صحيفة المثقف

ليس دفاعًا عن ابن خلدون

يسري عبد الغنيإلى الباحثين عن الشهرة والأضواء..

ابن خلدون هو صاحب نظرية: صعود وهبوط الحضارات، الذي تأثر به المفكر الألماني / شيبنجلر في كتابه المشهور: أُفول أُوربا، ابن خلدون الذي أعجب به وبفكره الرئيس الأمريكي الأسبق / رونالد ريجان، عندما درس الاقتصاد والاجتماع، واعترف بأنه تأثر به في العديد في قراراته، وليس ريجان فقط الذي أقر بذلك، بل العديد من أهل الفكر والرأي والحل والعقد في الشرق والغرب .

وفي كل العصور منذ عرفت الدنيا الفكر الخلدوني. كلما جاءت سيرة العلامة عبد الرحمن بن خلدون يجب علينا أن نتأمل هذه اللحظة المهمة والفارقة في حياته ونعني بها «غرق أسرته» وهم على مشارف الوصول، هذا الحادث الذي دفعه إلى طريق الزهد، وألقى بظلاله عليه طوال حياته، لدرجة أن المؤرخين يؤكدون أن إدراك «مؤسس علم الاجتماع» للمأساة لم يكن واضحا، فأحيانا كثيرة كان يسقطها من ذاكرته ويحكى عن ابنه «زيد» الذي يعمل كاتبا لدى سلطان تونس .

أتذكر ذلك كلما هاجم أحدهم الشيخ الجليل / عبد الرحمن بن خلدون، وقلل من قيمته وعلمه، وذهب إلى أن ابن خلدون مؤرخ دون المتوسط، وأن كتابه في التاريخ «العبر» هو نقل عن نسخة رديئة لكتاب الكامل لابن الأثير.

لا أعرف الغرض من التقليل من علمائنا الأجلاء، وهو أمر بعيد تماما عن النقد، وللأسف نحن مضطرون للقول بأن الأوروبيين هم الذين اكتشفوا أهمية ابن خلدون، ودوره في بداية القرن التاسع عشر، حتى أن بالمؤرخ الإنجليزي / أرنولد توينبى رفعه إلى أعلى المستويات، وذلك عندما قال: بـأنه أكبر منظر لفلسفة التاريخ في كل الأزمنة وكل البلاد..

ابن خلدون الذي بلور نظرية متكاملة عن صعود الحضارات وانهيارها وأسباب ذلك، وأقر بذلك المؤرخ الفرنسي المعروف / فيرنان بروديل قال: ابن خلدون يعتبر من قبل المفكرين المعاصرين وهو بمثابة أحد مؤسسي علم الاجتماع السياسي.

لقد كانت فلسفته للتاريخ تقول بما معناه: الإمبراطوريات أو السلالات، كالبشر، لها حياتها الخاصة، وكثيرون منحوا الرجل حقه ودرسوا فكره واختلفوا واتفقوا معه لكن في حدود إدراك قيمته، لكن البعض لا يزال يؤمن بالبحث عن «دور» من خلال تحطيم الثابت من الأمور.

عبد الرحمن بن خلدون، رجل شغل الناس ولا يزال قادرا على فعل ذلك بأفكاره السارية منذ قرون، إنه عالم جليل وبحر فياض ومحيط واسع، ويكفيه شرفا أنه المؤسس الأول في العالم لعلم الاجتماع، وكتابه "العبر وديوان المبتدأ والخبر" من أجلّ الكتب وأعظمها في العالم على الإطلاق.

نعجب من هؤلاء الذين يزعمون كذبًا إن ابن خلدون مؤرخ دون المستوى، وأنه نقل كتابه عن نسخة رديئة من كتاب الكامل لابن الأثير، إن مقدمة كتاب ابن خلدون نتحدث عنها ولا حرج، فمن لم يقرأ مقدمة ابن خلدون، يفوته الكثير والكثير، وإذا أراد المؤرخ أن يكون مفكرا فلا بد من أن يقرأ العبر والمقدمة.

في هذه الأيام نجد أن البعض يتطاول على القامات إما رغبة في الظهور أو رغبة في الإعلام والإعلان، فكما نعلم فإن العقل البشرى لديه المقدرة على إحقاق الحق وإبطال الباطل لكنه في الوقت نفسه لديه القدرة على جعل الباطل حقا، والحق باطلا، وفق زاوية معينة.

في أيامنا هذه كثرت القامات الهزيلة الراغبة في المزاحمة في الحياة والخروج بضوء شارد، يلقى بعض أضوائه على شخصيات معينة، فمن المؤرخ إذًا، ومن عالم الاجتماع الأول في العالم إذا لم يكن ابن خلدون؟!!، وإن مثل هذه الآراء التي تهون من شأن علمائنا وتصمهم وتصفهم بأوصاف هي محض خيالات في أذهان قائليه، ثم تلقى على آذاننا على أنها نتاجات فكر، أو نتيجة بحث عميق كل هذا لا يعطى لأي إنسان الحق في التهوين من عظماء فكرنا وتاريخنا .

يكتب أهل الجزائر الشقيقة عن المكان الذي كتب فيه ابن خلدون كتاب العبر في وسط الجزائر بالقرب من مدينة "تيارت" عاصمة الرستميين، وفيها نرى الروضة الغناء التي جلس فيها "ابن خلدون" والتي يصفو فيها الفكر ويسمو العقل ويرتقى الذهن.

أقول لكم: ابن خلدون علامة فارقة في مجال العلوم، ويكفى فخرا له أن بعضنا يتناولونه بالنقد، نعم ليس إنسان فوق النقد، لكن العيب كله أن ينتفص من قدره، أو أن يقال عليه إنه مؤرخ دون المستوى، وفى النهاية يسمح لي شيخنا ومعلمنا ابن خلدون بأن نقول عنه "جزاه الله خيرا عما قدم للإسلام وللمسلمين وللبشرية كلها".

إن المقارنة بين ابن الأثير وابن خلدون غير صحيحة بالمرة، وذلك لأن ابن الأثير كان مشغولا بالتاريخ العام حتى الفترة التي عاش فيها، بينما ابن خلدون "متفرد" بما يسمى بعلم الاجتماع، وهو أمر قائم على التحليل للحوادث التاريخية.

أما هؤلاء الزاعمين بكون ابن خلدون "مؤرخ دون المتوسط"، بمثابة البحث عن إحداث ضجة بالحديث عن شخصية في حجم ابن خلدون.

ابن خلدون صاحب الفكر الاجتماعي والمعرفي الذي لا ينتهي بالتقادم، بل قادر على التجدد والتعايش مع كل المستجدات الاجتماعية والاقتصادية، وبمعنى آخر مع كل ما تعيشه أوطاننا من أحداث ووقائع، وهذا هو الفكر الأصيل الخالد الصالح لكل مكان وزمان دون إدعاءات أو أكاذيب أو تأويلات .

ابن خلدون هو صاحب الفكر الاجتماعي الأصيل الذي كان نتيجة طبيعية لكل الظروف والملابسات والأحوال التي عاشها الرجل في المعمورة العربية الإسلامية، ونتيجة أيضًا للثقافات المختلفة التي استوعبها وهضمها وتمثلها وأخرجها لنا فكرًا أصيلاً واعيًا .

إذن لا داعي لأن يأتي في أيامنا هذه من يدعي ويزعم دون أسانيد علمية أو أدلة موثقة أو براهين معمقة، يدعي أن ابن خلدون نقل أو أخذ مقدمته من رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا أو من ابن الأثير في الكامل، وبالطبع هذا نوع من الخلط الشديد في الأوراق والبديهيات، فرسائل إخوان الصفا الفلسفية والعلمية لها منطلقاتها وتوجهاتها الثقافية والفكرية التي تختلف تمامًا عن رؤى وأطروحات وأطر ابن خلدون الفكرية، والتي اعترف بأهميتها وأصالتها القاصي والداني ..

ونشير إلى أن هذا الزعم الغريب لم يقل به أحد من المفكرين أو المؤرخين أو الباحثين من قبل، في القديم أو الحديث، حتى أهل الاستشراق الذين لا يوارون أو يجاملون، وتأتي توجهاتهم في بعض الأحايين مستفزة وصادمة، وليس لديهم أي مانع من إيضاح أي مسألة من هذا القبيل، حتى هؤلاء لم يقولوا لنا أو يشيروا مجرد إشارة إلى أن ابن خلدون أخذ مقدمته من إخوان الصفا .

سيظل ابن خلدون دائمًا وأبدا هو صاحب اجتماع العمران، وصاحب فلسفة التاريخ الإنساني، وصاحب تصنيف العلوم والمعارف، يضاف إلى ذلك كونه أول واضع لعلم الاجتماع الإنساني، وليس أوجست كونت أو إميل دور كايم، كما يحلو للبعض أن يقول ويدعي في غيبة أو غفلة منا .

أقول لكم:أن مشكلتنا الحقيقية أننا لم نهتم الاهتمام الكافي والواعي بمشروع ابن خلدون الفكري، أو بالفكر الخلدوني بوجه عام، لم نطوره ونحدثه ونجعل له الآليات الفاعلة على أرض الواقع، لو فعلنا ذلك لارتقينا بفكرنا الاجتماعي بعيدًا عن الانغلاقية والجهل والتخلف .

 

بقلم: د. يسري عبد الغني

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم