صحيفة المثقف

تونس ليست جمهوريّة أفلاطون

فتحي الحبوبيولا حاجة لها إلى طهوري يعوق تقدّمها

منذ إنتخابه والتونسيون جميعا أو يكادون يلهجون بنظافة يد الرئيس التونسي قيس سعيّد ونقاوته فضلا عن زهده . فهو النزيه، المنزّه عن الأدناس. وهو الجدير بالتنويه والإشادة بطهوريّته، حتّى كادوا يعتبرونه قدّيسا. وهم يردّدون هذه المعزوفة التمجيديّة التأليهيّة المشروخة - صباحا مساء- بشكل ببّغائي، بمن فيهم أغلب المحلّلين السياسيين الذين يخوضون في كلّ شيء، فيما هم لا يفقهون إلّا السطحي من كلّ شيء. بما لا يفيد المتلقّي العادي، فضلا عن ذوي الاختصاص. والسؤال الإشكالي الذي يفرض نفسه للطرح هنا، إنّما هو حول ما إذا أفادتهم هذه النظافة والطهوريّة المزعومة للرجل؟ الذي انخرط هو نفسه في التذكير بها في كلّ مناسبة وفي سياقات غير سياقها، حتّى أصبح يتندّر بها البعض في السرّ والعلن، وباتت من قبيل الحشو اللغوي وفق قواعد الخطاب البلاغي، لا سيّما وهو يفضّل الحديث باللغة العربيّة الفصحى وفي كلّ الاحوال والظروف .علما وأنّ الحشو يفقد الخطاب ميزة الفصاحة لخلوّه من الفائدة. يقول عبد القاهر الجرجاني في هذا الخصوص "... وأمّا الحَشْوُ فإنّما كُرِهَ وَذُمَّ وَأُنْكِرَ وَرُدَّ، لأنه خلا من الفائدة".

لا يجادل أحد في أنّ مزايا اليد النظيفة والطهوريّة والتعفّف مطلوب توفّرها لدى الحاكم. إلّا أنّه لا يجادل أحد كذلك، في أنّها لا تكفي وحدها لتصنع سياسي ناجح. فهي كما يقول الرياضيون "شرط ضروري، لكنّه غير كاف" لقيادة شعب بأكمله والوصول به إلى ساحل النجاة بتحقيق التقدّم الحضاري الذي ينشده. لا سيّما عندما يكون هذا الشعب يعيش أوضاعا صعبة ومآسي بالجملة تتطلّب سرعة المعالجة لأنّها قابلة للاستنساخ والتعقيد والتأزّم يوما بعد يوم، فيما لو يتأجّل إيجاد الحلول الجذريّة لها. لهذه الأسباب، وفي غير ما مواربة - أي بصراحة ووضوح وقناعة ترتقي إلى حدّ الإيمان- فإنّي لا أرى أيّة أهمّيّة لنظافة يد الرئيس التونسي ولا لطهوريّته، بالقياس إلى أهمّيّة المصالح "المقدّسة" للشعب التونسي، بما هي وجوب تحسين ظروفه المعيشية الآنيّة منها وكذا المستقبليّة. كما أنّي لا أرى معنى لأيّة أهميّة للنظافة والطهوريّة المزعومتين في مقابل معاينة الرئيس لانهيار الدولة على طريقة السقوط الحرّ إلى الهاوية، لا بل إلى "الجحيم"- من باب التجوّز في القول - دون ردّة فعل في الغرض، ولا حتّى تحريك ساكن. ثمّ عطفا على الأزمة الحكوميّة الحاليّة التي تعيش على وقعها تونس اليوم، فانّي لا أرى أيّة أهميّة لنظافة اليد والطهوريّة لرئيس جمهوريّة يعطّل السير العادي- في خدمة الشعب- للمرافق الإدارية الحيويّة للجهاز التنفيذي الذي يشرف عليه رئيس الحكومة وفريقه الوزاري، برفضه المتعنّت، مثولهم أمامه لأداء اليمين الدستوريّة، إستكمالا لمشوارمسار تشكيل الحكومة الجديدة بعد المصادقة عليها بالبرلمان. وذلك لمجرّد خلاف شخصي بينه وبين رئيس الحكومة. وهو ما يمثّل خرقا واضحا للدستور وفق رأي جهابذة وأشهر كبار أساتذة القانون الدستوري المشهود لهم دوليّا بكفاءتهم العلمية. فيما هم في نظر الرئيس، في مسعى واضح لتحقيرهم، أصحاب "دور شعوذة كتب عليها دور إفتاء" (1). وقد سوّق الرئيس هذا الخرق باختلاق تعلّات عديدة لا تقوى على الصمود، ثمّ تمترس بصفة خاصّة وراء إتهام نفر قليل من الوزراء الجدد بالتورّط في ملفّات فساد هي في الأصل- إن وجدت- من أنظارالقضاء بمختلف درجات محاكمه، ولا تعود له بالنظر مطلقا.إلّا أن يكون الرئيس يريد أن يحلّ محلّ الجميع، ويصبح الرجل صاحب السلطة الأوحد في تونس كما في الأنظمة الشموليّة سيّئة الذكر. فهو الرئيس، وهو القاضي، وهو الفقيه في القانون ولا أحد له حقّ تأويله سواه، وهو رئيس الحكومة إن لزم الأمر.لأنّ مربط الفرس للصراع القائم بينه وبين هشام المشّيشي رئيس الحكومة كان منطلقه إعفاء وزير الداخلية ووزراء آخرين محسوبين على الرئيس. فهو إذن لا علاقة له بمقاومة الفساد والطهوريّة ونظافة اليد التي اصبحت شعارا فضفاضا لا معنى له في ظلّ فساد مستشري في جميع مفاصل الدولة وغياب المقاومة الجدّية لهذا الغول الذي ليس للرئيس أداوات مقاومته غير الخطب الرنّانة التي مجّتها الاسماع فضلا عن أنّها لا تسمن ولا تغني من جوع. فالفساد لا تقضي عليه الخطب المنمّقة ولا الكلمات. حتّى وإن كانت بليغة وذات سحر وجمال كما جاءت في القصيدة الشهيرة "كلمات" للشاعر العصامي الموهوب منوّر صمادح.

وأخيرا أيّة أهميّة لنظافة اليد والطهوريّة يمكن أن تشحن المواطن بالأمل في غد أفضل، فيما الرئيس يقف موقف المتفرّج من الأحداث الكبرى لبلاده، التي أصابها الضعف والوهن وانحرفت عن مسارها الصحيح، المؤدّي إلى صلابة إقتصادها وسلامة توازناتها الماليّة وانعدام توتّر مختلف قطاعاتها المهنيّة إجتماعيّا.

فلو كانت الصفات الرئاسيّة التي أسلفنا ذكرها كافية لوحدها للنهوض بشعب ما وتحقيق الرفاه له، لأختارت كلّ الدول حكّاما لقيادتها من القدّيسين والأيمّة والشيوخ والفقهاء والملالي أو الرهبان أو نحو ذلك من رجال الدين المشهود لهم بالطهوريّة. وقد أتيحت الفرصة لهؤلاء جميعا عبر فترات تاريخيّة مختلفة فأظهروا -دون استثناء- فشلا ذريعا سجّله لهم التاريخ في صفحاته السوداء. فضلا عن أنّ العودة إلى إعادة التجربة لإنتاج الفشل لا تستقيم بعد قرون من الثورة الفرنسيّة العظيمة التي أنارت العقول المتحجّرة بطبقات التكلّس وتخلّصت نهائيّا ممّن يدّعون إحتكار عباءة الطهوريّة التي لا تنطلي إلّا على من يؤمن بالفلسفة المعصوميّة/ اللاتخطيئية. قناعتي التي لا حياد عنها، أن لا طهوريّة عند البشر، الحامل بين طيّاته لبذرات الخير والشرّ.كما لا قداسة لهم إطلاقا. بما يعني أن لا وجود بيننا على الأرض لملاك طاهر. بهذه الأوصاف المبالغ فيها تصنع الشعوب المتخلّفة- للأسف- من رؤسائها أصناما ثمّ تعبدها كما الآلهة، في محاكاة لما كان يجري في الأزمان الغابرة.

يشهد علي الله ويعلم أقرب الأصدقاء أنّي لا اروم الكتابة في السياسة ولا أفعل ذلك إلّا مضطرّا وفي حالة توتّر قصوى إثر إستفزازي بحدث سياسي مختلف عن السائد مثل ما يجري في تونس اليوم من إنسداد أفق الحلّ السياسي لما عرف بأزمة اليمين الدستوريّة التي أسلفنا فيها القول واالتي تتواصل منذ عدّة أسابيع وتؤشّر بالتأكيد على التصحّر السياسي لمختلف الفاعلين السياسيين الحاليين، وفي مقدّمتهم الرئيس. فهم لم يبلغوا بعد حتّى مرحلة المراهقة السياسيّة لمن سبقوهم. ولا استثني منهم أحدا.

 حيث أنّهم ارتكبوا جميعا أخطاء جسيمة لا تغتفر في حقّ الشعب التونسي منذ فجرالإستقلال. وسيحاسبهم التاريخ عن ذلك مهما سعوا للتستّر عنها ومحاولة تزييفهم للحقائق بكتابتهم للتاريخ في قائم حياتهم. ولعلّ المجال الآن ليس مجال تعدادها، وقد تكون موضوعا مستقلّا بذاته في قادم الأيّام.

ما دعاني إلى إستحضار التاريخ هو أنّ تونس ما بعد الثورة التي بشّرت التونسيين بالحرّية والرفاه وعلّقت عليها آمالا كبيرة لتحقيق ذلك، يمرّ إقتصادها اليوم بأحلك فتراته عبر التاريخ المديد، قديمه وحديثه. حيث سجّلت خلال سنة 2020 نموّا ب(8,8-) بما يعني فقدان حوالي 150 الف موطن شغل وغلق عشرات المؤسّسات. وذلك جرّاء تراكم نتائج السياسات غير الناجعة المتّبعة مع الإتّحاد الأوروبّي إنطلاقا من سنة 1995.والتي إستفحلت بعد الثورة نتيجة لفقدان قيمة العمل وللمطلبيّة القطاعيّة المشطّة التي تميّزها العقليّة القبليّة المقيتة والاستقواء على الدولة على حساب الإستثمار والمصالح الوطنيّة الملحّة وعلى حساب بعض الفئات الهشّة ذات الأصوات الخافتة وغير المسموعة. وأمام هذا الوضع الإقتصادي الخطير يسمح رئيس الدولة لنفسه باحتكار تأويل الدستور على هواه معيقا تنصيب الحكومة الجديدة ومعطّلا للسير العادي لنشاطها.لا بل ورافضا للحوار مع كلّ من رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب فضلا عن مماطلته للشروع في الحوار الوطني الذي إقترحه الإتحاد العام التونسي للشغل بما لا يعني إلّا الرفض أيضا. إنّي أتساءل في استغراب وإنكار هل هذا هو دوره المفترض؟ وهل هذه مصلحة الشعب التونسي الذي إنتخبه من أجلها؟ إن كان ذلك كذلك، فإنّي أعترف أنّه لم يعد بوسعي إستيعاب الأحداث السياسيّة من هذا القبيل. فهي أقرب إلى ما يدور في مسرح العبث لبيكيت. لا بل هي أقرب إلى السرياليّة.

 

المهندس فتحي الحبّوبي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم