صحيفة المثقف

دانيليفسكي وقضية الأوهام الأيديولوجية واليقظة السياسية الروسية (4)

ميثم الجنابيلقد جعل دانيليفسكي من المواجهة الباطنية مع الغرب (الأوربي) التي لا مفر منها ميدان وأسلوب تحويل أوهام التيار السلافي والقومي الروسي إلى أحلام اليقظة السياسية من خلال تفسير علاقة الوطني بالعالمي، والكشف عن طبيعة الخلاف الجوهري بين النمط الأوربي والروسي، والكشف عما اسماه بالأوربة أو "وباء التقليد الأوربي"، بوصفه مرض الحياة الروسية، ومن ثم البرهنة على أن النمط التاريخي الثقافي الأوربي لا يتسم بطابع عالمي، وأخيرا، إن النمط  التاريخي الثقافي الأوربي عرضة للتحلل والفساد، وبالتالي انتهاء دوره الريادي على النطاق العالمي. ومن ثم لا قيمة له بالنسبة للبديل الروسي السلافي.

ففي معرض تحليله لعلاقة الوطني أو القومي بالعالمي أو بالإنساني العام، انطلق دانيليفسكي، من أن ما يميز العبقرية العالمية هو تمتعها بقوة الروح والتحرر من قيود القومية والعمل من أجل الإنسانية ككل. غير أن ذلك لا يمكنه الحدوث خارج إطار الواقع الوطني أو القومي وضمن مسار التطور الذاتي للأنماط الثقافية. فالتطور الحضاري بحد ذاته غير ممكن دون مروره وانتقاله من العشوائية والحدود الوطنية إلى العالمية. من هنا كانت جدارة بطرس الأكبر، كما يقول دانيليفسكي، في إخراج روسيا من الحدود الوطنية وإدخالها في مجال الحرية الإنسانية، أو على الأقل انه دفعها بهذا الاتجاه. وترتب على ذلك صعود الفكرة الأوربية وأهميتها بل جوهريتها بالنسبة للوعي الروسي الآخذ بالبطرسية الخالصة. وقد تطورت هذه العقيدة وبلغت ذروتها في ثلاثينات وأربعينات القرن التاسع عشر من جانب أتباع النزعة الأوربية والغرب. وقد كان ذلك نتيجة شبه محتومة بسبب كون أغلب المتعلمين والمثقفين الروس آنذاك ينتمون لهذا التيار. وفي مجال الفكر النظري والفلسفي والسياسي كانت مصادرهم كل من الفلسفة الألمانية والاشتراكية الفرنسية. الأمر الذي أفقد هذا التيار الغربي للنزعة الوطنية والقومية، أو أنهما تحولا إلى كيانات ضعيفة وتابعة. ولم يجد دانيليفسكي غرابة في هذه النتيجة والواقع بالنسبة لأولئك الذين حصلوا على تعليمهم من مصادر أوربية فقط. بحيث اعتبروا أن كل ما انتجته الثقافة الأوربية (الجرمانية الرومية اللاتينية) يقف على النقيض من النزعة الوطنية الروسية. بل واعتبروا هذه النزعة ضيقة في كل شيئ وموقف. بحيث دفعهم هذا التقليد وجعلهم يخلطون بين ما هو أوربي وعالمي. بمعنى إنهم ألبسوا كل ما هو أوربي طابعا وغلافا عالميا. بينما كانت الثقافة الألمانية والفرنسية والإنجليزية وغيرها من الثقافات الأوربية قومية محض وضيقة أيضا. في حين أن معنى العالمية هو ما يتجاوز القومية الضيقة. ومع أن هذه الحقيقة جلية للعقل السليم والمنطق، إلا أن ذلك لم يمنعهم من مطابقة الأوربية مع العالمية1 .

لقد سعت الثقافة الأوربية القومية والقارية العامة إلى مطابقة كل ما تنتجه على انه عالمي بالضرورة. ولم تشذ، كما يقول دانيليفسكي، من هذا الموقف والأحكام حتى الاشتراكية في مساعيها لإيجاد أشكال مشتركة من الحياة الاجتماعية قادرة على إسعاد البشرية دون أن تأخذ بنظر الاعتبار التمايز في الزمان والمكان والحالة القومية. وضمن هذا السياق والاتجاه والمعنى والأسلوب ظهر المفهوم الأوربي للعالمية.

لكننا حالما نأخذ بتحليل التاريخ الأوربي، كما يقول دانيليفسكي، لمختلف أقوامه وشعوبه فإننا سوف نقف أمام توسيع مفرط لتجاربها الذاتية وإضفاء صفة العالمية عليها. فمفهوم العالمية أوسع من مفهوم القومية. بينما كل ما في الأوربية وشعوبها هو دعوة نفسية وقومية خالصة. فالتمايز بين القومي والعالمي كان وما يزال كما هو. بل حتى مفهوم العالمية هنا هو أقرب (بالمعنى الأوربي) إلى الفكرة القومية أو حتى القبلية. فمن حيث الجوهر، كما يعتقد دانيليفسكي، لا وجود لما يسمى بالعالمية. إذ لا توجد حضارة عالمية واحدة ولا يمكن أن توجد. لأنه أمر مستحيل. بمعنى انه لا يمكن أن توجد حضارة إنسانية كاملة يمكنها ضمّ الجميع إليها. إن هذه الحضارة الإنسانية الكاملة لا وجود لها لأنها مثالية وغير قابلة للتحقيق. لكنه مع ذلك يفسح المجال أمام الإقرار بهذا العنوان العام المجرد من خلال مفهوم الحضارة المثالية القابلة للتحقيق عبر التطور المتسق أو المشترك لجميع الأنماط التاريخية الثقافية.

إلا أن إشكالية القومي والعالمي تظل موجودة على الدوام في ما يخص المسار الطبيعي للأنماط التاريخية الثقافية. وذلك لأن الحضارة لا تنتقل من شعوب ذات نمط ثقافي معين إلى شعوب أخرى. وإذا كان هذا الشعب أو ذاك لأسباب خارجية أو داخلية غير قادر على تطوير حضارة متميزة وخاصة به فلا خيار أمامه سوى التحلل والتحول إلى مادة إثنوغرافية. وحددت هذه الرؤية ونسقها المنطقي الحكم التاريخي الثقافي تجاه علاقة النمط السلافي الثقافي الممكن مع نفسه ومع الأنماط الثقافية الأخرى (الأوربية بشكل خاص). لهذا اعتبر دانيليفسكي السلافية الرديف المعنوي للأوربية، والشعوب السلافية رديفا للشعوب الأوربية. وكتب بهذا الصدد يقول، بأن السلافية هي مصطلح يماثل معنى الهيلبنية واللاتينية والأوربية. وهي نفس النمط التاريخي الثقافي. وبالتالي، فإن معنى روسيا والجمهورية التشيكية وصربيا وبلغاريا بالنسبة لمفهوم السلافية ينبغي أن يكون رديفا لمعنى فرنسا وإنجلترا وألمانيا وإسبانيا بالنسبة أوروبا. من هنا يمكن فهم رفعه لشعار الفكرة السلافية القائل، بأنه ينبغي أن تكون فكرة السلافية بالنسبة لجميع السلافيين من روس وتشيك وصرب وكرواتيين وسلوفينين وسلوفاكيين والبلغار بعد الله والكنيسة، أعلى من أية فكرة أخرى. بمعنى احتلالها الدرجة الثالثة في هرم المرجعية الكبرى (الله والكنيسة والسلافية) أو أحد أضلاع المثلث الضروري للنمط التاريخي الثقافي السلافي. من هنا رفعه فكرة السلافية بوصفها مرجعية جوهرية إلى مصاف ما فوق العلم والحرية والتنوير وأي شيئ أرضي آخر، وذلك لأن أياً من هذه القيم والمفاهيم لا يمكن تحقيقه دون سلاف مستقلين بالمعنى الروحي والشعبي والسياسي.

أما السؤال المتعلق بماهية الحضارة السلافية الجديدة وما هي مبادئها مقارنة بالحضارة الأوروبية، فقد اجاب عليه دانيليفسكي كما يلي: لكل حضارة مسارها الخاص. وكل منها يطور نمط ثقافي معين مميز له. وبالتالي لا معنى لتكرار ما قام كل منها وأنجزه. وهي فكرة توحي بتضمنها على فكرة الإبداع الجديد والمتجدد، التي نعثر على نموذجها أو نماذجها الأكثر رقيا في الثقافة الإسلامية حول ما دعته بفضائل الأمم في الإبداع. وهي فكرة أكثر دقة مما عند دانيليفسكي. إلا أن مأثرته هنا تقوم في بلورته إياها ضمن سياق تأسيس الهوية السلافية في مواجهة الهيمنة الأوربية الحديثة ونمطها الثقافي اللاتيني الجرماني.

وانطلق في تأسيس فكرته وموقفه هذا من أن تطور العلم الإيجابي، بوصفه احد أهم نتاج الحضارة الجرمانية الرومية، هو تمثيل خاص لهذا النمط التاريخي الثقافي الأوروبي، تماما كما كان الفن وفكرة الجمال هي الثمرة الأساسية للحضارة اليونانية، بينما كان القانون والتنظيم السياسي للدولة ثمرة الحضارة الرومية. لذلك من غير المعقول إطلاقاً أن يجري تطوير هذه الجوانب (أو استنساخها) من جانب النمط الثقافي السلافي. فالتقدم والتطور هو نتاج أسباب داخلية تجعل الأمم الجديدة ذات الذهنية الخاصة الظهور بصورة مختلفة ومتميزة في المجال التاريخي، بمعنى تكوين نمطها الثقافي الخاص. لكن ذلك لا يعني أن النمط الجديد من الحضارة لا يمكنه النجاح في الحقول التي اجتازها الآخرين أو ممن سبقه وزامنه. ومع ذلك لا ينبغي أن يكون هذا النوع من النشاط مهمته الرئيسية. إذ لكل دولة بعض فروع المعرفة، كما هو الحال بالنسبة لكل شيء آخر. وكما أن قدرات الشعوب مختلفة كما هو الحال بالنسبة للأفراد، لهذا يوجد أفراد مستعدون لعلم الرياضيات وآخرون لعلم الطبيعة وقسم ثالث لعلم اللغات وغيرهم لعلم التاريخ والعلوم الاجتماعية وهكذا دواليك. وعندما نتأمل إبداع الشعوب الداخلة ضمن النمط الثقافي الأوربي الحديث، فإننا نرى تباين شعوبها في الإبداع العلمي. فمن حيث القدرة على الرياضيات النظرية والتطبيقية، بحتل الفرنسيون المكانة الأولى. إذ بينهم نعثر على أكبر عدد من الرياضيين الكبار مقارنة بالدول الأوروبية الأخرى مجتمعة. ولعل شخصيات مثل باسكال وديكارت وكلارو ودالامبرت ومونجي ولابلاس وغيرهم مثالا على ذلك. بينما طورت ألمانيا في نشاطها العلمي صيغة أخرى. إنها قدمت كوكبة من علماء الرياضيات الكبار غير ان عددهم لا يتجاوز ثلاثة أو أربعة اشخاص وهم كل من لايبنتس وأويلر وغاوس. لكن ألمانيا مهيمنة أكثر في علم اللغة أو الفلسفة المقارنّة التي لا تستطيع فرنسا مقابلتها بهذا الصدد. وإن هذه الأسبقية التي لدى الألمان في هذا المجال لا يمكن تفسيره بأسباب عرضية.

كل ذلك أوصل دانيليفسكي إلى استنتاج دقيق يقول بوجود ثلاثة أسباب تدفع العلم، إلى جانب أسباب أخرى، بما يتوافق مع ختم القومية. وهذه الأسباب هي أولا كل من التفاضل من جانب مختلف الشعوب في مجال المعرفة وفروعها المختلفة؛ وثانيا تمايز الأقوام والأمم في قدراتها ونظراتها عن غيرها بحيث يجعلها تنظر إلى الواقع من وجهة نظرها الخاصة؛ وأخيرا إن امتزاج بعض الخصائص بين الشعوب والأقوام ليست عملية عشوائية. وفي حصيلتها تشكل ما نسميه بالشخصية الوطنية.

فقد فضل اليونانيون، علبى سبيل المثال، الطريقة الهندسية، بينما الهنود بسبب خيالهم الخصب جعلهم يختلفون عن اهل اليونان بما في ذلك في الهندسة والرياضيات (مع انهما من أدق العلوم). إن خيال الهنود يجمع أغرب الصور الرائعة، ولكنه في الوقت نفسه أكثر غموضا. فاليونان يتميزون بالدقة واليقين الذي يوافق خيالهم. بينما لا نلاحظ ذلك عند الهنود في إبداعهم الفني ولا في البنية الميتافيزيقية للفلسفة الهندية، التي تتميز باستنتاجات جدلية جريئة بعيدة المدى. ويمكن التدليل على ذلك بنموذج آخر هو النموذج الإنجليزي. فالصراع والتنافس يشكلان أساس الشخصية القومية الإنجليزية. ووجد ذلك انعكاسه في إبداع ثلاثة شخصيات كبرى وضعوا ثلاثة تعاليم أو ثلاث نظريات في مجالات المعرفة المختلفة، وكلها مبنية على هذه الخاصية الأساسية للشخصية القومية الإنجليزية. ففي منتصف القرن السابع عشر، وضع الإنجليزي هوبز نظرية سياسية عن ظهور وتطور المجتمعات البشرية استنادا إلى فكرة حرب الكل ضد الكل أو حرب الجميع ضد الجميع. وفي نهاية القرن الثامن عشر، ابتدع آدم سميث نظرية اقتصادية مبنية على التنافس الحر بين كل من المنتجين والمستهلكين، ونظرية النضال والتنافس المستمر، التي تؤدي إلى الوئام الاقتصادي. وأخيراً وضع الإنجليزي داروين نظرية الصراع من أجل الوجود في مجال علم وظائف الأعضاء، والتي يجب أن تشرح أصل الأنواع الحيوانية والنباتية وتنتج الوئام البيولوجي. ولهذه النظريات الثلاث مصير مختلف. فنظرية هوبز منسية تماما. بينما نمت نظرية سميث إلى علم كامل للاقتصاد السياسي، مما جعل محتواه أكثر أهمية. بينما انتشرت نظرية داروين على نطاق واسع.

لقد أراد دانيليفسكي القول، بأن جميع هذه النظريات تشترك في نظرتها الأحادية الجانب وإفراطها الجزئي. من هنا استنتاجه بهذا الصدد والقائل، بأن دور كل من القوميات الأوربية الثلاث في الحركة العلمية العامة يتطابق تماماً مع درجة الاختلاف في طابعها القومي. وبالتالي، فإذا كان للقومية محلها بما في ذلك في العلوم الطبيعية، فما بالك من أثرها في العلوم الاجتماعية والمواقف والأحكام الثقافية؟ كل ذلك يكشف من وجهة نظره، عن الحقيقة القائلة، باستحالة نقل ثمار شعب إلى آخر وبالأخص حالما يكونوا من أنماط ثقافية مختلفة. وهو استنتاج، كما يقول دانيليفسكي، لا ينفي ولا يقلل من كون الإنتاج العلمي هو ثروة البشرية جمعاء. غير أن تطورها يكشف عن أن تطوير العلوم بما في ذلك الطبيعية ليس أقل وطنية وقومية من الفن والحياة الشعبية. وهي حالة ونتيجة مرتبطة بطبيعة تطور وخصوصيات "النظام العقلي" للدول والأمم، أي كل ما وضعه في تفسيره عن المكونات الجوهرية لاختلاف الانماط الثقافية.

لقد توصل دانيليفسكي، إلى أن مسار التطور التاريخي للأمم يبرهن على أن الطابع القومي للعلوم يظهر ليس فقط في الجانب الذاتي (الشخصي) ولكن أيضًا بالمعنى الموضوعي. من هنا إمكانية الاستنتاج القائل، بأن العلم يمكن أن يكون قومياً. لكن طابعه القومي يختلف من قومية لأخرى. وإذ كان الطابع القومي أقل ظهورا في العلوم الطبيعية، فإنه يتوقف في العلوم الاجتماعية على النظام العقلي (التربوي) الخاص لكل دولة ولكل نمط من أنماط التاريخ الثقافي. وإذا كان الطابع الأكثر وطنية يقوم في إنجاح العلوم الاجتماعية القادرة على إنماء الدولة والأمة، فإن غايتها تقوم في أن تكون وطنية. وينطبق هذا بالطبع على علوم اللغة. إذ لم يسبق لأحد أن جادل بأن قواعد اللغة الألمانية واجبة أيضا بالنسبة للغة الروسية. (يتبع...).

 

ا. د. ميثم الجنابي

............................

1-  هذه فكرة سليمة من حيث طابعها النقدي، بمعنى أنها سليمة ضمن حدود الموقف النقدي لدانيليفسكي من نزعة التقليد الروسية آنذاك. فالمهمة الأساسية بالنسبة له كانت تقوم في تفتيت قيمة التقليد ومن ثم ضرورة إرجاع الثقافة والمثقف الروسي إلى عالمه الذاتي (القومي). لكنها ليست دقيقة في ما يخص الموقف من الانتاج القومي الألماني أو الإنجليزي أو الفرنسي، باعتباره انتاجا قوميا خالصا وضيقا. وذلك لأن الإنتاج القومي الخالص والرفيع، الذي يرتقي إلى مصاف "الصيغة الكلاسيكية" هو عالمي بالضرورة. من هنا فإن كل الإنتاج الأدبي والفلسفي والفني الروسي القومي الكلاسيكي هو عالمي أيضا. إذ لا يوجد إبداع عالمي صرف. إنه محدد دوما أما بالقومية أو "العالمية" الجزئية مثل إبداع الثقافة النصرانية والبوذية والإسلامية وأمثالها.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم