صحيفة المثقف

لماذا يتزعزع الإيمان؟

ريكان ابراهيمفي  علم النفس الديني (9)

قد يتزعزع إيمان بعض الناس. ويؤول أمر هذا الإيمان إبى واحدةٍ من ثلاث حالات:

1- حالة الثبات أمام محاولات زعزعته.

2- حالة إصابته بنوبات الشك.

3- حالة تحولِه إلى الإنكار أو الإلحاد.

ونحاول أن نناقش ما يكمن من مؤثرات وراء كل حالةٍ من هذه الحالات الثلاث.

1- حالة الثبات أمام محاولات زعزعته:

إن الإيمان يَثبُتُ في الفرد ويقاوم عوامل زعزعته إذا تحققت المؤثرات الآتية:

أ‌- قيامُهُ على يقينٍ ثابت: إن الإيمان مسألة دقيقةُ الحساسية في النفس البشرية وما لم يقم على أساس راسخ فإنهُ يُصبح عرضةً للإهتزاز أو التأرجح.

إن ما يحصل للمؤمنين الذين تَسلموا إيمانهم بطريقة التلقين والملائية الخطابية من دون ترسيخه على فهم واضح وقدرة على مواجهة تغييره هو إنحيازهم سريعاً إلى نقيضه من إلحاد. ولهذا يوصي علم نفس التربية المبكرة للنشىء بضرورة الإجابة الصريحة وتقديم البرهان الواضح أمام كل تساؤل حول الذات العليا.

ولقد أثبتت الدراسات أن طريقة قمع الأسئلة المبكرة لدى الطفل على أساس (الحلال والحرام أوالمُقدس المحرم) تقود إلى إنتاج إنسان حائر مقموع الأسئلة غير قانع بالإجابة .

ب‌- سلامة الفرد النفسية والعقلية: لا يؤمن الإيمانَ الحَق مَن لم يكن سليماً في نفسه وعقله، لأن المريض فيهما يعاني من فقدانه الإستقرار على رأي ثابت في الأمور الكبرى التي تتعلق بكينونته ومنها الإيمان. وتُعَدُ هذه السلامة النفسية من المرتكزات التي يقوم عليها الإيمان الثابت.

ج- إزدهار المجتمع بثقافة مؤمنة: إن المجتمع يؤثر في أفراده بحكم مؤثراته في العلاقة بالخالق ونوع الدين وطبيعة الثقافة. ومهما كانت مَلكَات الفرد الذهنية متميزة بالتفرد والإبداع وخصوصية النظرة، فإن للمجتمع أثراً فيه.

إن المؤمنين بالله الواحد في المجتمعات المختلفة يتفقون على الخطوط العامة للإيمان لكنهم يختلفون في الطقوس والممارسات التي يتعاملون بها مع إيمانهم. إذا كانت ثقافة المجتمع ما تُملي على أفراده نوعاً من التعبُد غير المستساغ عقلاً ومنطقاً أو عُرفاً، فإن هذا النوع من التعبُد كثيراً ما يكون سبباً للنفور من الإيمان، ليس بسببعدم إنعدام حياتية وفاعلية الإيمان، لكن بسبب سذاجة الطقوس الممارسة.

إذن يُؤسس المجتمع بثقافته الصحيحة في إيمانها والسليمة في ممارستها لمؤثر  حقيقي من مؤثرات الثبات في الإيمان.

د. الإفادة من المُعززات: صحيحٌ أن الإيمان ليس طريقاً للمقايضة بين العبد الصابر وربُه كأن يؤمن لكي يحصل على ثواب؛ لكن المؤمنين الصابرين على إستمرار الإمتحان الصعب وتكرار المآسي القدرية في حياتهم على الرغم من تحملهم هم معاشرُ قليلة مهما كثروا.

فالمؤمن الذي يُلاقي مع العسر يسراً ومع الشدة فَرَجاً من حين إلى آخر يزداد إيماناً ولا يشعر بالإحباط واليأس من روح الله المعين على البلوى. ذلك لأن الإنسان مجبولٌ على قلة الصبر أمام الصعوبات.

2- حالة إصابته بنوبات الشك:

لقد ناقشنا سابقاً موضوع الشك الذي يقود إلى الإيمان وإعتبرنا الإيمان الذي يُمثل محطةً أخيرةً في مسيرة الشك إيماناً راسخاً.

إن هذا هو شك الفرد القلِق في إلحاده والباحث عن إيمانٍ تستقرُ إليه نفسه.لكن هناك نوعاً من الشك لا يشبع فيه سؤال الإنسان جواباً ولا يُروى فيه ظمأُ الظامىء بماء يقين.

هذا النوع من الشك كثيراً ما يتكرر عند الإنسان آمن إيماناً مهزوزاً فيُصبح نوباتٍ تعاوده وهو في حضرة إيمانٍ عُرضةٍ للإنتكاسة. إن الشك لا يعاود المؤمن في إيمانه إلا في الحالات الآتية:

أ‌- الإيمان الناتج من اليأس: كثيراً ما يُتعب الإلحاد صاحبه فيجعله يائساً من نجاح تفكيره في إلغاء وجودالخالق. في مثل هذه الحالة يلجأ المُلحد إلى الإيمان لأن إلحاده فاشل في يديه.

مثالُ ذلك الجندي الذي يفشل في الإنتصار على عَدوِه فيعترف به لا حُباً وإنما إضطراراً. هذا الإيمان ناقصٌ في تركيبتهِ وسرعان ما يعود بصاحبه إلى الشك عند ظهور بصيصٍ في صفحة الإلحاد.

ب‌- الإيمان المريض: هناك أربعة أنواع للإيمان المريض كما ذكرنا سابقاً وهي: إيمان الخوف، إيمان الطقوس، إيمان النفاق الإجتماعي والإيمان المسيء إلى القضاء والقدر.

إن الإيمان في كل هذه الأنواع إيمان مُزعزَع رجراج وعرضةٌ لمعاودة الشك إليه والطعن فيه. وما إن يسود الشكُ حتى يصبح الإيمان مزعزعاً من جديد.

ج- تَعرُض الفرد للمرض: إن من الناس يَعبُد الله على حرف فإن أصابته مُصيبةٌ إنقلب.

إن من الناس من ينظر إلى غيره من المُخلين بشرف الإنتماء إلى الله وهم في بحبوحةٍ من العيش وسداد الأمور فيشك في جدوى إيمانه بالله الذي لم يُعطهِ وهو المؤمن ما أعطى غيره وهو المُلحد.

هذا هو إيمان المنفعة الشخصية وهو إيمان (أعطيك فأعطني). إن الشك يتسلل إلى هذا الإيمان بالتسلل إلى مفردةٍ من مفردات الأخير التي ذكرناها وهي مفردة (الإيمان بقضائه وقدرِه).

وبهذا الشك يتزعزع الإيمان. ويزداد الإيمان زعزعةَ وتدهوراً عندما يُبتلى صاحبه بمرض عضوي لم يُصب به غيره من غير المؤمنين أو بمرضٍ عقليٍ أو نفسي يفقدهُ لذة الإيمان.

3- حالة تحولِه إلى الإنكار أو الإلحاد:

 يختلف إنكار الفرد لله عن إلحاده بِه. فالإنكار هو إنعدام الإعتراف الفرد بوجود الله مع أنه يعرف أنه موجود. والإلحاد هو إنعدام وجود الله عند الفرد لأنه لم يتوصل بطريقة معلوماته أو قناعته إلى إثبات وجوده.

وتسود المبالغة والغرور والتبجح حياة المنكر فيما تسود الحيرة والقلق والإضطراب حياة الملحد. كلاهما مريض في قدراته النفسية والعقلية، فالأول مريض داء العظمة والهوس والثاني مريض الذهان أو الإكتئاب أو التخلف الإجتماعي والعقلي

والإيمان يتزعزع عند مرور الفرد بحالة تحول إيمانه هذا إلى إنكار أو إلحاد وتقف وراء هذه الحالة ثلاث مؤثرات:

أ‌- المبالغة الفردية: يميل بعض الناس إلى البحث عن مكانةٍ لهم بين الآخرين وتُصبح مكانتهم لديهم غاية لا يعني سقوط الوسائل فيها شيئاً. لقد أخرج كثيرٌ من الكُتاب كتباً ضخمةَ في مهاجمة وجود الله.

إن هذا الجهد الذي بذلوه دليلٌ على جهلهم هم، لأن الأمر بسيطٌ للغاية. إذا كنت لا تؤمن بالله غير الموجود عندكَ أصلاً فكيف تهاجم فراغاً؟ إنك تقول إنه غير موجود فلماذا تُهاجم غير موجود؟ وإذا كان موجوداً فلماذا تُهاجم موجوداً؟ وماذا يضيرك أن يكون لك ربٌ؟ يزيد هؤلاء الطين بِلةً حين يَعدون إعتقاد الناس بالله وطقوس أديانه سبباً لتخلف مجتمعاتهم التي أصبحت أسيرة قوةٍ تُحدد تفكيرهم وتحد من إنطلاقهم.

يقولون هذا لكنهم لا يهاجمون الظالمين من حكامهم الدكتاتوريين من رؤسائهم الذين هم سبب تخلف تلك المجتمعات. إن ثقافة هؤلاء كانت سبباً في زعزعة إيمان جيل كبير من الناس.

ب‌- إستمرار الفكر الميثولوجي:  إذا تعرض الإيمان لما يُشوه صورته النقية تَعرض للزعزعة. إن أديان الأساطير التي ظهرت في حيان الإنسان عبر مسيرته الطويلة رسخت ما يُسميه كارل كوستاف يونغ "ذاكرة الخلية، أو الذاكرة الجمعية".

إن الإنسان لم يتخلص من رواسب هذه الذاكرة تماماً. إن الله أعدم الوسيط بينه وبين خَلقه وبموجب ذلك تحطمت الأصنام على أيدي الأنبياء، لكن الوسيطية ما فتئت ان قامت من جديد، ليس في صورة صنم، إنما في صورة نائب الفاعل للإله:

1- صورة الزعيم الحاكم

2- صورة الساحر.

3- صورة الكاهن

4- صورة الضريح المَزار

5- صورة شيخ الطريقة الدينية.

***

علامات الإيمان المزعزع: بثلاثة خصالٍ، دون غيرها من خِصال أُخرى، يستطيع الفاحص أن يتعرف بصورةٍ سريريةٍ للإنسان الذي يحمل في نفسه وسلوكه إيماناً مُزعزَعاً مضطرباً. هذه الخصال الثلاثة هي:

1- إضطراب الشخصية.

2- الفصل بين الظاهرة العلمية والظاهرة الدينية (نمط التفكير).

3- الإستغراق في العبث (إضطراب السلوك).

ونحاول أن نناقش بإختصار كلا من هذه الخصال:

1- إضطراب الشخصية: لا تسأل مضطرب الشخصية في أحد أنواعها المُعتلة عن إيمانٍ مُستقر ثابت، ذلك لأن الإيمان الثابت هو:

أ‌- الدائم الذي لا يتغير بالمزاج.

ب‌- الدائم الذي لا يتأثر بآراء غيرهِ.

ج. الخالي من الهوى والمنفعة

د. الذي تصنعه سلامة الفكر ونقاء العواطف.

والإيمان بهذه المواصفات لا يتوفر في الشخصية المضطربة التي هي:

أ‌- عُرضة للتغير بالمواقف

ب‌-  سببٌ لتبديل المزاج.

ج - عرضةٌ للإنتكاسات الذهنية

د- عرضةٌ لتكرار الخطأ.

هـ - عرضةٌ لفقدان أثرها الإجتماعي.

2- الفصل بين الظاهرة العلمية والظاهرة الدينية:

إن التاريخ، يلتحم فيه الدين مع الأنثربولوجي، فليس هناك طوفانان، واحدٌ لكلكامش وآخر لنوح، وليس هناك تابوتان في اليَم، واحدٌ لموسى وآخر لسنحاريب، وليس هناك (صفا ومروة) للدين و(أُساف ونائلة) للأسطورة.

إن الفرد المنشطر في إيمانه على هذه الصورة من المحاكمة التاريخية للأحداث سينحاز إلى جانب الظاهرة الأرضي، الوضعي وينسى رواية الدين لها فيجيءُ إيمانه مزعزعاً هشاً.

3- الإستغراق في العبث:

إن إيمان الفرد يُصبح عرضةً لزعزعة إذا لم يكن رادعاً لصاحبه، فالإيمان ليس قصيدةً تُحفظ أو قصةً تُقرأ، إنما هو تطبيق. ومن مفردات الإيمان أن يؤمن صاحبه بأن طول الأمل يُورث الغفلة (مَن ركضَ وراء أملةِ عَثَر بحبال أجله، علي بن أبي طالب). ومن المظاهر الواضحة على صاحب الإيمان المزعزع ميل هذا الفرد إلى الإستغراق في الحياة اللاهية الملهية عن الجد والصواب.

***

كيف نحافظ على الإيمان: يجب علينا أن نناقش ثلاثةً من الأمور التي تساعد على زعزعة الإيمان وبمعالجتها يستقر هذا الإيمان. ان هذه النواحي التي سنعالجها تجعل من إستقرارها وثبات التعامل معها سبباً من أسباب الإيمان المطمئن الراسخ في عقل المؤمن وقلبه: 1. تعديل النظرة إلى الحظ. 2. إشاعة الزهد في الحياة 3. تعديل النظرة إلى القيم.

1- تعديل النظرة إلى الحظ:  شغلً موضوع الحظ والنصيب والقسمة والمقسوم أذهان الكثيرين عبر التاريخ. لقد إختلفت الدراسات في النظرة إلى الحظ، وعد بعض هذه الدراسات أن الإيمان بالحظ عاملٌ يدعو إلى الإتكال والكسل والتراخي عن تحقيق التقدم في الحياة، فيما عدت دراسات أُخرى  الحظ سبباً من أسباب الدعوة إلى الجبر والإختيار. وهناك دراسات أُخرى دعت إلى محاربة مفهوم الحظ والإجهاز عليه وعدت الإنسان مسؤولاً عن خياراتهِ ورفضه لما يُحب ويكره تباعاً. إن هذه الإختلافات أدت إلى تشويش مفهوم الحظ على نحو أصبح الإيمان فيه مزعزعاً هلامياً عند الكثيرين. ويقتربُ مفهوم الصدفة كثيراً من مفهوم الحظ على الرغم من وجود الفارق اللغوي بينهما. ومن المقاربات التي قامت بين الحظ والإيمان ما يأتي:

أ‌- الإيمان ورسوخه في النفس البشرية ضربٌ من ضروب الحظ الجيد.

ب‌- الإلحاد ضربٌ من ضروب الحظ السيء.

ج- لا علاقة للحظ بالإيمان والإلحاد لأن الحظ عنصرٌ دنيويٌ زائل.

د- الفهم الخاطىء عند بعض الناس لقول القرآن: { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ{

هـ - الحظ مجموعةٌ من النعم الموهوبة من الله، ما إن يمنح سبحانه الفرد إحداها حتى يسلبه أُخرى من دون الإخلال بعدالة التوزيع.

والذي لاحظناه في حياة الناس عبر تأمل طويل في مسيرتهم أن الحظ هو الفأل الحسن الذي يصادف الإنسان في ما يسعى من أجله ويثابر على تحقيقه، وفي  هذه الكلمة " الحظ" ومن وجهة نظر علم النفس تكمن حقيقتان إذا فهمهما الإنسان عاش سعيداً من دون أية إساءةٍ أو مساس بإيمانه. هاتان الحقيقتان هما:

1- على كل منا أن لا ينظر إلى نعمةٍ واحدةٍ يتمتع بها فردٌ من الأفراد. فقد نجده ذا بسطة في المال أو مكانةٍ في الجاه والمنزلة أو وفرةٍ في البنين. ان هذه النظرة قاصرة، لأننا لو دققنا في صاحب هذه النعمة أو تلك وجدناه يعاني من غياب نعمةٍ أُخرى يُنكِدُ عليه حياته فقد تجد ذا مال] يحسد المتفوقين عقلياً أو تجد ذا جاهٍ يتمنى لو عاش مغموراً لا يعرفه أحد ولا يطالبه بما يمليه جاهه عليه أو ستجد ذا بنين فيهم الأشرار الذين يُلحقون الضرر به وبسمعته.

2- إن النظرة إلى الحظ تتوقف على طبيعة إحساس الفرد بها. فقد يرى بعض الناس فرداً من الأفراد محظوظاً لكنه لا يشعر أنه كذلك. فالفرد في داخلِه هو الذي يُحس بقيمة الخظ وإذا فقد الإحساس أصبح الحظ لديه نكداً وبلوى.

ذو العَقلِ يَشقَى في النّعيمِ بعَقْلِهِ       وَأخو الجَهالَةِ في الشّقاوَةِ يَنعَمُ

المتنبي

إن الذين يمارسون حالة الإيمان ظناً منهم أن الحظ سيبتسم لهم في مال أو بنين أو صحةٍ هم أُناسٌ واهمون لأنهم نسوا أو تناسوا أن الإيمان هو نفسُه الحظ السعيد ومن دون هذا الإيمان لن يُحسوا بحلاوةٍ لنعمةٍ أُخرى.

2.إشاعة الزهد في الحياة: على الرغم مما تحتويه الحياة من كائنات تنطق بقدرة الله على الخَلق والتصور، هذه الكائنات التي يَعدُها الإنسان المؤمن آثاراً للخالق في مخلوقاته وبها يستدل على وجود الله، تظلُ الحياة بإغرائها في الملذات واللهو سبباً لزعزة الإيمان.

إن الفرد الذي يُعلن عن إيمانه وهو بعيدٌ عن الملذات ومطايب اللهو ليس فرداً ثابتاً على إيمانه بالضرورة، لأن الملذات هي الفاحص الحقيقي لقوة الإيمان وثباته في وجه الإغراء.

إن أفضل وسيلة لفحص إيمان الفرد هو تعريضه للذةَ والإغراء في مالٍ أو جاهٍ أو جنس أو خمر، فإذا استعصم وأبى أن ينحرف أو ينجرف فذلك هو المؤمن القوي الصامد، وإذا إنساق وراء مهاوي الحرام وصغائر المُتع فذلك هو المؤمن الواقف على شفا حفرةٍ من إيمانهِ.

وكثيراً ما يَعدُ ضعافُ الإيمان أن إيمانهم يعني حرمانهم من نعمة الحياة فيسمون اللذائذ نَعِماً والرزائل سلواناً. لقد قال الفقه قولُه في موضوع التعامل مع الحرمان الحياتي فأشار إلى حقيقةٍ مهمة يُؤيدها علم النفس كل التأييد وهي أننا لو حَسبنا المنهي عنها من الممنوعات في مقابل المدعوِ إليها من المسموحات لوجدنا أن المسموح به أكبر بكثير حجماً وأكثر بكثير عدداً من الممنوع.

إن الفقه يقول إن الأصل في الأشياء هو الإباحة والمتفرع من هذا الأصل هو الإستثناء. مثالاً على ذلك: {كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ{. هذا هو المباح الواسع العريض بينما (حرمنا عليكم ال...وال...وال...) هو إستثناء قليل من هذا الواسع العريض.

وفي الدين الإسلامي قد يتزوج الفرد بواحدة ويزني بثانية فيميل إلى الأخيرة لأنه يجد فيها تعويضاً عن واحدةٍ لم تُعطهِ ما يطلبه في المعاشرة الجنسية. فلو مارس مفهوم المباح لوجدَ أنه يستطيع الزواج بثانية، قد لا تعوضه خسارته في الأولى فيتزوج الثالثة التي قد لا تعوضه خسارته في الإثنتين فيتزوج الرابعة.

وإذا لم يقتنع بأربعِ من النساء فعليه أن يراجع نفسه بدلاً من مراجعة زوجاته. إن الزهد لا يعني الحرمان إنما يعني الترفع عن المبالغة في الأشياء. الزهد يعني إستصغار النظرة إلى قيمة الأشياؤ ولا يعني إهمال الأشياء.

الزهد هو الإقتناع بالقليل الكافي وليس بالكثير الكافي. إن الزهد الحقيقي هو طريق الإيمان الذي لا يتزعزع.

3.تعديل النظرة إلى القِيَم: لا إيمانَ بلا قِيَم. والقِيمُ التي يحترمها الفرد ويعمل بموجبها نوعان: قيم ذاتية كامنة في نفسه وقيم إجتماعية يكتسبها من الوسط الذي يعيش فيه. إن الصحة النفسية لا تعني خلو الإنسان من الأمراض حَسب، إنما تعني قدرته، بحكم هذا الخُلو من المرض، على أن يكون عضواً نافعاً متواصلاً مع المجتمع الذي ينتسب إليه ومع المؤسسة التي يعمل فيها.

إن القيم الذاتية ثابتة بينما القيم الإجتماعية المكتسبة متغيرة مغ تغير المجتمع زماناً ومكاناً. ومن القيم الذاتية التي لاحظها علم النفس في الإنسان:

1- معرفة النفس (رَحم الله إمرءً عرف قدر نفسه).

2- الحياء (المؤمن يستحي)

3- الوفاء

4- التسامح

5- الصدق

 

إنها قيم ذاتية تُولد مع الإنسان وتَعجزُ مدارس علم النفس عن زراعتها في مَن لا يملكها لكنها تستطيع تنميتها وتقويتها عَبرَ التعليم بالمقارنة والمعززات السلوكية.

قال لي أحد المُحاورين يوماً: إن هذه القيم قد توجد في إنسان غير مؤمن بالله فقلتُ له: ان من يملك مثل هذه القيم هو مؤمن مؤجل أو مُلحدٌ مؤقت، لأن هذه القيم لا تنمو إلا بالإيمان بالله فهي سمات الفطرة والإيمان فطرة خصوصاً الإيمان الذي أشرنا إليه وهو (الإيمان قبل المعرفة).

ونقصد بقولنا (قيم الفطرة) إنها القيم التي لا تنتظر أجراً ولا ثواباً على ما تقوم به النفس المالكة لها من تطبيقات لها. فالفرد العارف لقيمة نفسه، الحيي، الوفي، المتسامح، الصادق الذي لا ينتظر رد فعل الآخر ولا يسألأ كلمة الشكر على ما هو فيه.

وتنقسمُ القيم المكتسبة من البيئة والمجتمع على أنواع فمنها قيمُ الخوف، وقيم النفاق للأقوى، وقيم التأقلم من أجل المصلحة الخاصة وقيم الوفاق الإجتماعي التي هي أقل هذه القيم نسبةً في الصدق نظراً لقلة من يمارسها من الناس.

إن الظلم والسادية، والطمع والغرور قيَمٌ سالبة تتعارض مع قيم الله والإيمان به. إذا استطعنا أن نُعزز القيم الثابتة في الفرد فإننا نستطيع أن نحافظ على إيمانه من الزعزعة والإنحراف.

***

المواقف التي يتجلى فيها الإيمان:

وما دمنا نتحدث عن زعزعة الإيمان فإننا مُلزمون بالحديث عن المواقف التي يزدهر فيها إيمان المؤمن أصلاً وينشأ الإيمان من جديد في مَن لا إيمان عنده أصلاً أيضاً. إننا هنا نتحدث عَمن يلجأون إلى الإيمان في مواقف معينة حينما لا يجدون لهم سنداً في مواجهتها إلا الله. ومن هذه المواقف التي إخترناها مثالً لا حصراً:

1- المرض المزمن الذي لا شفاء منه.

2- السجن طويل الأمد.

3- الغربة الطويلة.

4- مواجهة لحظات الموت

5- مواقف الشعور بالموت القريب

لقد وُجد بالإحصاء أن كثيرين من المُلحدين الذين كانوا يجاهرون بإلحادهم والتغني بإنعدام وجود الله تلاشوا أمام أمراضهم التي إستيأسوا فيها من الشفاء، فيم يبقً في أيديهم إلا اللجوء إلى الإيمان لجوءاً يُلغي فيهم كل غطرسة. إن إيمان المُضطر هو أردأُ أنواع الإيمان الذي يتعارض مع حكمة الله القائلة (إعرفني في السراء أعرفك في الضراء). وينطبقُ على ممارسي هذا النوع من الإيمان قول الله: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ}.

ومن الدراسات التي عثرنا على بعضها هي التي قامت بفحص الوضع النفسي لنزلاء السجون بمحكوميات طويلة الأمد، حيث ينقطع النزيل عن العالم الخارجي في سجن يُمثلُ لديه صورةً من صور الرحيل إلى عالم الأبدية أو صورةً من صور القبر.

إن عقابيل (تناذر) مرحلة ما بعد السجن Post Prison Syndrome ظاهرةٌ مرضية يتعرض لها الكثيرون عند خروجهم من السجن. والسبب الكامن وراء ظهورها هو الحرمان الحسي Deprivation. ومن أعراض هذه الظاهرة: الحزن أو مشاعر الذنب، وتغير ملامح الشخصية، والأعراض الذهانية في الهلوسة وأفكار الإضطهاد والنفي الإجتماعي؛ وتغير الأفكار السابقة. ويُمثل السجن نوعاً من أنواع الحرب على الدماغ أو ما أصطلح عليه إعلامياً بغسيل الدماغ Brain Wash.

ومن نتائج هذه العلمية (السجن) أن يخرج الملحد مؤمناً بعد أن أدرك أنه لم يجد في سجنه من يُعينه ويرعاه إلا ذكر الله الذي به تطمئن القلوب. في السجن يبدأ السجين بفحص أفكاره ومعتقداته ويُصفي حسابه مع كثير من أوهامهِ. ولا يُعاود السجن ويقبله مرةً أُخرى إلا مرضى الشخصية غير الإجتماعية (Antisocial Personality) الذين لا يردعهم العقاب ولا يتعظون بما جرى لهم لأنهم يفتقرون إلى الإحساس بالذنب وهم مَن إصطلح على تسميتهم في مذاهب القانون بذوي السوابق.

وحينما يغترب الإنسان بالسفر إلى بلادٍ بعيدة ومجتمعات غربية يمرُ بمرحلتين يكونُ فيهما على واحدةٍ منهما: مرحلة التشابه الكامل مع المجتمع الجديد (Assimilation) حيث ينقطع عن كل ما يربطه بمجتمعه القديم ويلتحق كاملاً بالمجتمع الجديد؛ ومرحلة التشابه الجزئي (Acculuration) حيث ينقطع عن بعض ما كان يربطه بماضيه ويلتحق ببعضِ ما يجده في حياته الجديدة.

إن هذا، في المرحلتين، هو نوعٌ من المواقف التي يزدهر فيها الإيمان أو يندحر على وفق ثقافته الجديدة. فكثيراً ما نصادف من غادرونا مؤمنين ليصبحوا لاحقاً ملحدين كما نصادف من غادروا ملحدين ليصبحوا لاحقاً مُوحدين مؤمنين. في الحالة الأولى (الملحد الذي يُصبح مؤمناً)تبرز المؤثرات الآتية:

أ‌- يتأثر بمجتمع جديد مؤمن بالله ومعتقد بوحدانيته وعظمة شأنهِ (عامل خارجي).

ب‌- يتأثر بغربته ولا يجد سلواناً إلا إيمانه (عامل داخلي)

ج- يعود إلى الإدراك أن الزمان والمكان والشخوص لا تلغي صورة الله الخالدة فيعود إلى الإيمان بالله (عامل خارجي).

د- يصادف مجتمعاً متقدماً متحضراً لكنه يدين بالولاء والإنتماء إلى الله فيفهم أن التقنية والتقدم العلمي طريقان إلى الإيمان فيؤمن (عامل مشترك داخلي وخارجي).

وفي الحالة الثانية (المؤمن الذي يُصبح مُلحداً) تبرز المؤثرات الآتية:

أ‌- يتأثر بمجتمع مُتقدم تقنياً يفصل دينه عن حياته اليومية ولا يُعير إهتماماً لموضوع التأليه والعبادة فينساق المغترب إلى محاكاة هذا المجتمع.

ب‌- يُعوض غربته تعويضاً خاطئاً بأن ينساق وراء مواطن اللهو والعبث والفوضى الفردية فينسى الله والإيمان به.

ومن المواقف التي يتذكر الفرد فيها إيمانه فيزدهر فيه؛ لحظة مواجهة الموت. إن لحظة المواجهة مع المصير المحتوم هي لحظة تذكر الله ونسيان ما سواه.

فالفرد الذي يلتف حول عنقه حبل المشنقة أو الفرد الذي يُوجهُ فريق الإعدام إليه رصاصة الرأس، ينسى كل شيء إلأ الله. هذا هو إيمان اللحظة الحرجة، وهو نوع آخر من أنواع إيمان المُضطَر الذي لا ينفع صاحبه في شيء.

وفي موضوع (الشعور بالموت القريب) لدينا حالتان مرضيتان كثيراً ما يشعر الفرد المريض فيهما بالموت القريب القادم لا محالة، ونعني بهما (متلازمة ما بعد الكرب أو الشدة) (Post-Traumatic Stress Disorder)، وحالة (الفزع) (Panic Disorder)، حيث تنتاب الفرد مشاعر قوية ان الموت قادم فينهار  أمامها ولا يتذكر إلا رداءة غرورهِ وطيشه وإنحيازه عن الإيمان بالله الذي صار قريباً من اللقاء به.

 

د. ريكان إبراهيم

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم