صحيفة المثقف

أول دراسة نقدية موسّعة لرواية "مستر نوركَه" لنوزت شمدين

عدنان حسين احمدمستر نوركَه.. عراقي يؤمن بوهم الانتماء إلى الأرومة النرويجية

تشتبك رواية "مستر نوركَه" الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت لنوزت شمدين مع السيرة الذاتية للكاتب والمخرج المسرحي النرويجي هنريك إبسن، وتجعل من حياته الشخصية، والإبداعية، وتنقلاته في أكثر من بلدٍ أوروبي أشبة بنص موازٍ للنص الروائي الذي كتبه مُوثقًا فيه أوجه التشابه، وإدعّاء صلة الرحم التي تحاول أن تُثبت بأن نافع غانم القصّاب المُلقّب بـ "نوركَة" هو حفيد هنريك إبسن.

يعتمد نوزت شمدين في هذه الرواية على تقنية التعالق Correlation بعدد من الأفكار المتوهجة التي اجترحتها قريحة هنريك إبسن في عدد من مسرحياته مثل "عدوّ الشعب"، "هيدا جابلر"، "عندما نستيقظ نحن الموتى" وما سواها من مسرحياته المعروفة التي تعمّقت في دراسة الإنسان والمجتمع الذي يعيش فيه. لم يكتفِ شمدين بهذه التعالقات المُقتَبسة من مسرحياته مباشرة وإنما لجأ إلى ترصيع نصه السردي ببعض أقوال وحكم إبسن مثل "إذا شكّكتَ بنفسكَ تكون واقفًا على أرضٍ مُهتزّة".

تتداخل الأزمنة في رواية "مستر نوركَه" لكنها تتضح شيئًا فشيئًا حينما نبدأ بزواج غانم أحمد القصّاب من محاسن ذات الخمسة عشر ربيعًا التي انتقلت من حيّ الفيصلية في البصرة إلى الكاظمية في بغداد وتحوّلت حياتها إلى سجن دائم وجحيم لا يُطاق لكنها تحمّلت كل شيء . . . الضرب، والتعنيف، والعزلة الاجتماعية، والأبشع من ذلك كله أنهُ كان يكبرها بـ 33 سنة الأمر الذي وسّع الهوّة بينهما لكنها تحمّلته لمدة 22 عامًا من أجل الحفاظ على ولدها نافع وابنتها واجدة.

لمسات فنتازية

2265 مسترنوركهعلى الرغم من أهمية الشخصيات في هذه الرواية المتشعِّبة إلاّ أن سطوة شخصية نافع لا يمكن إنكارها أبدًا، وسوف تطغى على المسار السردي وتهيمن عليه في الأعمّ الأغلب. لابد من الأخذ بنظر الاعتبار أن شمدين قد بنى هذه الشخصية الإشكالية بطريقة أسطورية لا تخلو من اللمسات الفنتازية التي تقنع القارئ بالقوة الخارقة التي يمتلكها هذا الشاب اليافع الذي يحفظ كل ما تقع عليه عيناه، وتسمعه أذناه، فذاكرته أشبه بجهاز تسجيل يحفظ كل ما يراه بالفوارز والنقاط من دون أن يفلت منه حرف واحد أو تفوته حركة إعرابية. وسوف يقدّم لاحقًا في المكتبة العامة وصالات بعض المسارح عروضًا مُدهشة لاختبار ذاكرته العجيبة الخارجة عن المألوف.

يتعرّض نافع منذ طفولته إلى عقاب الوالد المتجبِّر كلّما ضبطه يلعب مع أبناء المحلة لكن شقيقته واجدة، الأكبر سنًا منه كانت تكسر هذا الحظر الذي فرضه الوالد، وتسمح له باللعب لمدة نصف ساعة على أن يعود بعدها إلى المنزل، لكنه كان يتمادى في بعض الأحيان ويتأخر فيُوسعه الوالد ضربًا بعصا الخيزان أمام أقرانه غير أنه لم يكن يتألم، ولم يذرف دمعة واحدة قط طوال عشرين دقيقة من العقاب. يتطاول الأب غانم على زوجته محاسن ويصفها بأقذع الألفاظ حين يقول:"ابنُكِ، ابنُ حرام وليس من صُلبي، وجبَ عليّ دفنكما معًا منذ وقت طويل أيتها الـ. . . ." يتضمن النسق السردي للرواية حادثتان لابد من الوقوف عندهما؛ الأولى وهي سفرته إلى البصرة وعمله مع خالة بشير سمبوسة في مطعم يحضّر وجبات طعام يوميًا لطاقم أجنبي متعدد الجنسيات الأمر الذي يدفعهم للانتقال إلى مدينة "القرنة" حيث عمل نوركَه بصفته مساعدًا يتقاضى أجرًا مقابل ذاكرته العجيبة التي تختزن كل شيء تقرأه أو تسمعه. تثير موهبة نوركَه في الحفظ، وقدرته على التذكّر إعجاب الرحّالة النرويجي ثور هايردال الذي يرأس مجموعة تصنع قاربًا من القصب والبردي على غرار قوارب السومريين وينهمك في العمل معهم طوال عطلته الصيفية ويعود إلى بغداد قبل أن يشرع القارب في رحلته لكننا نخرج من هذه القصة بالذات بثيمة معززة لثيمة الرواية الرئيسة التي تحاول أن تثبت صلة الرحم بين نوركّه وجده هنريك يوهان إبسن حيث يخبره هايردال بحكمة هي أقرب إلى النبوءة مفادها أنك "لن تستطيع شراء تذكرة لدخول الجنة؛ لأنّ عليك أن تفتش عنها وتعثر عليها بنفسك، وستفعل هذا بلا شك في يوم من الأيام".

أكلة لحوم البشر

 والحادثة الثانية هي رحلة العائلة إلى قرية "البشائر" التابعة لمحافظة الموصل لزيارة الحاج منذر، وهو شيخ في الثمانينات من عمره سرد لهم عدة قصص عن اضطرار الناس بسبب الفقر والمجاعة إلى أكل لحوم البشر من مختلف الأعمار من دون أن يعرفوا ذلك، فقد قام عبّود وخجّاوة بذبح امرأة أرمنية وعدد من الأطفال الصغار في السن، وطبخوا لحمهم وباعوه على عربة متنقلة في السوق حتى أن أبًا أكل لحم ابنه من دون أن يعرف ذلك. وحينما يتم إبلاغ الشرطة تقبض عليه وعلى زوجته، وتكتشف بقايا بشرية في حفرة بسرداب المنزل، كما يتم العثور على ابنه حازم مكوّرًا مذعورًا في زاوية من زوايا المنزل خشية من أن يطاله غضب ذوي الضحايا ويقطّعوه مثلما قُطعت لحوم أبنائهم. حينما ينتهي الحاج منذر من قصته الفظيعة المؤلمة يخبرهم بأن الطفل المذعور حازم هو غانم القصاب بشحمه ولحمه. فما هو السلوك الذي تنتظره محاسن من طفل شهد جرائم مروّعة تقشعر لها الأبدان؟

وفي أثناء حظر التجوال تدور الشكوك حول متهم بتفجير السفارات يتكلّم اللغة العربية ولغة أخرى يمكن أن تكون النرويجية نخلص منها بأن اسم المتهم هو نافع غانم أحمد القصّاب الذي يُطلق عليه اسم "نوركَه"، وأنّ اسم أمه هو محاسن وحيد، ويسكن العطيفية قرب الجسر، ويدّعي بأنّ جدّه هو الكاتب المسرحي النرويجي هنريك يوهان إبسن، ويسعى بكل الطرق للعودة إلى وطنه بعد غربته الطويلة في العراق. وبَغية إخلاء سبيله جلبت شقيقته واجدة إلى القاضي ملفًا يحتوي على جواز سفرة ورزمة من التقارير الطبية التي تُثبت إعفاءه من الخدمة العسرية لأنه مصاب بالشيزوفرينيا أو الفصام وأنّ ضحايا هذا المرض يتوهمون بأنهم أشخاص آخرون ينتمون عرقيًا إلى شعوب أخرى كما هو الحال مع نوركَه.

شخصيات وهمية

كان نوركَه يُعفى في الدروس المُقرّرة كلها، وفي الصف الخامس الأدبي تحوّل إلى أسطورة في حفظ المواد التي يقرأها عن ظهر قلب، وقد أدهش مُدرّسي التاريخ، والجغرافية، واللغة العربية، والتربية الدينية حينما استظهر لهم موضوعات وقصائد وآيات من الذِكر الحكيم من دون أن يقترف خطأً واحدا حتى بدا للجميع أشبه بالمعجزة في هذه السن المبكرة من حياته. وقد تضاعف هذا الإعجاب به حينما قدّم عروضًا لاختبار ذاكرته في المكتبة العامة وبعض مسارح المدينة لكنهم سرعان ما أوقفوا هذه العروض، ومنعوا مكتبات شارع المتنبي وغيرها من تأمين كتب إبسن ومسرحياته التي أثارت لغطًا كبيرًا في الأوساط الثقافية والفنية في العراق.

على الرغم من أنّ ثيمة الرواية قائمة على وَهَم مرَضي فإن هناك شخصيات "وهمية" أخرى تعرّف إليها نوركَه مثل فاضل الذي يعمل في المكتبة العامة، وهشام الكهل الذي تعرّف إليه في شارع المتنبي وأهداه عددًا من كتب إبسن ومسرحياته، كما تحدث له عن حياته الزوجية مع السيدة النرويجية هايدي وابنهما رؤوف وحفيدهما سيف، وانتقالهما من باريس إلى أوسلو، وعودته إلى العراق بعد وفاة هايدي بسكتة قلبية، وإصابته هو بحادث سيارة حينما عبر الشارع مخمورًا، وأصبح مُعاقًا يتنقل على كرسيّ متحرّك يدفعه حفيده سيف. صار يتردد على هشام يوميًا إلى منزله بالحارثية ويحكي له هذا الأخير عن الحياة في النرويج وتاريخها السياسي والاجتماعي ولكن الأهمّ من ذلك كله أنه كان يروي له حياة هنريك إبسن بالتفصيل الممل ويعزز أوهامه بالعديد من المفاهيم والتصورات من بينها الأزمة المالية التي تعرض لها والد إبسن واضطرته إلى بيع البيت والانتقال إلى منزل آخر، تمامًا كما حصل لوالد نوركَه الذي خسر في صفقة تجارية واضطر لبيع البيت في الكاظمية وشراء بيت متواضع في العطيفية. كما أنّ إبسن قد ارتبط بالسيدة إلسه صوفي وأنجبت منه ولدًا اسمه هانس ياكوب لم يعترف بأبوته لكنه ظل ينفق عليه حتى بلغ سن الرابعة عشرة. كما أن الأب غانم أحمد يعتقد بأنّ زوجته محاسن قد أنجبت نوركَه من علاقة غير شرعية مع عشيقها في البصرة. وهكذا يتقارب الشبه بين نوركَه وجده إبسن في الملابس، والنظارات الدائرية الصغيرة، والعكازة التي يتوكأ عليها.

تقنية الرسائل

لا تخلو تقنية الرسائل في هذه الرواية من إثارة فلقد أرسل نوركَة 227 رسالة إلى أناس متعددين أبرزهم ابن عمّه تانكَريد إبسن يشرح فيها أشياء كثيرة من بينها أسباب تأخره، وموعد وصوله، كما بعث رسائل أخرى لمسؤولين في المملكة النرويجية من بينهم الملك أولاف الخامس، ورئيسة الوزراء آرنا سولبيرغ، وسيتعرّف القارئ من خلال هذه الرسائل إلى البلدين معًا، فالعراق والنرويج متقاربان في المساحة، وكلاهما تعرّض للاحتلال، إذ وقع العراق تحت الاحتلال البريطاني، فيما رضخت النرويج للاحتلال الألماني النازي. كما شهد البَلَدان نموًا اقتصاديًا سريعًا بعد اكتشاف النفط فيهما في سبعينات القرن الماضي، وقد واصلت النرويج تطورها فيما تراجع العراق كثيرًا.

تنطوي الخطة التي رسمها نوركَه للهجرة إلى النرويج على أربع مراحل تنتهي الأولى عند المنفذ الحدودي بين العراق وتركيا، وتبدأ الثانية من هذا المنفذ لتنتهي عند الساحل البحري في أزمير، فيما تنطلق الثالثة عبر البحر إلى اليونان، وتمرّ الرابعة في سبع دول قبل أن تصل إلى أوسلو. غير أن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن أحيانًا، فلقد غيّر المهرّب مهنّد رأيه وسلك طريق الخالص، كركوك، السليمانية، أربيل، ودهوك، وهناك سوف يسلّمه مهند إلى قوة مسلحة لأنه نرويجي، وقد اصطحب معه لوحة "شلال فورنيك" كدليل دامغ يثبت به نرويجيته، ونظرًا لإخلاصه للشعب النرويجي فهو يريد إعادة هذه اللوحة التي أضحت مُلكًا وطنيًا للشعب النرويجي ولابد من تسليمها إلى موظّف أمين يحافظ عليها من العبث ويمنع سرقتها مُجددًا. يقتاده المسلحون إلى نفق سينهار عليه إثر قصف جوي استهدف رتل سيارات معادية ثم يتم نقلة في أحد الهمرات الثلاثة إلى وحدة طبية، عندها فقط تتقلص ملامح وجهه أول مرة عن ابتسامة مفرحة في حياته وهو يستجيب للصوت الرقيق الذي سأله عن اسمه فيرد:"اسمي نور. . نور . . نوركَه، ثم مال رأسه وغاب كل شيء".

وفي الختام لابد من الإشارة إلى أن شمدين يتمتع بقدرة ممتازة في رصد المجتمع النرويجي الذي يعيش بين ظهرانيه فهو يصف النرويجيين، تمثيلاً لا حصرًا، بأنهم يشبهون "ترمس الشاي أو القهوة باردون من الخارج ودافئون من الداخل"، وثمة مواضع كثيرة في الرواية تكشف عن طبيعة هذا المجتمع، وتُميط اللثام عن عاداته وتقاليده الاجتماعية التي حققت في خاتمة المطاف المساواة والعدالة الاجتماعية لكل الذين يعيشون في بلاد الثلوج. بقي أن نقول بأن نوزت شمدين قد أنجز حتى الآن خمس روايات وهي "نصف قمر"، "سقوط سرداب"، "شظايا فيروز"، "ديسفيرال" و "مستر نوركَه" التي أحدثَ فيها نقلة نوعية في اللغة المتوهجة، والسرد المنساب، والبنية المعمارية الرصينة التي لا تغادر ذاكرة القارئ بسهولة.

 

عدنان حسين أحمد

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم