صحيفة المثقف

وداعاً د. خالد عبد الباري.. مُبرئ القلب والصدر من العذابات

محمود محمد عليما زلت أومن بل ربما أكثر من ذي قبل بأن من أجل المهن وأعظمها مهنة الطب، والتي تستوجب أن يكون الطبيبُ إنساناً، يحمل مشاعره الإنسانية في كفة ليغلب عليها الجرأة والقوة للتعامل مع أبشع الحالات التي يتطلب منه معالجتها، وجراحات القلب والصدر من أصعب الجراحات الطبية التي تختص بالعلاج الجراحي للأمراض التي تؤثر على الأعضاء داخل القفص الصدري، أي علاج أمراض القلب والرئتين جراحياً، كما أن جراحة القلب (التي تشمل القلب والأوعية الدموية الكبرى) وجراحة الصدر (التي تشمل الرئتين وأي أعضاء أخرى داخل القفص الصدري) هي تخصصات جراحية مستقلة، ما عدا في الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة وأستراليا ونيوزيلندا حيث يتم دمجهم معا في تخصص واحد، وهذا يجعل الجراح المتدرب في تخصص جراحة القلب والصدر يمتلك خبرة أوسع في المجالين قبل أن يتخصص في إحداهما.

ولقد أصبحت جراحة القلب ممكنة في أواسط القرن العشرين، وكانت أهم مساهمة علمية تقنية هي اختراع آلة القلب والرئة، ويمكن بواسطتها تحويل الدورة الدموية عن القلب، مما يتيح للجراح أن يواصل جراحته على القلب وهو في حالة سكون وفراغ من الدم، وتريح الآلة القلب والرئتين من عبئ ضخ الدم وإشباعه بالأكسجين، بالإضافة إلى تطور الأدوية المثبطة للمناعة ورفض الأجسام الغريبة، وإمكانية هبط الحرارة أثناء العملية. وتجرى حالياً على القلب عمليات كثيرة؛ كتبديل الصمامات، وحتى تبديل القلب وزرع قلب من إنسان آخر، أو زرع قلب اصطناعي بالإضافة إلى جراحة الشرايين الكبيرة كالأبهر، واعتلالات القلب المكتسبة التي تؤدي إلى تضيق في الصمامات، أو الأوعية الدموية.

وجراحة القلب هي الجراحة التي يجريها جراحو القلب على عضلة القلب أو الأوعية الكبيرة أو الغشاء التامورى المحيط بالقلب وتعتبر جراحة القلب جزء من جراحات الصدر وتنقسم عادة إلى قسمين كبيرين هما جراحة القلب المغلق وجراحة القلب المفتوح ويستند الفرق في التصنيف بين هذين القسمين إلى عدم الحاجة أو الحاجة إلى استخدام ماكينة القلب والرئة الصناعي في العملية على الترتيب.

وقد فقدت مصر خلال الأيام الماضية إنسناً لا يصدق، طبيب الفقراء الدكتور خالد حسن عبد الباري، (أستاذ جراحة القلب والصدر بكلية الطب- جامعة الزقازيق )، كرس حياته لعلاج المصريين من الخلفية الفقيرة مقابل القليل من المال، مات الرجل الذي لطالما كان السبب في رسم الابتسامة علي وجوه الآلاف من الفقراء الذين عالجهم مجاناً، وهو ذاته اليوم كان سبب في بكاؤهم عند سماعهم لخبر رحيله عن الحياة عن عمر تجاوز الستون عاماً (على أثر إصابته بفيروس كورونا)، سخر فيه علمه وقدراته لجراحات القلب والصدر لخدمة الفقراء .

وحين توفي الدكتور خالد عبد الباري كتبت عنه أغلب الصحف المصرية تنعاه، فقالت في حقه:" وداعا الدكتور خالد حسن عبد الباري ؛ حيث فقدنا، الجراح الكبير، والمعلم القدير، ليس من بين أساتذة جراحات القلب والصدر من يضاهيه في سعة الأفق، أو القدرة على الاندهاش والإدهاش (في العمليات الجراحية)، أو الحضور الطاغي (في المؤتمرات الدولية والمحلية)، أو خفة الظل (في العمل الإداري). سوف نفتقده كثيرا، كما سوف يفتقده الكثيرون ممن عرفوه (من تلاميذه ومريديه)، عن قرب أو بعد، وهمُ كثر. وداعا أيها الصرح الطبي والجراح الشامخ".

كما نعته جامعة الزقازيق بجمهورية مصر العربية فذكرت علي صفحتها علي الإنترنت  :" بقلوب مؤمنة بقضاء الله وقدره، تنعي جامعة الزقازيق برئاسة الدكتور عثمان شعلان، الدكتور خالد حسن عبدالباري، الأستاذ المتفرغ بقسم جراحة القلب والصدر بكلية الطب البشري، والرئيس الأكاديمي لجامعة هيرتفورد شاير الإنجليزية بالعاصمة الإدارية، ورئيس جامعة الزقازيق السابق. وتقدم رئيس الجامعة، والنواب وعمداء الكليات، وأعضاء هيئة التدريس، وجميع العاملين والطلاب بالجامعة، بخالص العزاء والمواساة لأسرة المغفور له، داعين المولى عز وجل أن يتغمده بواسع رحمته وأن يجزيه خير الجزاء على ما قدم في خدمة وطنه وجامعته ورسالته الإنسانية، وما أفنى حياته فيه من خدمة الناس، وأن يلهم أهله وزملاءه ومحبيه وتلاميذه في كل مكان الصبر والسلوان.. وأشار البيان، إلى أن الدكتور خالد عبدالباري خدم وطنه وجامعته، وكان صاحب رسالة إنسانية أفنى حياته في خدمة الناس".

والدكتور خالد عبد الباري من مواليد قرية اكوة التابع لمركز ديرب نجم بمحافظة الشرقية، ولديه ثلاثة أبناء "محمد" طبيب أسنان و"مصطفى" مهندس و" أية" طبية، وكان سيادته (رحمة الله عليه) قد سبق وشغل عدة مناصب منها وكيل كلية الطب البشرى، ورئيس مجلس إدارة مستشفيات جامعة الزقازيق، وأمينا للجنة العليا للمستشفيات الجامعية بالمجلس الأعلى للجامعات، ونائبا لرئيس الجامعة لشئون الدراسات العليا والبحوث، ومستشارا لوزير التعليم العالى لشئون المستشفيات الجامعية، ثم رئيساً لجامعة الزقازيق لمدة أربع سنوات، أنشأ خلالها ما يقرب من 11 كلية جديدة، فضلاً عن تطوير مستشفى الجامعة والبدء في إنشاء جامعة الزقازيق الأهلية بالعاشر من رمضان، وعندما بلغ شن المعاش أعلنت مؤسسة جلوبال للتعليم ومقرها العاصمة الإدارية الجديدة، تعيينه رئيس جامعة رئيسا أكاديميا لفرع جامعة هيرتفوردشاير الإنجليزية؛ وقبل وفاته بأيام أكد الدكتور عبد البارى، أن فرع جامعة "هيرتفوردشاير" الإنجليزية، بالعاصمة الإدارية يمنح الدرجات العلمية في بكالوريوس العلوم الصيدلية، وبكالوريوس الصيدلة "m pharm"، وبكالوريوس المحاسبة والتمويل، وبكالوريوس إدارة تكنولوجيا المعلومات للأعمال، وبكالوريوس إدارة الأعمال، وبكالوريوس التسويق باستخدام التواصل الرقمى.. وأضاف الدكتور خالد عبد البارى، أن الجامعة تمنح أيضا بكالوريوس في علوم الحاسب "ذكاء اصطناعي"، بكالوريوس الهندسة في الهندسة المدنية، بكالوريوس الهندسة في الهندسة الميكانيكية والميكاترونكس”، بكالوريوس الإعلام، بكالوريوس في علوم العلاج الطبيعي، بكالوريوس التصميم الرقمى للإعلام، بكالوريوس العمارة الداخلية والتصميم.

والدكتور خالد عبد الباري حصل علي بكالوريوس فى الطب والجراحه, -جامعة الزقازيق [1982]، ثم حصل علي ماجستير فى جراحه القلب والصدر, -جامعة الزقازيق [1986]، ثم درجة الدكتوراه فى جراحه القلب والصدر، -جامعة الزقازيق [1990].

وللدكتور خالد عبد الباري أبحاث كثيرة في مجال جراحات القلب والصدر نذكر منها علي سبيل المثال لا الحصر:

1- Surgical outcome of pulmonary aspergilloma (2008).

2- Off-pump versus on-pump for multivessel coronary artery bypass grafting: Comparative study of operative and short-term outcomes (2008).

3- Early and short-term results of chest wall resection and reconstruction: A review of 22 cases (2008).

4- Primary bony chest wall tumors. Experience in one center (2013).

5- Short and mid term results of mitral valve repair using artificial chordate (2013).

ولم يكن الدكتور خالد عبد الباري ممن يحرصون علي غزارة الإنتاج، بل كان في عمله العلمي يغلب عليه الكيف علي الكم، وكان في ذلك متسقاً مع نفسه تمام الاتساق، ولكن لعل السبب الأهم في عزوفه عن الإنتاج الغزير، برغم قدرته عليه، هو أنه كان من ذلك النوع النادر من الأساتذة، الذين يلمعون ويمارسون أعظم تأثير لهم من خلال اللقاء المباشر بينهم وبين تلاميذهم، لا من خلال اللقاء غير المباشر عبر الكتب والبحوث.

ورغم ذلك اتسم إنتاج الدكتور خالد عبد الباري بعمق الفكر، ووضوح اللغة وبساطتها؛ فمؤلفاته تجعل جراحات القلب والصدر قريبة إلي أذهان ومشاعر طلابه وباحثيه، وقد وجمع أسلوبه في الكتابة الطبية بين الأسلوب المباشر والعميق في ذات الوقت، وهو ما يمكن تسميته بالسهل الممتنع في الكتابة الطبية.

علاوة علي أنه أسهم بعضويته في كثير من المؤسسات الطبية العلمية، ومراكز جراحات القلب والصدر العالمية، وألقي العديد من البحوث في مؤتمرات، وندوات محلية، ودولية، منها أبحاث في متخصصة نشرت في دول عربية وأوربية وأمريكية،، وكان عضواً باللجنة العلمية الدائمة للترقيات بالمجلس الأعلى للجامعات.

تحيةً للدكتور خالد عبد الباري، ذلك الرجل الذي يمثل بالفعل قيمة طبية ووطنية وشخصية موسوعية في جراحات القلب والصدر، ما جعل زملاءه وتلاميذه من الأطباء والأساتذة الجامعيين يعترفون له بريادته في جراحات القلب والصدر.

رحم الله الدكتور خالد عبد الباري، الذي صدق فيه قول الشاعر: رحلتَ بجسمِكَ لكنْ ستبقى.. شديدَ الحضورِ بكلِّ البهاءِ.. وتبقى ابتسامةَ وجهٍ صَبوحٍ.. وصوتًا لحُرٍّ عديمَ الفناءِ.. وتبقى حروفُكَ نورًا ونارًا.. بوهْجِ الشّموسِ بغيرِ انطفاءِ.. فنمْ يا صديقي قريرًا فخورًا .. بما قد لقيتَ مِنَ الاحتفاء.. وداعًا مفيدُ وليتً المنايا.. تخَطتْكَ حتى يُحَمَّ قضائي.. فلو مِتُّ قبلكَ كنتُ سأزهو.. لأنّ المفيدَ يقولُ رثائي.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل - جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم