صحيفة المثقف

الدكتور عبد الواحد، لؤلؤة الترجمة الأدبية الحديثة (1)

محمود محمد عليبَرَزَت مِنَ المَنازِلِ القِباب.. فَلَم يَعسِر عَلى أَحَدٍ حِجابي.. فَمَنزِلي الفَضاءُ وَسَقفُ بَيتي.. سَماءُ اللَهِ أَو قطعِ السَحابِ.. فَأَنتَ إِذا أَرَدتَ دَخَلتَ بَيتي.. عَلَيَّ مُسلِماً مِن غَيرِ بابِ.. لِأَنّي لَم أَجِد مصارعَ بابٍ.. يَكونُ مِنَ السَحابِ إِلى التُرابِ.. وَلا خِفتُ الإِباقَ عَلى عَبيدي.. وَلا خِفتُ الهَلاكَ عَلى دَوابي.. وَلا حاسَبتُ يَوماً قَهرَماني.. مُحاسَبَةً فَأَغلَظَ في الحِسابِ.. وَفي ذا راحَةٍ وَفَراغِ بالٍ.. فَدَأَب الدَهر ذا أَبَداً وَدابي.. وابِطُكَ قابِضِ الأَرواحِ يَرمي.. بِسَهمِ المَوتِ مِن تَحتِ الثِيابِ.. شَرابُكَ في السَرابِ إِذا عَطِشنا.. وَخُبزُكَ عِندَ مُنقَطِعِ التُرابِ.. رأيتُ الخُبز عَزَّ لِدَيكَ حَتّى.. حَسِبتَ الخُبزَ في جَوِّ السَحابِ.. وَما رَوحَتَنا لِتَذُب عَنّا.. وَلَكِن خِفتُ مُرزِئَةَ الذُبابِ.

قصدت أن أفتتح مقالي بهذه الأبيات لأقول: منذ أن كنت طالباً بكلية الآداب – جامعة أسيوط – بجمهورية مصر العربية في ثمانينات القرن الماضي، وأنا أسمع وأقرأ عن أديب، ومترجم، وأستاذ جامعي الوطن- موصلي النشأة، اسمه الدكتور "عبد الواحد لؤلؤة" .. وقد ازدادت معرفتي به بعد أن قرأت كتابه الرائد: (الأرض اليباب: الشاعر والقصيدة) . وكانت قصيدة (تي اس ايليوت) (الأرض اليباب) أو (الأرض الخراب) قد سلبت لبي وعمقت احساسي بقيمة الحياة والحب والإنسانية .. كان للدكتور لؤلؤة آراء صائبة في قضايا أدبية وفكرية خلافية كثيرة، وكنت كلما قرأت له شيئاً، كبرت في عيني قيمته ؛ خاصة وأنه كان يضيف كل عام كتاباً جديداً، أو ترجمة لكتاب جديد .

وعبد الواحد لؤلؤة (مع حفظ الألقاب) كما قال عنه الاستاذ الصحفي اللامع حميد المطبعي في كتابه "موسوعة أعلام العراق في القرن العشرين": عراقي الجنسية، وهو ناقد، وكاتب، ومترجم .. يجيد اللغات الانجليزية والفرنسية والأسبانية والألمانية .. ولد في مدينة الموصل سنة 1931 ..اسمه بالكامل عبد الواحد مجيد محمد لؤلؤة . أكمل دراساته الابتدائية والمتوسطة والثانوية في الموصل وسافر الى بغداد ليلتحق بدار المعلمين العالية (كلية التربية فيما بعد) وقد اختار قسم اللغة الانجليزية وفي سنة 1952، حصل على الليسانس بدرجة شرف باللغة الانجليزية، وقد أرسل في بعثة علمية إلى الولايات المتحدة الأمريكية، فنال الماجستير من جامعة هارفرد سنة 1957، والدكتوراه في الأدب الانجليزي من جامعة ويسترن رزرف سنة 1962 .. عاد الى العراق فعين مدرساً بكلية الآداب بجامعة بغداد، ثم في كلية اللغات بالجامعة نفسها، وكذلك قيل عنه أنه تخرّج في قسم اللغة الإنجليزية بدار المعلّمين العالية ببغداد، الكلية الوحيدة التي كانت تدرّس الآداب حتّى عام 1950. وعاصر شعراء الحداثة. أُرسل في أول بعثة الى جامعة هارفرد حيث حصل على شهادة الماجستير. ثم أرسل في بعثة ثانية، فحصل على الدكتوراه في الأدب الإنجليزي وعاد للتدريس بجامعة بغداد..  وقد انحصر تدريسه في الجامعة بين سنتي 1957 و1977 وبعدها أحال نفسه على التقاعد بعد خدمة جاوزت الـ ( 25) سنة . وقد سافر إلى الأردن ليعمل أستاذاً في الأدب الانجليزي بكلية الآداب جامعة اليرموك منذ سنة 1983 وبعد أن انتهى عقده مع هذه الجامعة انتقل إلى جامعة فيلادليفيا بعمان وهي جامعة أهلية، وهو الآن يعيش في إنجلترا.

كما تحدث الأستاذ شكيب كاظم سعودي عن الدكتور عبد الواحد لؤلؤة في مقال نشره في جريدة العراق (البغدادية) بعددها الصادر يوم 29 ايلول سنة 2001 بعنوان " الدكتور عبد الواحد لؤلؤة وحركة الترجمة العربية المعاصرة"، فقال بأن: "الدكتور لؤلؤة لم يهتم بالشعر الغربي ونقله إلى اللغة العربية، وإنما اهتم بالشعر العربي الحديث، فعلى سبيل المثال تضمن كتابه ( البحث عن معنى) دراسة نقدية بعنوان: (البطولة والتشرد عند احمد الصافي النجفي)، وتناول في هذه الدراسة حياة هذا الشاعر وشعره المبثوث في عشرة من الدواوين الشعرية المنشورة له، ولم يكتف بذلك، بل سافر الى دمشق، وعقد جلسات طويلة مع الشاعرعندما كان هناك خلال شهر آب سنة 1965، وقد ظل الشاعر النجفي يتحدث طوال أربع ساعات حديثاًً عن الذات، والشعر، والغربة، والموت، والخلود.. ولؤلؤة يستمع إلى كل شاردة وواردة تصدر من فيه، مزهواً بشهادة الشاعر الكبير "محمد مهدي الجواهري" عن النجفي أمام عدد من الحاضرين (هذا يجول في ميادين لايجرؤ أحدنا ان يجول فيـها)".

وعبد الواحد لؤلؤة ناقداً مهماًً في أجيال النقد العربي الكبيرة، درس الشعر العربي الحديث على نحو من الشمول والاتساع، بحيث لم يترك شاردة ولا واردة لم يستثمرها في دراسته، كشف عن منهج قويم في النقد الشامل، وراقب الحركات والتيارات في الشعر العربي الحديث في قرنين، تناول الشعر والشعراء وبلدانهم، والمؤثرات في الشعر، والتحولات الحضارية، والسياسية، والفكرية، التي صنعت هذه التحولات والحركات والاتجاهات الكبيرة في الشعر العربي الحديث، ودرسه على وفق مقومات منهج واضح ورصين، ولغة رصينة، علمية، ساعد في شروقه، ووضوحه، وعمقه الترجمة الرصينة له.

كما اهتم عبد الواحد لؤلؤة بالمناهج النقدية الحديثة التي تقع ضمن المناهج النصية التي تعني بالنص ذاته، وذلك لكونها تمثل المنهج الذي سار عليه أستاذه الدكتور "جبرا إبراهيم جبرا"- (الفلسطيني الجنسية)، فعبد الواحد متأثر بأستاذه في هذا الجانب، فضلاً عن إيمانه بأن النقد هو شرح وتفسير بالدرجة الأولي، وهو ما يصبو إليه منهج النقد الجديد الذي أمن به عبد الواحد، وإن النقد الجديد ينظر للقصيدة بوصفها وحدة عضوية متكاملة ؛ لا يمكن تجزئته أبداً، لا سيما وأن عبد الواحد قد أحاط بكل القضايا المتعلقة بهذا المنهج، وقد دفعته هذه الإحاطة في المجالين التنظيري والتطبيقي لمنهجه، ولأن عبد الواحد قد سعي إلي الإلمام بالجوانب المتنوعة والمختلفة للنص، واستثمار الطاقات الواسعة لهذا المنهج.

نقل عبد "الواحد لؤلؤة" نظرية النقد الجديد إلي حيز التطبيق في استغاله علي قصيدة "عمر أبو ريشه" عندما قرأ باطن النص، وأوضح تلك الباطنية، وأثرها السيكولوجي علي المتلقي (قارئ قصيدة) الذي يحتاج إلي توضيح ليحصل التأثير الجديد للجوانب الإنسانية للقصدية حين حللها لؤلؤة إلي أجزائها الأولية . ومع ذلك علي الناقد الجديد أن يكون حذراً في التعامل مع الموضوع وينتبه إليه، بحيث تكون المشاعر هي التي تحدد تقبلها للموضوع بتجاهل تأثيرات العمل والقصدية لدي الأديب . لذلك لا بد من فصل جزئيات الموضوع إلي عناصره (العضوية) لأن في تحليل النص الأدبي من الناحية المضمونية، فإننا لا يمكن أن نهجم علي النص دون أن نحدد بوضوح مفاصله، ونعزل سماته عن بعضها البعض .. لهذا يقول لؤلؤة عن طبيعة الممارسة النقدية التي أرادها أصحاب النقد الجديد:" فالعمل الأدبي أو النص الشعري هو موضع عناية الناقد دون ما يدور حول العمل أو ما يتعلق به ".

وعندما تناول لؤلؤة قصدية "الحرب في العراق"، وكيف أنها تجاوزت علي قضايا، مثل الوزن، واللغة، لغرض تحقيق عناصرها الخاصة، من هذه الزاوية كان بلوغ الشعرية في لغة عادية تقارب ما يحكيه الناس، يُشعر بها بعض النشاز في الوزن أحياناً، انجاز كبير من منجزات قصدية الحرب، لأنها ارتفعت بلغة " غير شعرية" في الأساس إلي مستوي الشعرية، لأن اللغة انصرت في بوتقة التجربة .. هنا يكون النص بمقابل الناقد مباشرة، بكل ما يحتويه من تشكيلات لغوية لها علاقة مع شعرية النص.. وعلي الناقد أن يشير إلي هذه العوامل التي أنتجتها اللغة في النص، كما فعل "لؤلؤة" في هذا الموضع، بوصفه ناقداًً ضمن المنهج النقدي الجديد فلا بد له أن يوضح المعني الحرفي . ولكن الأهم من ذلك أن يتتبع الفروق الدقيقة في المعني والإيحاءات التي اكتسبتها الألفاظ، إما في الاتصال العادي، وإما في أنواع خاصة من الحديث .. وليس من الضروري أن يكون التحليل لفظياًً فحسب، إذ أنه قد يؤدي إلي مناقشة الرمزية الحضارية، وغيرها من العلاقات والمجاز، واللهجة التعبيرية والاستعارة والمقارنة.. الخ.. وأخيراًً فإن العمل الذي تمارسه، بعضها علي معني يقصد به تلك المعاني الفنية الخفية التي تكسبه الألفاظ في علاقاتها المتبادلة مع بعضه البعض .. وهو ما عمل عليه "لؤلؤ" في القصائد التي اختارها لشعراء عراقيين وعرب، مبيناً أهمية المعني الشعري المنبثق من اللغة واللهجة، ومدي تشكيلها لجمالية وقيمة النص .. وعندما تكون اللفظة الواحدة في القصيدة تشكل قيمة بنائية كاملة ومستقلة في إنشاء البعد الأدبي للنص يكون منهج النقد الجديد قادراً علي الإشارة إليها بدقة .. فعبد الواحد لؤلؤة يوضح في هذه قصيدة " الحدود المسروقة" لبلند الحيدري فيقول:" هذه قصيدة تستقطر مرارة الغربة عن الوطن، بكلمات بسيطة كل كلمة فيها صورة موحية الكلمة الأولي في السطر الأول " وطني" تسيطر نغمتها علي القصيدة وتبقي ترن في الآذان حتي بعد الانتهاء من القصيدة ".. وهذا من ضمن توجهات لؤلؤة النقدية، وهو ينيه علي دور الألفاظ ومعرفة معانيها في فهم القصيدة .. ويطلب من القارئ أن يكون متمكناً من فهم اللغة، ذاكراً،فبعد فهم المفردات يكون تفسير القضية أمراًً ميسوراًً يؤدي إلي تأويل يعتمد علي ثقافة القارئ العامة، وعلي اهتمامه بموضوع القصيدة .. وهذا الرأي يمثل احد خصائص منهج النقد الجديد في التفسير والفهم للعمل الأدبي، وعن أهمية استقلالية النصوص وانفصالها عن منشئيها ضمن المنهج الجديد في النقد، ذكر لؤلؤة في قضية الانتحال في الشعر العربي فقال: "لا فرق .. المهم وجود النص دون قائله، ومن هنا نبدأ" .. برؤيا نقدية تشير إلي ذهابه مع النقاد الجدد في هذه القضية..

في هذا السياق، يستذكر "عبد الواحد لؤلؤة" أيام طفولته في مدينة الموصل، مسقط رأسه، عندما كان من بين زملائه في صف واحد مسيحيون ويهود عاشوا بمحبة وسلام واحترام، يعيشون في أحياء قريبة من بعضها البعض من دون ما يعكر صفو العيش المشترك. ينتقل بعد ذلك المؤلف إلى العهود التي اعقبت الحكم الملكي، مكرساًً مساحات واسعة لأحداث عاشها العراقيون سنة 1958 وما تلاها على عهد رئيس الوزراء العراقي الأسبق عبد الكريم قاسم والمحاكم الهزلية التي شهدتها فترة حكمه كما يسميها المؤلف.

ويعرض في الوقت نفسه تصرفات رجال شجعان ذوي مبادئ راسخة شهدتها تلك الحقب. يمكن القول، إن الكاتب نجح في تقديم وصف دقيق لطبيعة المجتمع العراقي للقارئ عبر صفحات كتابه، بلغة نقدية لا تخلو من السخرية، تعكس في أحيان كثيرة تقلبات النفس البشرية وتأثير السياسية على تصرفات البشر، ومن بين ذلك الوسط الاكاديمي العراقي والعربي الذي ينتمي اليه المؤلف.

غير أن الدكتور لؤلؤة يحرص كل الحرص عبر صفحات كتابه الذي يقع بـ ١٤٤ صفحة على الترفع عن ذكر اسماء الاشخاص الصريحة لأبطال حكاياته، وكان هناك استثناء نادر في السرد عند اشادته بدور عبدالجبار الجومرد. فالهدف الواضح هو عرض ظواهر اجتماعية بارزة يحكي من خلالها تاريخ العراق. فيما يبقى القارئ في شوق لسماع احداث تخص شخصيات ادبية ودبلوماسية واكاديمية واجتماعية عاصرها المؤلف وربما ارتبط معها بمواقف أو آراء .

إلى ذلك، يؤكد الدكتور لؤلؤة أن ما ينقله للقارئ من أحداث في كتابه هي “حكايات صادقة تخفي الأسماء الحقيقية للأشخاص والأماكن، وتترك الباقي أمام اللبيب الذي لا تغيب عنه الإشارة”. تجدر الاشارة إلى أن مع صدور هذا الكتاب، يصبح عدد الاصدارات المتعددة للدكتور  عبد الواحد لؤلؤة قد بلغ  64 كتاباً... وللحديث بقية..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

...............

1- عبد الواحد لؤلؤة:  شواطئ الضياع (بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1999).

2- عبد الواحد لؤلؤة: مدائن الوهم: شعر الحداثة والشتات: دراسة نقدية في الشعر العربي (رياض الريس للكتب والنشر، بيروت 2002).

3- عبد الواحد لؤلؤة: الصوت والصدى: دراسات ومترجمات نقدية ـ (المؤسسة العربية للدراسات والنشر ـ بيروت ـ 2005).

4- الاستاذ حميد المطبعي: موسوعة أعلام العراق في القرن العشرين، الجزء الأول. الناشر, بغداد: وزارة الثقافة والاعلام، دار الشؤون الثقافية العامة، ١٩٩٥.

5- سعيد عدنان المحنة وآخرون: منهج النقد الجديد عند الناقد عبد الواحد لؤلؤة، بحث منشور بمجلة الباحث – العدد 29، 2018.

6- أ .د.ابراهيم خليل العلاف:الدكتور عبد الواحد لؤلؤة وحركة الترجمة العربية المعاصرة (مقال).

7- مقابلة عبدالواحد لؤلؤة مع محمد رضا نصرالله في برنامج (الكلمة تدق ساعة) عام ١٩٧٨م (يوتيوب).

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم