صحيفة المثقف

دايوجانس.. فيلسوف ضد المألوف

حاتم حميد محسنالفيلسوف اليوناني القديم دايوجانس Diogenes المتشائم (ايضا عُرف بـ دايوجانس سينوب "المدينة التركية") ربما هو أول فوضوي او أول عبثي، و أول ساخر، او أول طبيعي اعتمادا على رؤية القارئ.

وفق معايير الزمن الحاضر، كان دايوجانس رجلا مشردا باختياره وكانت أهدافه في الحياة هي البحث عن الحكمة. اتجاهه المتميز في الحياة لم تكن له أية علاقة بعقائد المجتمع وقواعده لا حاليا ولا في العصور القديمة. هو وجد له مأوى في وعاء كبير من الفخار، رافضا كل أشكال الراحة والرفاهية، ملاحظاته حول الحياة والسياسة والمجتمع كانت صائبة تماما رغم انها تجسدت بلغة هجومية.

فلسفة دايوجانس المتشائم

وُلد دايوجانس في مدينة سينوب المدينة الأيونية على ساحل البحر الأسود عام 412 او 404 قبل الميلاد. حيث اعتُبر أحد مؤسسي الفلسفة التشاؤمية او الكلبية الى جانب أنتيثينيس و كريتس. هو اعتقد ان القيم الاجتماعية والسلع المادية والكماليات تدفع الانسان بعيدا عن السعادة، التي لا توجد الاّ عبر العيش في بساطة الطبيعة. ابوه كان يعمل في سك وختم العملة في مدينة سينوب، اما الشاب دايوجانس عمل الى جانب والده في معظم المشاريع المادية. احدى القصص تقول ان الشاب ذهب الى المكان المقدس oracle of Delphi عند اليونان (وهو المكان الذي يُطلب فيه النصح من الآلهة) وقيل له انه يجب ان "يشوّه العملة". وهذا ما قام به بالضبط عند عودته الى مدينته . هو اعتقد انه يجب ان يشوّه او يمحو الناس المرسومين على وجه العملة، أي الحكام.

هذا بالنتيجة قاد الى نفيه من سينوب، ومن ثم ذهب دايوجانس ليعيش في اثينا. هنا بدأ يعيش الحياة البسيطة والتي أصبحت لاحقا تجسد فلسفته الشمولية. اعتاد دايوجانس ان ينام في وعائه الفخاري الكبير اثناء الليل وفي النهار يشحذ ليعيش اثناء تجواله في الشوارع، وهو السلوك الذي تحدّى فيه المعتقدات والقيم الاجتماعية السائدة في ذلك الوقت. في الليل، كان يمشي في الشوارع ممسكا بفانوس، مخبراً الناس انه يبحث عن انسان نزيه. لاحقا هو ادّعى انه لم يجد ابدا مثل هذا الانسان. ان كلمة cynic (في اليونانية تعني يشبه الكلب)، وهي مشتقة من كلمة kynos وتعني الكلب، واستُخدمت لوصف سلوك دايوجانس الشبيه بالكلب، حين عاش في الشوارع، احيانا يأكل اللحم النيء، مؤديا وظائفه البدنية الطبيعية في العلن، كالكلب دون خجل.

أظهر دايوجانس دائما عدم احترامه التام لكل شخص، ولكل معتقد في المجتمع. العديد من الناس أطلقوا عليه المختل عقليا، مع ذلك اصبح معروفا وعلى نطاق واسع بذكاءه وروح الدعابة اللاذعة، ونال احترام الفلاسفة. وجد دايوجانس رغبة في تعلّم الزهد من انتيثينيس، الذي كان تلميذا لسقراط. قيل انه عندما طلب من انتيثينيس تدريسه، كان رد الفيلسوف هو تجاهله، وبعد ان ألح دايوجانس ضربهُ الفيلسوف بعصاة.

بعد هذا النوع من التعامل، أجاب دايوجانس: "إضرب، سوف لن تجد خشبا من القوة ما يكفي ليبعدني عنك، طالما أعتقد ان لديك ما تقول".

وفي النهاية، اصبح دايوجانس تلميذا لدى انتثيسيس رغم الجواب العنيف الأول للفيلسوف، وحالا تفوّق على استاذه بطريقته التقشفية في الحياة وأسّس التشاؤمية كمدرسة في الفكر.

حياة الفضيلة

وفق المستويات الحالية، لو تركنا سلوكه الاجتماعي جانبا، فان دايوجانس يمكن تسميته الطبيعي. فلسفته في التشاؤم كانت ان يعيش حياة الفضيلة التي تشبه كثيرا الحيوان الذي لايمتلك سمات انسانية. حياة بسيطة، لا يحتاج فيها للمتع الدنيوية تماما مثل الكلب. الطريقة التي اعتقد بها دايوجانس والتي يمكن بها تحقيق السعادة كانت من خلال عيش الحياة وفقا للطبيعة، متمتعا بالسعادة من ابسط الاشياء مثل أشعة الشمس، او قليل من ماء بارد في حر الصيف، او عضة فاكهة لذيذة من شجرة. كان ذلك مثالاً للحياة الجيدة لدايوجانس.

رفض الفيلسوف الساخر السلطة، لأنها كانت مدمرة جدا للمجتمع بشكل عام واعتقد ان أغلب الناس منافقون بشأن المعتقدات الاجتماعية. بالنسبه له، السياسيون والحكام هم الأكثر نفاقا . دايوجانس لم يحتقر فقط الحكام والارستقراطيين، وانما ايضا العائلة وجميع المنظمات الاجتماعية والسياسية. هو كره ايضا "الجماهير" مبديا احتقارا متساويا للمجتمع ككل.

2264 دايوجانس

عدم إحترام الحكام

هناك نوادر حول عدم احترام دايوجانس للحكام والذي يُفترض انه حدث في مدينة كورنث corinth، حيث عاش الفيلسوف في ذلك الوقت. حين سمع الاسكندر الاكبر ببعض الطرائف عن دايوجانس اراد مقابلته ثم سافر الى كورث فقط لتلك الغاية.

وبناءّ على وصف المؤرخ بلوتارش Plutarch(46-AD119)، تبادل الرجلان فقط كلمات قليلة.

تقدّم الاسكندر نحو دايوجانس الذي كان يتدفأ تحت أشعة الشمس في الصباح. الاسكندر السعيد لمقابلة المفكر الشهير، سأل دايوجانس ان كانت هناك اي خدمة يقدمها له. أجاب دايوجانس، "أزح قليلا نحو اليمين، أنت تحجب عنّي الشمس". عندئذ صرّح الاسكندر، "لو لم أكن الاسكندر، لرغبت ان أكون دايوجانس". اما دايوجانس فقد أجاب الملك "لو لم أكن دايوجانس لكنتُ لا أزال أرغب ان أكون دايوجانس".

وكفوضوي بلغة اليوم، لسوء الحظ لم يؤمن دايوجانس حتى بكتابة أفكاره. لا وجود لعمل مكتوب له اليوم، لأنه إعتقد ان الناس يفهمون تعاليمه أفضل من خلال الأفعال والمحادثات وليس من خلال القراءة.

مواطن عالمي

هو أحب القول "انا مواطن في العالم" كما هو الحال في فوضويي اليوم، الذين لايؤمنون بالامم والحدود، دايوجانس أحب الذهاب الى حيث ما يحب ويبني بيته – او (يبني وعائه). عبر رفضه الراحة العادية للحياة، التي سخّر لها الآخرون كل حياتهم، رفض دايوجانس فكرة الملكية. هو لم يكن بحاجة لبيت وحتى ملابس أكثر من خرق بالية، اعتماداً على الفصول. هناك عدة قصص احاطت بموت دايوجانس عام 323 قبل الميلاد وهو في عمر الـ 89 عاما. العديد منها تبدو ملفقة، اعتمدت على طريقته في الحياة، كتلك التي تقول انه مات بسبب عضة كلب. لكن من الواضح في فلسفته انه نظر الى العالم الآخر بنفس السخرية التي نظر بها للحياة الارضية في مجتمع منظّم. طوال التاريخ الانساني، وُصف دايوجانس بعدة اشياء. هو بالتأكيد كان فيلسوفا ساخرا وايضا كأول فوضوي ليس وفق معايير اليونان القديمة وانما وفق أعراف المجتمعات الحالية ايضا.

 

حاتم حميد محسن

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم