صحيفة المثقف

جبرا إبراهيم جبرا.. الشاعر والأديب والفنان (1)

محمود محمد عليالحياة مهنتي وهوايتي معاً . أشعر أنني فتحت صدري وعقلي لأناس كثيرين، وكانت في صلتي بهم دائماً حرارة إيجابية تجعلني أريد أن أفهمهم وأتعاطف معهم، أو أتفاعل معهم، بما يعقب ذلك دائماً من حب أو خيبة، أو مرارة أو غضب . هذه هي دروبي إلي الرؤية النهائية التي هي: جبرا إبراهيم جبرا؛ ذلك الشاعر والناقد الفلسطيني الذي يعد اسماً كبيراً بين الأسماء التي تنتمي إلي زمن عربي هو زمن الولادة والانتقال إلي حقبة جديدة من الثقافة والفكر العربي، هي: "حقبة التحول" الذي وضع الحد الفاصل، الأساسي والعميق بين مرحلتين في الثقافة العربية الحديثة: فأما المرحلة الأولي فقد ركزت نفسها من خلال ذلك "المعطي الإحيائي" وامتدت به إلي ما يُعتبر لمحات تجديدية لم تمتلك من قوة التأثير ما يجعل منها تياراً.. وأما المرحلة الثانية والتي يمثلها "جبرا" وجيله، وقد وضعوا أنفسهم (وعصرهم) في إطار أخذت نفسها وعملها بفكرة التقدم بالحياة والإنسان من خلال ما قدمت من مفهومات وأعمال وعيها الجديد، وعبرت بها عن وجودها الجديد، فاتحة لعصرها، كما لنفسها، أفق الحداثة، بكل ما رسم من صور متغيرة ومغيرة للواقع العربي الجديد...وبفعل فكرة التواصل لما هو وجود مستمر للجيل في مسار حركته هذه، وما هو بناء متواصل لما يؤكد فيه الجديد نفسه، وتؤكد فيه الحداثة مفهومها ومعناها، كان التوتر الخلاق رفيق هذا الجيل، والإضافة طابع عمله المميز.. فكان، بذلك جيلاً مؤسساً بحق وحقيقة.

يعد "جبرا" من المبدعين البارعين، ذا خبرة واسعة وثقافة موسوعية كثيفة، ذا فطنة وذكاء حادين، يسخر ذلك في صنع الحدث الأدبي والعمل الفني، مما يجعل أعماله الأدبية تفيض بالجاذبية الساحرة والاستقطابية المفرطة، لأنه صاحب حضور فعال في خلق الحالة السردية القصصية التي تميزه عن غيره من الروائيين والقصاصين معاً، لذلك نجده يعيش حالة تعبيرية مفعمة بالإحساس، تفوح منها لحظات الصدق الوصفي والتفاعلي والحالة الاندماجية في الحدث، لدرجة أن الإنسان يري نفسه في الفن القصصي أو الروائي الذي يقرأه من خلال أسطر جبرا ومفرداته، ما يزيد تلك الحالة ميزة إيجابية في أن جبرا يقتدر علي تغيير العادي والمألوف في البيئة والحياة بشكل عام إلي مادة فنية غزيرة تتجمل بالأفكار المفعمة بالثقافة  والتفاعل مع الحياة، لذا نجد موهبة جبرا قد تساعد علي إثارة  ما يسمي بالواقعي والمتخيل في إبداعاته، وكأن العلاقة بين (الواقعي والمتخيل) علاقة تكاملية جدلية بنائية، حيث تتجدد الروعة وتستمد نمائها من ذاتها حتي لا تنقضي.

ومثل ذلك يخلق حالة من الإغراء الإيجابي لدي كل من الدارسين والباحثين والمتمتعين بفنون "جبرا" أن يبحثوا عنه بين أعماله وإبداعاته وشخوصه التي ينميها ويجعلها تحكي كل ما يريد أن يحيه، فنري شخوصه وهم يفعلون ويعتمرون الروايات والقصص التي نماها جبرا بذوقه وفكر هو يدل علي ذلك عبق ثقافته المتجددة، من أجل معرفة الأحداث ومتابعة المشاهد واللقطات التي تعجبها رواياته وقصصه، ويجعل هناك أحياناً حالة من المشابهة التطابقية بين شخوصه وذاته، لأن المرء يستطيع أن يخرج ملامح وصفات جبرا الخاصة من خلال نصه المشخص.

وكل ذلك يرينا أن "جبرا" يمتلك موهبة عميقة بالغة الجذور، فهو من الذين امتلكوا القص وعشق ما له علاقة بالفن، فعشق الرسم والشعر والموسيقي، وعشق الإثارة، والرقص والطبيعة وكل ما له صلة بالجمال..  كان "جبرا إبراهيم جبرا" قارئاً كبيراً، ومحباً للقراءة إلي درجة الهذيان ، ولا بد أن يتشكل من خلال هذه القراءة ناقد كبير.

وُلد "جبرا إبراهيم جبرا مسعود" في بيت لحم يوم 28-8-1920، والتحق بمدرسة طائفة السريان خلال المرحلة الابتدائية، ثم بمدرسة بيت لحم الوطنية، والمدرسة الرشيدية في القدس التي أتاحت له التعرف على الأستاذة الكبار، أمثال إبراهيم طوقان، واسحق موسى الحسيني، وأبي سلمى (عبد الكريم الكرمي)، ومحمد خورشيد (العدناني)، ثم التحق بالكلية العربية في القدس. وخلال هذه الفترة تمكن من اللغتين العربية والإنجليزية بشكل ممتاز، إضافة إلى لغة السريان التي هي طائفة أسرته.

نشا " جبرا" في بيت لحم، ودرس في مدرسة السريان الكاثوليك، فألم بالإنجليزية والسريانية، إضافة إلي إتقانه العربية ؛ مما شكل عنده أداة بارزة من أدوات النقد، وفي كلية العربية في القدس، درس: الأدب، والتربية، وكان ميالاً إلي الكتابة العربية أثناء دراسته.   سافر "جبرا" الى مصر ومن ثم إلى بريطانيا حيث التحق بجامعة كمبردج، وحصل منها على الماجستير في النقد الأدبي عام 1948. وفي إنجلترا درس الأدب الإنجليزي، فظهرت ميوله إلي الاهتمام بالنقد، فكان النقد في تلك الحقبة يعني نقد الأدب لا مجرد تاريخ الأدب، وفهم " جبرا" التاريخ باعتباره عنصراً مساعداً في عملية الإبانة عن مخفي الأمور، عن طريق وضعه في سياق معين.

درس "جبرا" أساليب النقد الأدبي الحديث في أشهر المدارس النقدية في إنجلترا وأمريكا "التي تصر علي النص مجرداً من أي اعتبار آخر" . وقد درس في عام 1975م التحولات الاجتماعية العربية من خلال بعض الشعراء المعاصرين (محمد مهدي الجواهري، ويوسف الخال، وبدر شاكر السياب، وأودونيس (علي أحمد سعيد)، وتوفيق صائغ، ونزار قباني).

بعد دراسته في كمبريدج وهارفارد توجه إلى العراق لتدريس الأدب الإنجليزي. وهناك تعرف على الآنسة لميعة برقي العسكري التي شكلت انعطافاً في مسار حياته. فقد تزوجا وانجبا ولدين، هما سدير وياسر، وحمل جبرا الجنسية العراقية التي ما كان لها أن تفصله عن جنسيته الفلسطينية التي حافظ على لهجتها،  حتى آخر لحظة في حياته.

وكان لجبرا شأن كبير في الحياة الثقافية العراقية، حيث أنشأ مع الفنان الكبير جواد سليم “جماعة بغداد للفن الحديث” عام 1951. وكتب مقدمة المجموعة المبكرة "أغاني المدينة الميتة" للشاعر "بلند الحيدري". وأثرت صداقته في بدر شاكر السياب الذي أطلع من جبرا على فصول من كتاب "الغصن الذهبي" للسير جيمس فريزر، وهو مما أسهم في اقتناع السياب بالمدرسة التموزية في الشعر. وإلى ذلك كان لنتاج جبرا نفسه من رواية وقصة قصيرة ورسوم ونقد وترجمة أثر كبير في الأجيال العربية.

أما فيما يتعلق بالتيارات النقدية التي تأثر بها  جبرا في رؤيته النقدية، فتتمثل في: المدرسة المنهجية الشكلانية، ومدرسة النقد الجديد في أوربا . ومن المعروف أن " جبرا" لم يتأثر بالمدارس الماركسية ومنطلقاتها وتوجهاتها السائدة في إنجلترا – مثلاً – ولكن ميوله الخاصة كانت نحو المدارس التي لا تحفل إلا بالنص.

وعن تكوين شخصيته: تركت فاجعة سقوط فلسطين، وتعرض الشعب الفلسطيني لأكبر عملية قرصنة في التاريخ الإنساني أثراً كبيراً في تكوين شخصية " جبرا" الأديب والناقد، فقد انصبت اهتمامه بعد النكبة علي الأدب العربي، واتجه إلي الكتابة العربية؛ لإبراز الهوية  الحضارية لهذه الأمة، مؤمناً بأن الانطلاق إلي العالمية والمشروع الأدبي الإنساني يأتي من خلال الانطلاق في البيئة الشعبية التي تعكس– بكل صدق – هوية هذا الشعب الذي هو واحد منه، وقد حاول من خلال العمل الروائي – بكل شخوصه – أن يعكس تجربته الذاتية.

قال " جبرا" عن هذه المرحلة ": وكان مجيئ إلي بغداد عام 1948م هو البداية لمرحلة فاصلة في حياتي الفكرية، إذ جعلت أحول همي من جديد نحو الكتابة العربية حول مواضيع الإبداع العربي، مزاوجاً كما كنت من قبل أزاوج بين الكتابة كعملية خلق والكتابة كعملية نقد جاعلاً العمليتين تصب كلتاهما في الأخرى كأمر حتمي.

تعرف "جبرا" في بداية نشاطه الأدبي علي النقد الجديد – كما راجت هذه التسمية –الذي يقوم أساساً علي فصل النص عن صاحبه، واكتناه النص للبحث في طياته بهدف استخراج ما فيه . وقد درس " جبرا" هذا المنهج من خلال أعمال: آي. إيه ريتشارد، وأرشي بولد ماكليش . واستفاد " جبرا" من هذا المنهج في بلورة مفاهيمه التي برزت في مقالاته النقدية وحواراته المتتابعة، وأشار إليه حين عده مدا نابعا من ينابيع نقدية، استقيت من كتب أفلاطون وأرسطو. وبين أنه ربما نبع من القضايا الإنسانية الراهنة، وهب بحد ذاتها تعبير المرء عن ذات في ممارسته حقه كإنسان.

لقد عاش "جبرا" زمناً وعمرا حافلاً بالعطاء الكثير، كتب في مجالات متعددة، إذ عرفنا له الفن الروائي، فكتب " السفينة" والبحث عن وليد مسعود، وقصة حب محبوسة مع الفنان المبدع "عبد الرحمن منيف"، وغيرها، وكتب أيضا في مجالات النقد مثل الحرية والطوفان وكذلك الفن في العراق اليوم باللغة الإنجليزية والرحلة الثامنة والفن العراقي المعاصر وغير ذلك الكثير وترجم أعمالا أدبية ممتعة منها ثمانية أعمال لشكسبير، كمسرحية عطيل، وهاملت، وماكبث، والملك لير، وعطيل، والعاصفة، والسونيتات لشكسبير، وبرج بابل لأندريه مارو، والأمير السعيد لأوسكار وايلد، والصخب والعنف لوليام فوكنر، وما قبل الفلسفة لهنري فرانكفورت.. وهلم جرا ؛ ولجبرا دراسات هي: ترويض النمرة، والحرية والطوفان، والفن والحلم والفعل، وتأملات في بنيان مرمري، والنار والجوهر، والأسطورة والرمز، فيما جمعت أعماله النقدية في كتاب بعنوان "اقنعة الحقيقة.. أقنعة الخيال". ومن أجل ذلك نال جائزة صدام حسين للرواية العربية، ونال أيضا جائزة سلطان العويس للنقد الأدبي عام 1990، ووسام القدس تقديرا لإنجازه الأدبي.

"جبرا" قامة ثقافية رفيعة وعالية كما تبين في تقويم المثقفين الحقيقيين له، وهذه ميزة اكتسبها من خلال تقديم نتاج إبداعي ثر في حقول إبداعية مختلفة، وليس بمعونة واجهات سياسية وإعلامية بارعة في صناعة النجوم الخلّب. هو الذي ترك إرثاً واسعاً يعدّ اليوم جزءاً من أهم منجزات الثقافة العربية المعاصرة.

وعلى الرغم من أن عالم "جبرا"، متعدد الوجوه، يقرأ في مراجعه الثقافية، فإن تلك المراجع تستمد دلالتها من مفهوم أساسي هو: التجربة المعيشة، التي تحكي فقدان الوطن وتجربة اللاجئ. وقد تسرب هذان البعدان عميقاً في شخصية جبرا وإنتاجه الفكري، وقسما الزمن الى قسمين متلازمين: القدس وما قبل اللجوء، إذ جبرا في مدينته الأثيرة يعلم ويرسم وينشئ النوادي الفنية، وحصار القدس وما بعد اللجوء. والقسم الأول يحرض الذاكرة ويرسل بها بعيداً إلى أيام الطفولة والصبا، التي تحتل فيها مدينة "بيت لحم" موقعاً واسعاً، رسمه جبرا بحنين دافئ في "البئر الأولى"، أما القسم الثاني فينتشر في "رواية الأمل"، التي تحلم بفلسطيني نظيف كريم الخلق يعشق المعرفة، يليق بالمهمة الموكلة اليه، التي تعني استعادة ما فقده والعودة من جديد إلى الوطن.

من كل سبق يتضح لنا أن "جبر إبراهيم جبرا" كان متعدد المواهب والقدرات، فقد كتب الرواية والقصة القصيرة والسيرة، والشعر، والنقد الأدبي والفني، وكذلك المقالة، كما مارس الرسم، وعمل في إحياء تراث وفن بغداد، وقد ترجم عددا من الكتب الثمينة، فكان نعم الإنسان المثقف المبدع والأكاديمي الناجح، والفنان المتعدد المواهب في النماء والعطاء، فقد لقي احتراماً وتقديراً من المجتمع العراقي بأكمله دون النظر إلي الانتماءات السياسية، إلي أن توفاه الله في شهر كانون الأول عام 1994 ودفن في بغداد.

رحل "جبرا" مع أشياء كثيرة رحلت، فلا القدس التي عاش فيها بقيت كما كانت، ولا بغداد وقاها الزمن من لعنات مقبلة.. وفي نهاية هذا المقال أقول مع بعض القائلين: إن كان لهذا الفلسطيني، المصاغ من الألفة والنجابة، صفة تليق به، فهي: المتعدد، لا بمعنى عدم اليقين، كما يقال، بل بمعنى: فائض الموهبة، الذي أخذ به إلى أجناس كتابية متعددة، وإلى ألوان من الفنون... وللحديث بقية..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

...............

1- ماجد السامرائي: جبرا إبراهيم جبرا رجل فكر وإبداع .. مقال منشور في مجلة آداب، عدد 3-4، سنة 43، عام 1995.

2- خالد علي مصطفى: "جبرا ابراهيم جبرا شاعراً" .. مقال منشور في مجلة آداب، عدد 3-4، سنة 43، عام 1995.

3- د. محمد ماجد مجلي الدخيل: الرؤية النقدية عند جبرا إبراهيم جبرا، مجلة جامعة الملك عبدالعزيز: الآداب والعلوم الانسانية، م 23، ص ص89-103-2016.

4- جبرا إبراهيم جبرا… الروائي الموسوعي | القدس العربي.. مقال.

5- «جبرا إبراهيم جبرا»: الإنسان الكامل والفنان الكامل – إضاءات.

6- جبرا إبراهيم جبرا.. أهم من ترجم أعمال شكسبير | الوفد.

7- صورة القدس في روايات جبرا ابراهيم جبرا | مجلة جامعة الأزهر – غزة.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم