صحيفة المثقف

سطور في مواجهة القبح

بليغ حمدي اسماعيلبين مشروعية الفنون الإنسانية وتحريمها بنصوص تراثية قاطعة تدور المعركة من جديد بين أنصار ورواد التنوير في الوطن العربي الذين لا يزالوا يتشبثون بمشروعهم النهضوي منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وبين ما يحلو لي تسميتهم بأمراء النساء لكثرة اهتمامهم بل ولولعهم بفقه المرأة بنفس القدر بهوس الدعوة إلى الجهاد ضد الأنظمة العربية الإسلامية القائمة والفتوى بالتحريم للفنون أولئك أيضا الذين لم يتخلوا فقط عن طروحاتهم الراديكالية الأكثر تطرفا فحسب، بل اجتهدوا أيضا في توسيع دوائر جهالاتهم الإنسانية بتحريم كل ما هو جميل وإباحة كل ما يتعلق بهوسهم المستدام بجسد المرأة وصوتها وزيها والحصول على براءات اختراع لجهاد النكاح وجهاد الحب، وإطلاق العنان لدعوات الترويع والاغتيال والقتل لكل ما هو مخالف لفكرهم الذي تم توصيفه من جانب علماء الدين الأجلاء بأنه فاسد ومغلوط وبحاجة إلى تصحيح ومراجعة .

في الوقت نفسه نجد عشرات الأئمة وشيوخا منتسبين إلى أكبر مؤسسة دينية إسلامية في العالم الأزهر الشريف يؤكدون في صحائفهم وكتبهم الأكاديمية رهينة الحبس على أرفف مكتبات الجامعات فقط وكذلك بعض المواقع الإلكترونية محدودة الانتشار يؤكدون قيمة الفن في الإسلام، وأن الإسلام الحنيف القويم لا يتصادم مع الفنون الجميلة بكافة صورها، وعلى حسب نص قول أحدهم بأنه لا وجود ولا مكان ولا حيز مسافة ربما لمن يقول إن هناك تعارضا بين الفن والإسلام.

ولكن على الشاطئ الآخر الأكثر احتداما وعصبية وقلقا بشأن ترسيخ وجودهم غير الفطري في المجتمعات الإسلامية الصحيحة يرون تحريم كل صور الفنون وأشكالها وصانعيها أيضا، وهؤلاء وصل بهم الأمر إلى تحريم دمى الأطفال الصغار ومنع الصور المصاحبة لقصص الناشئة أيضا بجانب الفتوى القطعية بتحريم أفلام الكارتون للصغار فقط هم يدشنون حروبهم من أجل خلافة واهية لا أساس لها سوى نصوص تراثية كتبها أشخاص ينتمون لعصور بائدة هم أنفسهم أسهموا في إسقاط دولة الخلافة الإسلامية بخروجهم الزمني عن أحداث العصر الذي عاشوا فيه.

وبين الفريقين ـ حقا ـ تدور معركة حامية الوطيس إن جاز استخدام تعبير تراثي غير متداول لكن إنها معركة بين فريق على إصراره في شهود الإنسانية وحضورها، وفريق آخر يبدو أن لا نهاية لهوسه بالتحريم .

ولقد اتفق المتخصصون في مجال الفنون على تقسيمات مميزة للفن عبر عصوره التاريخية، حتى أصبحت هذه التقسيمات متغلغلة في الوعي الجمعي لدى أفراد المجتمع العربي الضارب في اتساعه الثقافي والأيديولوجي والانتماء المذهبي أيضا باختلاف تكوينهم وتأسيسهم الفكري الأمر الذي يزيد من المشهد الراهن اضطرابا وغموضا، ومن هذه التقسيمات ما عرف بالفن الإسلامي الذي امتلك خصوصية ميزته عن باقي التصنيفات والتقسيمات  التاريخية للفن عبر العصور . وقصد بالفن الإسلامي وفقا لزعم الخبراء والمتخصصين أنفسهم  ذلك المنتج الذي تم إبداعه منذ الفتوحات العربية للأقطار والأمصار والذي اتسم بطراز إسلامي لم يخل من العمارة ذات الطابع الديني أو المتعلق بالرموز والإشارات الدينية مثل الخطوط العربية والنقوش المختلفة لها، وكذلك رموز خاصة مثل الهلال أو العرائس الصغيرة التي توضع داخل مجسمات وهياكل علاوة على الرسم العثماني للقرآن الكريم الذي حفلت به كافة العمارة الإسلامية .

ولاشك أن الفن الإسلامي لعب دوراً كبيراً في الحفاظ على التراث المادي للثقافة العربية والإسلامية  هذا الشأن الذي يعكر صفو كافة التنظيمات الجهادية في الشرق الأوسط فقد برعت تلك التنظيمات في تدمير كل مظاهر الشهود المعماري العربي بحجة أنها تمثل ملمحا من ملامح جاهلية العصر، فلقد مثل هذا الفن عبر عصوره جزءاً من ذاكرة الثقافة البصرية المرتبطة بتاريخ الإنسان العربي في بيئته، وهذا المنتج العربي الخالص كان يقف وراءه مبدع تشكيلي يتسم بالإبداع والجدة والأصالة، يستعين بكافة الطقوس الإسلامية الفريدة لتغليف منتجه الإبداعي الذي مثل خصوصية فريدة .

ويكفي المرء أن يطالع عملاً فنياً مصبوغاً بإشارات وطقوس إسلامية عربية حتى يتبين طبيعة وكنه هذا العمل، والذي كان يحمل عدة وظائف نفعية وجمالية، حيث إن الإنسان العربي قديماً كان يحتاج إلى الجمال الذي يحقق له ثقة وتميزاً وإشباعاً للوجدان .لكن للأسف كل يوم وليلة نشاهد هذا التدمير الداعشي الخبيث بكافة مظاهر المعمار الإسلامي الفريد الذي لم يتكرر لأسباب تتعلق بظروف الثقافة العربية المعاصرة.

ولم يقتصر الفن الإسلامي على الفنون التشكيلية المتعلقة بالمعمار أو الرسم بل تجاوز ذلك ليشمل فنوناً أخرى مثل الموسيقى والغناء وما يرتبط به من إيقاع جسدي يمكننا أن نطلق عليه على استحياء كلمة الرقص، ومن هنا تأتي المشكلة التي قد يواجهها الفن الإسلامي في المرحلة المقبلة والتي تشهد تصاعداً كبيراً للتيارات الدينية السلفية والتي ترى في الفن حرمة وبدعة .

فكتب معظم إن لم تكن كافة الجماعات الراديكالية بدءا من الجماعة الإسلامية التي انفجر تكوينها في سبعينيات القرن العشرين وزاد انفجارها بتكوين وتأسيس فرق صغرى عنها مثل جماعة التكفير والهجرة والسلفية الجهادية حتى انتهى بنا المشهد إلى التسليم بوجود تنظيم داعش الإرهابي  تؤكد على حرمة الفن بل تذهب بفكرها القمعي المتطرف  بعيداً بأن الفن شرك بالله وكفر بين، ومن هذا المنطلق فجميع الفنون حرام لأنها أولاً تلهي عن ذكر الله، بالإضافة إلى أنها من وساوس الشيطان التي تبعد المرء عن ربه، وبشأن فتاويهم دار الجدل الطويل بين المتزعمين لتكفير الفنون، وبين المستنيرين من رجال الدين الذي لا يرون حرمة أو شركاً في الفنون التي تبعث الجمال بالوجدان وليس من شأنها أن تبعد المرء عن ربه في عباداته وفرائضه المكتوبة .

ولكن تجد في سياق الكتابات الأصولية المعاصرة  من يشير إلى وجود ما يسمى بالفن الإسلامي ولكن متجنبين كلمة الفن ليضعوا مكانها كلمة عمل هذا مع اختلاف توجهات أصحاب هذه الكتابات التي قد تشير إلى الفن باعتباره ثمة خطوط وتصاميم تشبه الأرابيسك فحسب، وهم يقصدون بالطبع العمارة الإسلامية التي تتمثل في النقوش والزخارف والرسوم المجردة من التجسيد، لذا فلا وجود للأنواع الأخرى من الفنون التي ارتبطت بالفن الإسلامي مثل الرسم والنحت والموسيقى وأخيراً الغناء أو الإنشاد.

ولا يستطيع منكر أن ينسى الدور الذي لعبه الفن الراقي البعيد عن المشاعر الرخيصة المبتذلة، حين ساهم في تأجيج مشاعر الكثير من البلدان العربية وقت مشاهداتهم التاريخية من انتصارات أو أعياد أو ما تزامن وقت ثورات الربيع العربي حيث كان الفن من تصوير وموسيقى خصيصة رئيسة في المشهد الثوري آنذاك ، وكم كان الفن باعثاً لاستمرارية تلك الاحتجاجات والانتفاضات والثورات ورغم ذلك الحضور الطاغي للفن لم نجد ساعتها من أولياء التيارات الدينية من يحرمه أو أن ينكر دوره بالقول أو بالفعل .

هذا ما يؤده تأريخ تلك الفترات حيث كمون فتاوى التحريم وتعطيل العمل بقانون الرفض والتجريم والتفسيق الجاهز لدى تلك التيارات والجماعات، هي فقط جديرة وماهرة في القفز على مكتسبات الفعل الشعبي الجمعي واقتناصها بعيدا عن طموحات الوطن وآماله.

لكن، ماذا يحدث لو تمكنت تنظيمات الراديكالية مثل تنظيم داعش من افتراس المدنية ووجوه الثقافة الجمالية،  وسقطت الأوطان والمجتمعات  في أيدي هذه التيارات المتشددة ؟ هذا سؤال لابد وأن يطرح استشرافاً لمستقبل قد يبدو غامضاً بعض الشئ، ولا يستطيع شخص أن يتنبئ بإحداثيات هذا الشرق المسكين ثقافيا وتنويريا  في ظل حالات الالتباس والغموض التي تعتريه . فهل حينئذ سيتم القضاء على هذا الرصيد التاريخي للفن في كل دول العرب ؟ وحينما أتكلم على الفن لا أشير إلى الفنون الاقتصادية تلك التي تستحوذ على ما في جيوب العوام المستهلكين للثقافة بغير انتاجها من نقود مثل السينما والغناء التجاري والمسرح الاستثماري، بل الفن في منحاه غير الاقتصادي مثل الرسم والنحت والأشغال الفنية والفنون الشعبية والموسيقى التي لا تستهدف الربح .

وهؤلاء المنتمون لهذه الفنون الجميلة بالطبع يعانون من أزمة الاستبعاد الاجتماعي من الأساس فلا تراهم في برامج التوك شو، وربما تتعمد الفضائيات العربية واسعة الانتشار  في  استضافتهم إلا  في أوقات عادة ما يكون جهاز التلفاز مغلقاً كساعات العصر المنسية، أو بعد الثالثة صباحاً، وبالتالي لن يشاهد الفنان سواه منفرداً بالجلوس على مقعده وهو يتجرع أحزانه .

وظاهرة تحريم الفن وإقصائه من الوجود الإنساني لم تكن حاضرة اليوم فقط، بل كلنا لا يزال يتذكر  ما شاهدناه منذ فترة ليست بالوجيزة زمنيا في مدينة الإسكندرية المصرية من تغطية لبعض التماثيل التاريخية في إحدى اللقاءات الدينية لشيوخ السلفية لهو خير دليل على مستقبل آت، يحرم فيه الفن الجميل، ولست أدعي رغم كوني متخصصاً في الدراسات الإسلامية بأن وجود تلك التماثيل وغيرها لا تدخل في باب التحريم من منطق الاجتهاد، أولاً لأننا لا نعبد مثل هذه التماثيل والحمد لله منذ بزوغ الإسلام، ثانياً أن هذه الأعمال الفنية هي خير شاهد على حقبة تاريخية مرت واستقرت بمصر المحروسة وجزء من ماضيها الذي لم نشاهده رأي العين . لكن تظل المشكلة ذهنية وزمنية لدى هؤلاء نظرا لتوقف عجلة الزمن بهم عند نص تراثي أنتجه شخص في ظروف معينة وتوقيت يصعب معه تأويل الحاضر بالماضي.

وإذا كان المنتمون للتيارات المتشددة دينياً يدركون أن هناك وجوداً لا يمكن طمسه اسمه الفن الإسلامي، فكيف يجوز لهم بعد ذلك طمس معالم هذا الفن الذي كان ضمن سياق الحضارة الإسلامية في أزهر وأزهى عصورها، وتكفي شهادة عالمين أثريين هما (دوجلاس بريور) و(إيملي تيتر) حينما أكدا انفراد الإنسان المصري في صبغ جميع ألوان الفنون، وأن الهوية المصرية تبدو ثابتة في كافة الفنون التي أنتجتها الحضارة الإنسانية .

وإذا كنا غير مشاركين للدولة العثمانية حينما قررت أن تنقل الصناع المهرة إلى الأستانة لتشييد حضارة عالمية هي تركيا الآن، فإننا نبدو الآن أكثر تخاذلاً حينما نصمت ونحن نرى بعض مظاهر القمع المتمثل في فتاوى داعش تجاه الفن الراقي النظيف والبعيد عن الابتذال والعهر .

وعودة إلى تأريخ معاصر بعض الشئ، تحديدا في مطلع شهر فبراير من العام 2012م أي في ظل المد السياسي والتصاعد الشعبوي المحموم لتنظيم حسن البنا المعروف بجماعة الإخوان وأيضا  فصائل التيار السلفي المتعددة، تناقلت معظم الوسائط الإعلامية خبرين مفادهما صدور حكم بحبس بعض الفنانين وتغريمهم ماليا نتيجة الدعوى القضائية التي اتهمتهم وقتئذ بالإساءة إلى الدين الإسلامي وازدرائهم له في أعمالهم السينمائية والمسرحية في بعض الأعمال السينمائية التي تم عرضها منذ عشرات السنين. والخبر الثاني هو الاعتداء على طاقم العمل الفني لمسلسل ذات عن رواية المبدع صنع الله إبراهيم التي تحمل نفس الاسم، والاعتراض جاء نتيجة لارتداء بطلات المسلسل ملابس لا تليق بالحرم الجامعي نظراً لأن المشاهد كانت تصور به . ولا أظن أن هؤلاء قد قرأوا نص الرواية التي خطها صنع الله إبراهيم والتي طالعتها منذ سنوات بعيدة وإلا رموا هذا الرجل بالكفر ونشر الرذيلة والإباحية كما كان يفعل ذلك أباطرة التكفير مع عميد الرواية العربية نجيب محفوظ في القرن الماضي وفعلوها مع المفكر نصر حامد أبو زيد وأدونيس وكثيرين غيرهم .

والحق أقول إن من يدعي لنفسه امتيازاً للدفاع عن الإسلام فلينتبه إلى مزاعم المستشرقين ومطاعنهم في الدين، ومطاعن الاستشراق المعاصر ومحاولات تشويه الإسلام، أما المزايدات الإعلامية التي انتشرت ولا تزال تنتشر بخطىً وئيدة على استحياء الظهور نتيجة ارتفاع وهبوط  موجة التيارات الراديكالية المتطرفة فهي محاولة لإيجاد مقعد وثير لفئات وطوائف وفصائل باتت محرومة من التواجد داخل أنساق المجتمعات العربية لفترات طويلة .

وكم هو مضحك عندما نشاهد ونحن أكثر ولعا بالفرجة بعض الفنانين أنفسهم أولئك المدعين بالانتماءات الدينية والذين قفزوا على مشهد استلاب الجماعة لحكم مصر بأنهم أعلنوا توبتهم عن أعمالهم التي قدموها، فماذا سيفعل إذن أولئك الموتورين حينما لا يجدون قضايا يدغدغون مشاعر البسطاء بها ويدخلونا في قضايا ترهق عقل الوطن الذي هو بحاجة ماسة لفكر واضح ورأي سديد .وليت هؤلاء الذين أعلنوا وصايتهم على نشر الفضيلة في المحروسة تيقنوا من حجمهم حينما علموا حجم وكم التيارات والائتلافات والحركات التي أعلنت تضامنها على سبيل المثال لا الحصر مع عادل إمام في قضيته التي لا محل لها من الإعراب في نص بات مشوهاً لغوياً أقصد مصر الجميلة وقتما أقيمت دعوى قضائية ضده بشأن ازدراء الإسلام.

وإذا كان المتشددون قد أضافوا لأنفسهم دوراً جديداً في المشهد الاجتماعي المعاصر وهو دور المخرج لذلك أعلنوا إنهاء المشهد الحالي، فكان عليهم أن يقدموا لنا تصوراً واضحاً في صورة مكتوبة عن رؤيتهم للفن، وإذا كان حراماً أو ضلالاً بائناً، فإنني أطالبهم بصفة استثنائية أن يقترحوا لنا بدائل ترويحية لا تخرجنا من باب الفضيلة ولا تزهق أرواحنا من الفتنة، وأعتقد أنهم لا يجيدون ذلك لأن من اعتاد الرفض والقمع لم يعتاد على التجديد والإبداع .

حقاً إن الفنون جميعها في مرحلة استثنائية في ظل هذا التصاعد غير المحمود للأفكار التي باتت غير صالحة هذه الأيام، الفنون التي تحيا في ظل الحريات بعض التيارات تحاول وأدها بطريقة مفجعة وحشية، لذا سيبقى هناك جدل واسع وصراع مستدام بين حالة راهنة؛ مبدعون يشكلون وجهاً لهذا الوطن، وأمير وخليفة واهم ارتدى ثوب المخرج متطرف لا علاقة له بالفن الخام ولا بما يتشابك مع جوهر الثقافة العربية، كل ما يعنيه هو أن يتقمص دور المخرج فيصرح بصوت عال دونما علم أو رؤية : اقطع ..

 

الدكتور بليغ حمدي إسماعيل

أستاذ المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية (م)

كلية التربية ـ جامعة المنيا ـ مصر

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم