صحيفة المثقف

دانيليفسكي وقضية الفكرة السلافية السياسية الثقافية (8)

ميثم الجنابيفلسفة النموذج التاريخي الثقافي (2)

إن كل الصور التاريخية الثقافية العامة لتجارب الانماط الثقافية القديمة والمعاصرة لمختلف الأقوام، شكلت بالنسبة لدانيليفسكي المقدمة "التحضيرية" التي حاول من خلالها رسم ملامح الاحتمال والإمكانية الواقعية للنمط الثقافي السلافي، بوصفه نموذجا جديدا ومستقبليا. بمعنى البحث في الشخصية الروسية والسلافية العامة عما يمكنه أن يكون دليلا على مقدمات تحقيق النموذج السلافي الثقافي. وجعل من تحليل هذه الشخصية عبر نشاطها في الميادين الأربعة الكبرى أسلوبا لذلك، بمعنى رؤية احتمال النمط الثقافي السلافي من خلال تتبع انشطته في كل من الدين، والثقافة، والسياسة، والنظام الاجتماعي الاقتصادي. فهو الأسلوب الذي يمكنه الكشف عن فهم وتوقع مسار النمط التاريخي الثقافي السلافي.

النمط التاريخي الثقافي السلافي

فقد كان الدين، كما يقول دانيليفسكي، المحتوى الأكثر أهمية وهيمنة في الحياة الروسية القديمة. وينطبق هذا على العالم المعاصر أيضا. إذ اعتنق الروس الدين النصراني بصورة مباشرة وحرة بسبب السخط والتمرد على الوثنية وعدم الرضا بها والبحث الحرّ عن الحقيقة. فما يميز الشخصية الروسية هو عدم القبول بالعنف والإكراه، والاتسام بالوداعة والتواضع والاحترام، أي كل ما يجعلهم أكثر وفاقا مع المثل الأعلى للنصرانية. وهي الشخصية التي تميز جميع الشعوب السلافية، باستثناء البولنديين الذين جرى حرف مسارهم الروحي بأثر إجبارهم على اعتناق الكاثوليكية والابتعاد عن السلافية صوب الغرب. وإن تاريخ النصرانية الأرثوذوكسية وتعاليمها ومبادئها، بوصفها الصورة الصحيحة للنصرانية الأولى أو الخالصة، هو أيضا الوجه الآخر لباطن الشعب الروسي والسلاف بشكل عام. من هنا استنتاجه عن أن الجانب الديني للأنشطة الثقافية المميز للنمط الثقافي السلافي بشكل عام والروسي بشكل خاص، هو جزء لا يتجزأ من ثروته الخاصة سواء في مجال البنية النفسية للشعوب السلافية أو في مجال حمايتهم لأرث الحقيقة الدينية.

أما الجانب المتعلق بالنشاط السياسي، فإنه هو الآخر يعكس مضمون وتجارب الروس وتبلور شخصيتهم الثقافية. والسؤال الجوهري هنا يتعلق فيما إذا كانت الشعوب السلافية قادرة على صنع دولها ومن ثم استقلالها السياسي، بوصفه أحد القوانين الأساسية لإرساء أسس النمط الثقافي الخاص. وبغض النظر عما تواجهه الشعوب السلافية من نقص في هذا المجال، بمعنى أن الكثير منها وقع تحت النير الأجنبي ولم تتوفر له بالتالي إمكانية بناء دولته الخاصة، فإن ذلك لا يعطي لمن ينتقدهم حق الأحكام القطعية بهذا الصدد. بمعنى عدم قدرة الشعوب السلافية على بناء انظمتهم السياسية. لاسيما وأن الكثير من الشعوب السلافية أسسوا دولهم الكبيرة. بمعنى إن هذا النقص الجزئي والعابر لا يمكنه أن يكون أساسا لأحكام قطعية. فهناك الكثير من الشعوب التي مرت بمراحل انعدام الدولة. وهو ما يمكننا رؤيته على مثال الألمان وغيرهم من الشعوب الأوربية غير السلافية. وعموما، إن الحكم القائل بالعجز السياسي للسلاف هو إما نتاج سوء النية أو في أفضل الأحوال نتاج سوء البصر والبصيرة. فالظاهر الملموس والحياة الفعلية تجبرنا على الاعتراف بما اسماه دانيليفسكي، بالمستوى السياسي الرفيع على مثال الدولة الروسية وحدها. وإذا تمكنت روسيا لوحدها فقط من الحصول على دولتها القوية مقارنة بالسلافيين الآخرين، فإن ذلك مرتبط بخصائص الشعب الروسي الجوهرية وكذلك بسبب موقعها الجغرافي البعيد، الذي أعطى لها إمكانية المرور بأشكال تطورها الأولية بعيداً عن التأثير المزعج لنمط الحياة الأوربية الغريبة. بل نرى دانيليفسكي ينظر بتفاؤل عميق حول مستقبل النمط الثقافي السلافي، بما في ذلك في الميدان السياسي. بحيث نراه يتوصل إلى حكم يقول، بأن السلاف هم من بين أكثر الشعوب موهبة بالمعنى السياسي بين الجنس البشري، والذي وجد نموذجه الأعلى في نشوء وتطور وقوة الدولة الروسية. واعتبر هذه الصفات المميزة للدولة الروسية ليست إلا جانب واحد فقط من النشاط السياسي. وهناك جوانب أخرى تؤيد بمجمعها على أن الشعب الروسي يتسم بالموهبة الفعلية بالمعنى السياسي الدقيق. وسعى للبرهنة على ذلك من خلال دراسة التاريخ السياسي الروسي وفكرة الدولة ونظامها الخاص والعلاقة بين الشعب والسلطة وجوانب أخرى عديدة. والاستنتاج العام الذي توصل إليه في ما يخص قوة الدولة وجبروتها وخصوصية الشعب الروسي يشير إلى أن الشعب الروسي موهوب بالمعنى السياسي. وإن تاريخ السلاف يكشف عن أن الابتعاد عن الأصول الثقافية للنزعة السلافية سوف يؤدي إلى انكسار شخصيتهم بما في ذلك السياسية.

أما ما يخص النظام الاجتماعي- الاقتصادي، فإن روسيا هي الدولة الشاسعة الوحيدة التي تمتلك أرضية صلبة تحت أقدامها، كما يقول دانيليفسكي. ووجد ثباتها وقوتها وعطاءها بهذا الصدد يقوم في نمط حياتها الفلاحي وحيازة الأرض الجماعية، التي تجعل الطبقات الاجتماعية أكثر تحفظاً على عكس ما يهدد أوروبا من الاضطرابات. واعتبر هذه الخاصية السليمة للنظام الاجتماعي الاقتصادي في روسيا هي التي تشكل السبب الذي جعله يعتقد بما اسماه بالأهمية الاجتماعية والاقتصادية العالية للنمط التاريخي الثقافي السلافي.

وعندما واجه السؤال المحتمل والواقعي عما إذا كان بإمكان النمط التاريخي الثقافي السلافي أن يحتل مكانه البارز بالمعنى الثقافي والدقيق لهذه الكلمة، فإنه اجاب عليه بطريقة تقترب من اليقين الجازم. وانطلق في ذلك مما اسماه بانجازات الشعب الروسي. ومع انه يقرّ، بأن انجازات الروس والشعوب السلافية حتى زمنه تبدو ضئيلة في ميادين العلوم والفنون مقارنة بما قام به النمط اليوناني والأوروبي، إلا أن ذلك يبقى في نهاية المطاف مرتبطا بسبب تأخر ظهور الكيان السلافي من الناحية الزمنية مقارنة بأوربا. وحدد الفرق بينهما بأربعة قرون منذ بداية الانتقال من الحياة الإثنوغرافية إلى الحياة التاريخية، حسب مصطلحات دانيليفسكي. وهي فكرة دقيقة وعميقة. بمعنى انه يفرّق بين الزمن التاريخي والزمن الثقافي.

التجربة الروسية وآفاق النمط الثقافي السلافي

واتخذ دانيليفسكي من التجربة الروسية نموذجا لتوضيح واقع وآفاق النمط الثقافي السلافي. إذ أكد على أن بداية بناء الدولة وتطورها المستقل، بوصفها المقدمة الأولية والجوهرية لنشوء النمط الثقافي قد استغرقت بالنسبة لروسيا حوالي ألف سنة. بينما احتاجت الشعوب الأوربية الغربية إلى هذا القدر من الوقت لكي تحل أضعف المهمات التي وقفت أمامها. فقد تطورت الدولة الروسية وتصلب عودها بسبب طبيعتها الجغرافية، وموقعها بين قوى خارجية تهددها من كافة الجهات. من هنا الاهتمام المفرط والضروري بالنسبة لفكرة الدولة القوية ومركزيتها. ومن ثم حدد طبيعة نظامها السياسي ونفسية الشعب الروسي وذهنيته.

إن خصوصية التاريخ الروسي في بناء الدولة المركزية القوية فقد أدى بمرور الزمن إلى بلورة نفسية اجتماعية وذهنية قومية محكومة بالدولة ومؤسساتها. مما أدى بدوره إلى إضعاف الحصيلة الثقافية. وينطبق هذا على بعض الدول السلافية أيضا. مع أن المعطيات جميعا تؤكد على امتلاك روسيا والسلاف عموما على ما يكفي من القدرات والمواهب الطبيعية. ويمكن العثور عليها أيضا في ظهور أسماء لامعة عند الشعوب السلافية في مختلف فروع العلوم. كما يمكن رؤية ذلك في الإبداع الأدبي الروسي الذي يرتقى إلى مصاف عالية يمكن مقارنتها بأرقى الأعمال الأدبية الأوروبية. وبرهن دانيليفسكي على استنتاجه هذا من خلال التطرق إلى إبداع الكثير من الشخصيات الأدبية الروسية الكبرى. وبرهن على أفكاره بهذا الصدد من خلال تشريح اللوحة الفنية الكبرى لايفانوف (قدوم المسيح) أو (ظهور المسيح للقوم). فقد استفاض في إبراز الأعماق الفكرية والروحية في اللوحة من اجل البرهنة على أن الفن الروسي الكبير هو الآخر تعبير عن خصوصية الرؤية الثقافية الروسية أو نمطها السلافي. والشيئ نفسه يمكن قوله عن النحت والموسيقى. وتوصل بأثر تحليله العميق لمختلف مجالات الإبداع الأدبي والفني إلى استنتاج يقول، بأن النمط الثقافي السلافي قد قدّم الكثير في مجال الفن، لكن القضية تختلف في مجال العلوم والتطور العلمي. وهي حالة عابرة مرتبطة، كما يقول دانيليفسكي، بمرحلة الشباب التي يمر بها النمط الثقافي السلافي.

كما شدد دانيليفسكي على ما يمكن دعوته بالنزعة المستقبلية المتفائلة للنمط الثقافي السلافي. بل اعتبره النمط القادر على تقديم توليف مبدع لجميع جوانب الأنشطة الثقافية. بل وافترض إمكانية أن يكون النمط السلافي أول نمط تاريخي ثقافي متكامل بأسسه الأربعة المتعلقة بأشكال النشاط والإبداع. وربط ذلك أولا وقبل كل شيئ في كيفية حل "المسألة الشرقية" التي كانت تعادل في أفكاره ورؤيته السياسية آنذاك الصراع بين روسيا وأوربا. ووضع هذه الفكرة واستنتاجاتها بصورة بلاغية لاهوتية، تقول، بإنه إذا كان التيار الرئيسي لتاريخ العالم قد بدأ من مصدرين على شواطئ النيل القديم، واحد سماوي إلهي عبر أورسليم وتسارغراد (قيصرغراد أو القسطنطينية)، الذي بلغ صيغته الصافية النقية في كييف وموسكو، فإن الآخر دنيوي بشري والذي وصل بمجذافين وهما الثقافة والسياسة مرورا بأثينا والإسكندرية وروما صوب بلدان أوروبا. وعلى الأراضي الروسية يجري صناعة المفتاح الجديد لهيكل اجتماعي اقتصادي يوفر العدالة للجميع. وعلى امتداد السهول الشاسعة للسلافية ينبغي لهذه الروافد أن تلتقي في خزان واحد واسع. وأنه يؤمن، بأن تلك الساعة آتية لا ريب فيها.(يتبع....).

 

ا. د. ميثم الجنابي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم