صحيفة المثقف

بين البلاغة والنفع!!

يسري عبد الغنيوليس الشيخ الزاهد / عمرو بن عبيد وحده هو الذي يربط بين البلاغة والنفع، وأن طريق ذلك هو حب الله وفيض نعمائه، بل إن أحد مؤسسي البلاغة العربية وهو المعلمة الخالدة، والموسوعة الشاملة شيخنا / أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، والذي ذكر في كتابه الشهير (البيان والتبيين ) مجموعة من التعريفات لوفير من العلماء حاولوا أن يعرفوا بها معنى أو مفهوم البلاغة، نذكر منها ما نقله الجاحظ: " وأحسن الكلام ما كان قليله يغنيك عن كثيره، ومعناه في ظاهر لفظه، وكأن الله عز وجل قد ألبسه من الجلالة، وغشاه من نور الحكمة على حسب نية صاحبه، وتقوى قائله، فإذا كان المعنى شريفاً، واللفظ بليغاً، وكان صحيح الطبع بعيداً عن الاستكراه، و منزهاً عن الاختلال، ومصوناً عن التكلف، صنع في القلوب صنع الغيث في التربة الكريمة " .

فأحسن الكلام، والمثال العالي في البلاغة عند الجاحظ ما كان الله عز وجل قد ألبسه من روح الجلالة، وغشاه من نور الحكمة، وكلما كانت روح القائل تقية، نقية، سمحة، طاهرة، شريفة، قريبة من الله تعالى خالقها الأعظم، وكان المعنى هادفاً مفهوماً، نفع الله الناس بهذا الكلام، وجعله يحيي موات القلوب، ويثبت فيها الخير العميم، ويصنع بها صنع الغيث في التربة الكريمة .

حقاً وصدقاً، إن الكلمة أمانة ومسئولية، الكلمة لها دورها في التوعية والإرشاد والتوجيه بالإضافة إلى جمالها الفني الذي يسمو بالنفوس ويرتقي بها مهذباً لغرائز البشر، باعداً إياها عن كل خبيث لا يليق بها، لقد كان شيوخنا (رحمهم الله) عندما ينوون الكتابة، يقومون للوضوء، ثم يصلون ركعتين لله تعالى حتى يمكنهم من أن يكتبوا ما ينفع الناس ويفيدهم في دنياهم وأخراهم، وبالتالي يحقق رضا الله عنهم .

بشر بن المعتمر و إحراز المنفعة:

وفي نفس السياق الذي نحن بصدده، يقول بشر بن المعتمر في صحيفته المشهورة، والتي تعد أول وثيقة بلاغية / نقدية في تراثنا العربي الإسلامي، يقول بشر: " وإنما مدار الشرف على الصواب، وإحراز المنفعة "

لقد اعتبر بشر بن المعتمر المنفعة هدفاً أساسياً من أهداف الكلام البليغ الجميل، كما اعتبرها أهل الفكر هدفاً من أهداف الجمال .

ابن وهب والتام من الكلام:

ويؤكد على ذات الغرض وبنفس الوضوح الناقد والبلاغي / ابن وهب (أبو الحسن إسحاق بن إبراهيم بن سليمان الكاتب)، صاحب كتاب (البرهان في وجوه البيان) حيث يقول: "وأما التام من الكلام، ما اجتمعت فيه فضائل هذه الأقسام، فكان بليغاً صحيحاً، وجزلاً فصيحاً، وكان جيداً صوابا، وحسناً حقاً، ونافعاً صدقا "

ونحب أن نشير هنا إلى أن كتاب (البرهان في وجوه البيان) لابن وهب، كان في نسبته إلى صاحبه شك، هل هو لقدامة بن جعفر، أم لغيره ؟، ولكن بعد الدرس والفحص والتمحيص ثبت للكافة أن هذا الكتاب لابن وهب .

ومن المعروف أن أستاذنا الدكتور / طه حسين ذهب إلى أن كتاب البرهان منسوباً إلى قدامة بن جعفر، ولكن تأكد بما يقطع أي مجال للشك أن هذا الكتاب لابن وهب، وقد قام أستاذنا المرحوم الدكتور / حفني شرف بنشر هذا الكتاب، وبمراجعته على أصول، وتحقيقه التحقيق العلمي السليم المفيد، وعليه فقد أصبح إعادة الكلام في هذه المسألة غير ذي بال، فكل الأدلة والحجج والبراهين والوثائق أكدت لنا جميعاً أن كتاب البرهان، صاحبه ابن وهب .

وبهذه المناسبة فإن أستاذنا الدكتور المرحوم / شوقي ضيف يرجح أن مؤلف كتاب: البرهان في وجوه البيان (ابن وهب)، كان يعيش في أوائل القرن الرابع الهجري، أي كان معاصراً لقدامة بن جعفر صاحب كتاب: نقد الشعر، وأكد ذلك بنقل مؤلف البرهان عن ابن التستري من أنه كان مما يحفلون بالسجع والتقعر في المنطق، واستعمال الغريب من الألفاظ، والتستري هذا هو / سعيد بن إبراهيم التستري، ويقال أنه كان نصرانياً قريب العهد، ومن صنائع بني الفرات هو وأبوه .

ويؤكد ذلك أستاذنا الدكتور المرحوم / عبد الحميد العبادي حيث يوضح لنا أن دولة بني الفرات ازدهرت فيما بين عامي 290 هـ ـ 327 هـ، وبهذا يثبت أن مؤلف البرهان عاش في ذلك الوقت .

كما يرجح الدكتور المرحوم / شوقي ضيف بأن مؤلف كتاب البرهان تأثر بالمنطق الأرسطي والفلسفة اليونانية في براهينه وتقاسيمه، ضارباً لذلك عدة أمثلة .

 

بقلم: د. يسري عبد الغني

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم