صحيفة المثقف

ازدراء الأديان

سامي عبد العالربما لا تكفي العبارات الساخرة لوصف تهمة " ازدراء الأديان" التي تؤيدها قوانين بعض دول العرب تجاه من ينتقد شيئاً مقدساً لدى الناس. ذلك بعد أنْ أمست أغلب الممارسات العامة محجوبةً عن التفنيد والمراجعة والتغيير. بالفعل ينبغي وجود سخرية تواجه هذه التهمة الجديرة بالازدراء حقاً، فلربما يُبطل تناطُّح السخريات مفعول الاتهام الطائش!! لأنَّ ركْض الاسلاميين ومن قَبل ركْض الدولة كجهاز رقابي خلف المثقفين والكُّتاب يمثل ذروة الملهاة وسط مجتمعاتٍ تسيئ بأكملها إلى الله بالفشل الحضاري والتلاعب بالدين!!

 لقد حوّل الطرفان الحياة العامة إلى أحراشٍ يقتنص فيها الارهابُ كُلَّ من يقف بطريقه ثم تباركه الدولة على نحو غير مباشر. حتى أصبح المثقفون فرائس مطاردة ليل نهار كلَّما أدلوا بدلوهم في القضايا الدينية الشائكة. ومرةً ليست بالأخيرة ستضيع أية مجهودات معرفية ناقدة ضمن هذا الجو من الرعب الاجتماعي والفكري المغلَّف بالغطاء الديني. فضلاً عما يُنذر به من مستقبل ظلامي لجوانب الحوار حول خطابات الدين ومجالات استعمالها. وكأنَّ كل متحدثٍ في الشأن الديني (من غير المتخصص) سيهدم الدين، فضلاً عن الاعتقاد المقلوب لهذا الوضع وهو انشاء طبقة من رجال الدين الذين يتكلمون باسم الله فقط دون سواهم ولا يحق لغيرهم أنْ يناقشوا أمراً من أموره.

أفهم منطقياً أنَّ المؤدلجين دينياً ينصبون الفخاخ للإيقاع بالمفكرين والأدباء في مصائد التكفير، غير أنّ البلاهة قد وصلت بالدولة العربية (التي يجب أنْ تكون محايدةً) إلى تهيئة أجواء الضغط السياسي لإشعال هذا الصراع. لأنَّ الهدف من الإيقاع بين الاسلاميين والمفكرين هو التخلية بين الاثنين وبين أي تأثير واسع النطاق في الرأي العام. فالحرية التي يسعى إليها المفكرون ويتكلم عنها المثقفون هي المساحة الحرجة التي تراهن على تفخيخها أنظمة الدولة العربية ولا تريد أن تتسع حتى لو على جثة الشعوب ومستقبلها. بحيث يصبح كل من ينادي بها فريسة حلالاً لأي قاتل باسم الدين والحفاظ على مقدسات الأمة. وليس أنكى من أن تلعب الأنظمة السياسية اللعبة القذرة بأنْ تضع أطياف المجتمع في تناحر هي الكاسب الوحيد خلاله على حساب كل الأطراف. وبحكم كون الدولة بمثابة الوريث التاريخي للأساطير ومفاهيم الألوهية، فإنها تضع نفسها ضمنا في تلك المكانة المقدسة دون الشعوب.

 بل رأينا في حياتنا المعاصرة جني ثمار التقديس من الشعوب، فلا الأنظمة ترى أفقاً حراً لحياة كريمة، ولا ترى تنوعاً ضرورياً بين المواطنين والعقول لبناء المجتمعات، ولذلك أخذت الدولة العربية الحديثة خطاب التكفير تحت غطاء القانون، ورسّخت الديكتاتوريات بمنطق مدني هذه المرة. وهنا المفارقة الساخرة: أن المجال العام لا يحرر بمنطق الدولة العربية رغباتنا وقدرتنا على التواصل الفاعل رغم أن الدولة في الغرب هي التي أسهمت في تأسيسه على قواعد الحرية والتنوع والحقوق والعدالة والمساواة. الدولة العربية تحارب المجال العام وباتت تدير الدين في شكل طقوس فقط، أما روحه وإمكانية أن يسهم في تطور الحياة الإنسانية، فهذا موضوع لا يعنيها وتتغافل عنه.

وعبر البناء التاريخي لهذا الصراع المراوغ، فإن الاسلاميين قد مثلوا (أو بالأحرى تم تنصيبهم) رأس حربة حديثة تجاه كافة أطراف التجديد والتحديث والتغيير للخروج من عصور الاستبداد. والحال أن الاسلاميين ينفثون إهانات يومية إلى أي دين طالما يخالف مذاهبهم. ويصنفون البشر على مقاييس اعتقادية تركها الله لتنوع الناس بلا حدود. ولو أنَّ هناك معياراً– من أي نوع- لكانوا هم الذين يسيئون أولاً وأخيراً إلى المقدس. فمن لا يُقدِّر الإنسان (أي إنسان) حين يفكر بحريةٍ وأصالة وإبداع لا يعرف إلهاً. ولا يحق له سرقة ملكوته ليفسد فيه ويسفك الدماء ويتعقب الآخرين. فالتلصص الديني بهذا المعنى يضع أصحابه في خانة المتنطعين. هؤلاء الذين يتفيهقون بأمور لا يعلمون مداها ولا تأثيرها على الحياة.

 والغريب أنْ يجري ذلك داخل المحاكم ودور القضاء المثقلة بالمشكلات والأعباء والتحقيقات والقضايا المدنية. كأن جميع القضايا قد حُلت وانتهى أمرها ولم يبق إلاَّ ازدراء الدين والتجرؤ على المقدسات. بينما يعرف الاسلاميون قبل سواهم أنهم يحتالون لقهر المجتمع على قبول مواقفهم وآرائهم. ولأنَّ الطريق الوحيد لكشفهم كان هو التفكر العقلاني، فإنهم يدّعون الامتلاك الميتافيزيقي للقداسة. ويؤكدون طوال الوقت حماية ما يمتلكون زاعمين أنه الخير العميم للناس والأرض جميعاً. وفي الطريق الزلق نفسه يشيرون إلى دفاعهم عن ثوابت المجتمعات العربية الإسلامية وهويتها.

 إنَّ التنطّع باسم الله طفرة جديدة بأشكال سياسية وتكنولوجية في قضايا الدين. لأنه بمثابة الانتهاك لحقوق الإنسان، لا لحقوق المختلف في المعتقد وحسب، بل كذلك داخل الإسلام نفسه. فقد يظن الارهابي أنه يتحدث بشكل أحادي لا خطأ فيه مانعاً خصمه حتى من طرح رأيه. وتلك كانت خطوة أولى لتكميم الأفواه جميعاً للمسلمين وغير المسلمين. ليس خوفاً على الذات الإلهية لكن تمهيد للاستيلاء على المجتمع من باب خلفي. وبهذا لن يكف الإرهابيون عن التحرش بالأفكار المعارضة في شخص أصحابها. ولأنهم لا يقدرون على النزال الفكري الحر، فسيكون اعتقال الجسد واغتياله أحياناً هو المجال الواضح. ومن ثم كان تركيزهم على العنف المادي كما جرى مع الأديب المصري نجيب محفوظ وحيال المفكر الأردني ناهض حتّر.

 والسؤال الآن: من الذي بإمكانه أن يحدد معايير هذا الازدراء؟ ومن يدَّعى هذا الحق أصلاً؟ هل بغلبة الفهم العام المتوارث للنصوص الدينية وبالاستيلاء على سلطة الدولة؟ هل عن طريق الفقهاء ورجال الدين وفقهاء القانون والسياسة؟ وإذا تمَّ ذلك بهكذا وضع، أفليست المسألة عودةً إلى تفتيش الضمائر وتعريتها؟ فالهيئات القضائية لو أخذت خطوة كهذه بناء على دعاوى قضائية مرفوعة من الاسلاميين، فإنها ستشارك في جرائم جديدة. جريمة الحُكم على الإيمان بوسائل غير إيمانية وبإجراءات مشبوهة في أغلب الأحوال وإقامة سلطة زمنية على الحياة الروحية. وسيجري التنقيب عن الأفكار بمعاول هدم قانوني وستصبح تلك سابقة عقاب لا أكثر.

ظهر الازدراء الفعلي حينما تغنت جماعات الارهاب الديني بقتل وذبح  البشر على قارعة الحياة العامة. لم تأبه لأهمية ثراء معاني الله داخل روح الإنسان وتجلياتها. فهل الله، المقدس، بعيد عن هذا الروح؟ وإذا كان الروح الإنساني قبساً من الوجود الإلهي، كيف يستحلون بتره، تدميره؟! أليس ذلك جنوناً لا مجرد "ازدراء" موثَّق بالقانون على الملأ؟! لعل منطق التجريم لما هو روحي أضعف الحجج لملاحقة الخصوم. لا تفكير ولا نقد بإمكانهما تجاوز أزمة المعتقدات الشائعة. تلك التي ترسخت بالعادات والتقاليد وشكلت يقيناً جمعياً غير صحيح. ولهذا تعتبر مجتمعاتنا هي الأخرى ضحية مئات السنوات من الجمود العقلي والتخلف الحضاري. وكلما ظهرت توجهات حديثة وابداعات أدبية وفكرية لا تجد صدى كبيراً، ولمحاربتها يحولونها إلى نوع من محاكم التفتيش بتواطؤ المجتمع والدولة معاً.

أظن أن الاسلاميين يخافون الإبداع الفكري لأنه يزلزل أركان مملكتهم القائمة على التقاليد. فليس أكثر ضجيجاً من إلقاء الخصم أرضاً بضربة قاضية تحت صراخ البسطاء المخدوعين. حين يشهر الاسلاميون سلاح التفسيق والتبديع لتعرية المبدعين أمام الجماهير، ذلك الفخ الديماجوجي يستعمل الدين بمنطق تكفيري لا يحتمل إلاَّ اجساداً متحاربة. وأفشل المواقف تجاه المخالفين تلك التي تسعى لسحقهم بالتلاعب حول الحقيقة. وهذا كما أشرنا في مجتمعات عربية لا حقائق فيها ولا تحترم المخالفين في التوجه. وفوق ذلك تتكلم عن الدين بشكل متحجر بينما ينكفئ المتحدثون به على مآربهم الخاصة!!

 هكذا في وضع ثقافي وسياسي قميء يقف بنا على حافة الموت، هل يمكن لبشر ازدراء أي دين؟ من يستطيع الحط من قدر المقدس إجمالاً؟ كيف يكون المقدس- هذه اللامتصور- خارج الاغراق الدنيوي، خارج المدنس؟ بعيداً عن المواجهة الخشنة مع الأسئلة، علينا التأمل في مسألة الدين داخل الخطاب المتداول. ومسألة الدين معناها بأية طريقة نرى ما يفرزه الدين من منظورات وعقائد وأفعال.

 إنَّ استخدام الدين للإيقاع بالآخرين هو نفسه لون من الخداع قبل أي اتهام آخر. ووضع الدين في فخ لاصطياد الأفكار يجعل الحياة العامة حلبة قتال مفتوحة. كل تهمة ازدراء لأشخاص بعينها أيا كان مضمونها تقع موقعاً ممقوتاً إلى حد القمع. فلا أحد بإمكانه تحديد ماهيتها ولا سلطة إنكارها ولا كيف تستعمل عموماً. وإذا كان ثمة من يزعم ذلك، فسيطال عنفه كل ما ينتمي للإنسان أيا كان دينه.

 على صعيد آخر، نحن مازلنا نخاف - إلى حد القهر - من مراجعة ما نُؤمن به وقد يكون مختلطا بالغث والثمين من الثقافات الموروثة. فالقضية التي تُخرِج لنا لسانها يومياً: لماذا نكرر تقاليد تحت مبررات ميتافيزيقية خارج التاريخ دون مراجعة؟ إذا كان التكرارُ صُلب الإيمان، فليكن إيماناً على بصيرةٍ واقتناع وإلاَّ سيكون مُعتلاً. فعلى سبيل المثال، مسألة الأضحية التي اتهمت فيها كاتبة مصرية بازدراء الأديان (حين قالت إن ذبحها في أعياد الأضحى قسوة وعنف على الحيوانات) كانت اشارة إلى الفكرة السابقة معتبرة أنَّ الأضحية أصبحت قرابين دموية ليست هي المقصودة حصراً. وأنها شعيرة فرَّغت من مضمونها الروحي، وبالتالي هناك بُعدٌّ رمزي في واقعة أبي الانبياء إبراهيم عليه السلام. ولم يكن مدلولها فقط عملية الفتك الفاجع بالحيوانات المضحى بها لمجرد الذبح. فهل كل الجانب الرمزي هو مجرد قتل وسلخ وشواء وروائح نفاذة من الضأن؟!

ما حدث أنْ ترجمت الثقافة الإسلامية الشائعة " الفداء والذبح"  فقط إلى عملية نحر الخراف والنعاج وسط ضجيج الشكل. هذا بالرغم من كون تلك الحادثة القربانية لا تنصب على أي شكل. فالحلم آمن به أبو الانبياء كرؤية حقيقية نتيجة إيمانه الأكبر بالخالق، فنهض منفذاً ما أُمر به من الله. ولعلَّ حصر المسألة في الذبح فقط كجوهر إيماني يجعل التضحية سكيناً ودماء تنضحان بالقسوة والتشفي. لدرجة أنَّ الشعيرة تفقد كلَّ مخزون ابراهيمي روحي هو لها.

 فأي ذبح هذا الموصوف بالعظيم في القرآن إنْ لم يكن رمزياً في أساسه. وإذا كان للمسلمين عيدٌ تعبيراً عن هذه الحادثة، فهو عيدٌ لأنَّ التضحية كانت رمزية لا يستهلكها التكرار ولا يحولها إلى طقس زمني عابر. بل لن تتجدد أية تضحية إلاَّ بالإيمان. تماماً مثلما كان الإيمان سبباً رئيساً وراء الفداء الإلهي لإسماعيل ابن أبي الانبياء. كل أضحية تترك آثارها في هيئة إيمان أبعد من كونها ممارسة جزئية. وبخاصة أن الاضحية آتية من أبي الانبياء (رأس الديانات الإبراهيمية التوحيدية) إلى الإسلام (أخر ديانة إبراهيمية). من ثمَّ ليس شرطاً أنْ يذبح كلُّ مسلم ذبحاً عظيماً حتى ينال هذا البُعد، لكن يجب عليه الإيمان إيماناً عظيماً. العمل النبوي أسلوب حلمي للتعبير عن سمو الإيمان؛ أي كانت العبادة ذاكرة نفسية وطقسية لا تتركز فقط على النحر. فمن لا يمتلك كبشاً لإجراء الذبح، ستكون له أيضاً كل القدرة الشعائرية على استعادة زخم العمل الابراهيمي. لأن الإيمان واحد وإن تعددت أشكاله وأزمنته.

والآية ذكرت الفداء بالدرجة الأولى كثمرةٍ لهذا الإيمان البعيد لا مشاركة فيه ولا اختزال له في عمل قاتل بإسالة الدماء. فهل يفدي الإنسان نفسه باتباع الأوامر الإلهية؟ ذلك هو الرهان الديني في جميع الشعائر والطقوس. إنَّ جميع أعمال الخير تدخل في إطار القربان والتضحية باسم الله. وتأكيد الآية على كون الذبح عظيماً يعني أنَّه ليس مادياً بإطلاقٍ. وفي الوقت ذاته لن يبلغ أي كائن حيواني صفات هذا الذبيح. فالثقة بالله واليقين تجاهه- أو هكذا ينبغي- هما الأضحية التي يبذلها المؤمن مع تجدُّد العيد. فيكون الفداء خارج التوقع لا مجرد خروف من صوف وشحم ولحم!! نفس الأمر مع تهمة التطاول على الذات الإلهية التي يستنكرها الاسلاميون عندما يكتب أحد الكتاب بكلمات يقال إنها لا تليق بالذات الإلهية. ومن ثم هل قال الله لبشر بعينهم عليكم بالدفاع عنى؟ إن الله بحكم قداسته لا يستطيع أي إنسان النيل منه إلاَّ في مخيلة المؤمنين به (إساءة التأويل والقراءة). وحتى لدى هذا المستوى سيكون موضوع الإزدراء مجرد هُراء لا قيمة له. لأن الله متعالٍ فوق قدرات أي بشر أو غيرهم  بجميع الديانات، ولن يزيده هؤلاء المتهكمون شيئاً ولن ينقصونه أيضاً. فالإيمان لا يخصه تعالى، بل يخص بشراً لهم رؤاهم وحقائقهم الخاصة.

هل هذه البديهية تحتاج إلى شرح؟ بعدما ترك الله الايمان به من عدمه خارج أية سلطة ولو كانت هي ذاته العليا. فالأفراد وحدهم يقدرون على الاعتراف به أو لا يعترفون من الأساس. وفي كل الأحوال لا ينبغي لأي إنسان أن يتحدث عما يتصورون هؤلاء ولا عما يذهبون إليه. وحتى مصطلح "التطاول" به نفي لهذه القاعدة الأصيلة التي تجب أية قواعد أخرى. وإذا كان الاسلاميون يتشدقون بالحرية، فلماذا يستكثرونها على كاتب أو آخر: أن يفكر بحرية تجاه كل القضايا الدينية والسياسية انطلاقاً منها؟ وذلك لن يقلل من ايمان الآخرين إلاَّ إذا كان ضعيفاً. بل سيوسِّع مساحة الحوار التي يخشاها المتنطعون إنْ وجدوا.

وبالنتيجة يجب (بل ضرورة) أن تنأى الدولة بنفسها عن التنطُّع بأي شيء، لأنه ليس من شأنها بالأساس، وما لهذا الغرض وجدت أية مؤسسة عامة في التاريخ. إن الخلط بين سلطتها الزمنية والروحية يجعل من الدولة طرفاً في صراع لا تجيده إلاَّ بعد قتل كيانها. لأنَّه كيان حسّاس لما هو إنساني وعادل وحقوقي بصرف النظر عن انتماء الإنسان ومعتقداته. ولا ينبغي أن تزج الدولة بثقلها في هذا الاتجاه، فهي شفافة ولا يصح أن تتحول إلى كتلة بلهاءٍ أو إلى كابوس بحجم الظلام الذي لا يستفيق منه المواطنون!!

 

سامي عبد العال

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم