمه إلى حقيقة أعمق تتجاوز شباكه ومساوماته .

يكاد المتلقي لقصيدة (قصة التمثال من آشور) أن يقبض على معنى منذ السطور الأولى، إلا أنه سرعان ما يضطر الى تأجيل المعنى أمام مشاهد تتوالى، ليس أمام عين بشرية بل أمام عين لا بشرية (قصة يرويها تمثال) وكأن الطبيعة والأزمان والأحداث التي يتحدث عنها التمثال تتوالى من كون ٍ خال ٍ من وجود البشر، وحتى حين تظهر ملامح أفعال بشرية أو مواقف، نجدها تندمج في تيار أحداث أشمل منها تحتويها وتأخذها في تيارها، فلا شيء يمتاز على شيء أمام عين خالدة خلود الحجر ذاته .

يخرج لنا " الأسعد " من هذا بحكمة ما، أو فكرة، ولكن ما يستولي على المتلقي هو شعور شامل بغياب (الإنسان) في عالم لا زال يعتقد أنه مصنوع من أمله، أو هو من صنعه، إن التساؤلات الإنسانية المضمرة التي ربما تتردد حين يحاول المتلقي تكييف عالمه الشخصي مع عالم هذه القصيدة، لا يجيب عليها سوى الخواء  خواء (محاجر بيضاء مفتوحة لعالم النجوم)، هل نحن أمام الغامض الملتبس سر الوجود؟

هذا التصميم المتفرد الذي تقوم عليه هذه القصيدة النموذجية (العالم بتاريخه الإنساني والطبيعي منظورا ً اليه بعين تمثال حجري) يكشف عن أن هناك هذا الغموض أو هذا السر، أي ما يبقي بعد كل هذا التوالي العابث للأحداث الطبيعية والإنسانية التي لم تتميز عن أحداث الطبيعة، وهذه العناصر كلها تقريبا ً تواصل حركتها العمياء لا فرق في ذلك بين رياح وصقور وأمواج وبشر ونمال، وها هي الأفعال تسيطر ولكن الهدف غامض:

ينحسر البحر ولا تبقى سوى الاصداف ْ

في باطن الأرض، تهب الريح بعد الريح

تعيد توزيع الرمال الحمر، والغربان

حطت هنا، واندمجت في دورة الأفق ْ

قوادم الصقور

رفت على العنق

واحترقت على ذرى الكثبان

عجائز الذئاب

توسدت جسمي

هاربة الى مكان ما

قوافل ُ اللصوص

تفيأت جنبي، حيث تترك الفصوص

اثارها، وحيث تبني النمل ُ من تراب

مملكة التوازن الاعمى

هذه القصيدة النموذجية (قصة التمثال من آشور) تكاد تختصر فن البريكان وجوهره، تصميم القصيدة وفق منحى خاص يستهدف كشف الغرابة أو تحويل المألوف الى لا مألوف، ويتم ذلك بالتحول: تحويل الحاضر الى ماضي (عالمنا حكاية)، أو تحويل الشاهد الى موجود خالد (التمثال)، أو الى كائن خيالي يحضر في كل العصور (حارس الفنار) يحيط بالأزمان كلها دفعة واحدة ويصغي الى حوارها، أو تحويل الشاعر الى عين لا زمنية تنظر من موقع يعلو على الزمان والمكان، ويمكننا أن نطلق على هذا المنحى الخاص تسمية منحى التحولات، بكل ما تحمله هذه التحولات من نزعة الى تحويل حكاية الإنساني الى ما يشبه الأسطورة  أي الى إدراك التاريخ وتجاوزه الى ماهو أبدي .

يرى " الأسعد " أن قصائد البريكان تبدو أنضج وكأنها تتخطى الزمن، أو كأنها تجيء من الزمن دائما ً ولا تتقدم الينا من الماضي أبدا ً، إنها تحفل بعنصر أبدي لا يستنفذ بمرور الزمن، إنها متحررة من الآراء العامة والقوالب، سواء كانت دينية أو علمية، وحيدة في عزلة تشبه عزلة ضوء نجم بعيد أحيانا ً، أو تشبه ضوءا ً داخليا ً يتعرف فيه المتلقي على شيء في داخله منسي ومهمل طمرته العادة والتكرار والانشغالات الزائلة، نجد الشاعر يستخدم أكثر الأمور حيوية في القصيدة، يعني التدوير في أبسط معانيه انتظام الكلمات في مجموعات تتسق مع إيقاع وتدفق قوة الرؤيا العضوية التي تشد عناصر القصيدة، وبالتدوير تتوالى القصيدة على شكل سطور كما تتوالى السطور اللحنية في القطعة الموسيقية، هنا تنبني السطور، ولكن لا يتقرر هذا البناء عشوائيا ً، كأن يقرر الشاعر إنهاء سطر هنا أو هناك  ثم ينتقل الى السطر التالي، ما يحدد مكان التدوير (التوقف أو التدفق) هو إلادراك الجمالي وهو يشكل مجموعات الكلمات، أي ضرورات التعبير انطلاقا من كينونته وعبر الضرورة الداخلية لتعبيره عن ذاته، إدراك الشاعر هو الذي يسيطر على كيفية تشكيل السطور، أحيانا ً يتدفق الإيقاع متشكلا في سطر واحد بوصفه عنصرا ً واحدا ً كاملا ً لا يمتد الى السطر الثاني، فيفرض على القصيدة توازنا ً، وقد يحدث تغيير في تدفق الإيقاع خللا ً في القصيدة أحيانا ً، يخل ّ بتناغمها النفسي حين لا تتوافق مواضع التشديد والتأكيد مع تموج نغمة الشعور، ومعنى هذا أن التدوير لا يقع لأسباب آلية مثل الحفاظ على عدد التفاعيل، فيفرض هذا نهاية الإيقاع، أو لإيراد قافية تنسجم مع القوافي السابقة مما يستدعي إنهاء التدفق مع نهايات القوافي، بل يقع لأسباب أعنق تظهر من مادة القصيدة نفسها .

هنا يتبدى طابع التجربة البريكانية خارجا ً على التظاهر اللفظي وقريبا ً من تجسيد حي لما يسميه نزوع الإنسان، أقصى حالات الوحدة بين عناصر اللغة والرؤيا، قوتها العضوية تنبع من داخلها لا من شيء خارجي، كأن يكون ضرورات إيقاعية أو البرهان على قضية، أو تمثيل مناسبة أو حدث، ولا يمكن وصف هذه الحالة إلا بصفة الحدس والإدراك الشامل، حالة تكتمل فيها القصيدة من داخلها وفي داخلها.

الأستنتاج:

في شعرالبريكان ظواهر مضمونية، ظاهرة الإغتراب وظاهرة الغموض، وتنحصر ظاهرة الإغتراب في تجربة الشاعر بثلاثة أركان هي:

1- البعد الحسي: وفيها يكون الصراع مع القوى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية

2- البعد القيمي: وينتج الصراع من بحث الإنسان عن المثال المفقود .

3- البعد الميتافيزيقي: ويتجلى الصراع في هذا البعد حين يدير الإنسان ظهره للواقع ويتجه الى عالم ألما وراء في محاولة منه لإدراك حقيقة وجوده وموقعه الكوني منه .

ويمكننا تقسيم ظاهرة الإغتراب في شعر البريكان الى ثلاثة أقسام هي:

أولا ً- الإغتراب الروحي: وهو قمة من قمم هذا النوع من الإغتراب، لأن تركيز الشاعر على فكرة الإنتظار إذ يتطلع نصه دائما ً الى ما هو منشود، أو سيأتي، لذا فإن لحظة الحاضر فيه تبحث عن المستقبل، وكأن الحاضر مرهون بحلول المنتظر.

ثانيا ً- الإغتراب الفكري: وهو الحالة التي تكشف لنا عن وجود نوع من الحساسية عند الشخص المبدع، تجعله يفترق عن المجتمع، ولا يسير في تياره، وكلما زاد حجم أصالته، زاد افتراقه .

ثالثا ً- الإغتراب النفسي: وهو ما يعني افتقاد الشعور بالذات وبالعفوية الفردية والتباعد عن وضع المرء الفعلي، وطبيعته الجوهرية .

الشاعر محمود البريكان هو أبن الزبير، هو أبن العراق والبصرة، هو سر ّ البصرة الغامض وطلسمها الأكبر، وفاة الشاعر جاء في حدث عرضي عجيب  (الموت على يد لص سارق طعنه بالسكين حتى لفظ أنفاسه الأخيرة في داره) بتاريخ 28 / 2 / 2002  ودفن في مقبرة الحسن البصري في مسقط رأسه مدينة الزبير بالقرب من قبر بدر شاكر السياب التي دفن فيها أيضا ً .

 

توفيق الشيخ حسين

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم