صحيفة المثقف

ابن النفيس طبيب من طراز فريد

يسري عبد الغنيمن أطباء المسلمين المشهورين ابن النفيس، واسمه: علاء الدين أبو الحسن علي بن أبي الحزم، القرشي، المعروف بالمصري، والذي ولد بالقرب من مدينة دمشق السورية سنة 607 هـ = 1210 م، وكانت دمشق في تلك الآونة قد بلغت ذروة مجدها، وأصبحت مركزاً مهماً للعلوم والفنون والآداب، كما كانت بها مكتبة ضخمة أنشأها نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي، والذي أنشأ البيمارستان (المستشفى) النوري الكبير، الذي عمل فيه أمهر أطباء العصر، حيث جعله مفتوحاً في كل الأوقات لعلاج المرضى الفقراء، سواء أكانوا من المسلمين أو من غيرهم.

 وكان علاء الدين ابن النفيس، محيطاً بكل العلوم في عصره، ومن أعلم الناس في عهده بالفلسفة وعلم النحو وعلوم الشرع والفقه، في نفس الوقت الذي ألم فيه بكل ما كتب في علوم الطب من قبله، ولعل هذا مما جعل بعض معاصريه يعدونه مساوياً للشيخ الرئيس / ابن سينا في مجال الطب، وكانت وفاة ابن النفيس سنة 687 هـ = 1288 م، عن عمر يناهز الثمانين عاما .

مؤلفاته:

 من مؤلفات ابن النفيس المهمة كتابه في الطب أو (الكتاب الشامل في الطب)، وهو موسوعة طبية كان ينوي إتمامها في (300 جزء)، إلا أنه لم يكتب منها إلا ثمانين جزءاً، وبكل أسف فإن هذه الموسوعة لم يرد إلينا منها إلا بعض النتف والفقرات موجودة حالياً في المكتبة البودالية في أكسفورد البريطانية .

وله كتاب (المهذب في الكحول)، وواضح أنه في طب العيون، وهو موجود في مكتبة الفاتيكان .

كما ألف كتاب (المختار في الأغذية)، وكتاب (شرح فصول أبقراط)، وكتاب (تقديمات المعارف) وهو تعليق على تكهنات أبقراط الطبية .

وله كتاب (شرح مسائل حنين بن اسحق)، وكتاب (تعليق على كتاب الأوبئة لأبقراط) .

أما الكتاب الذي نال شهرة كبيرة فهو كتاب (موجز القانون)، وهو موجز عملي لكتاب القانون لأبن سينا، كتبه ابن النفيس من أجل أطباء عصره، ويقع في أربعة أجزاء كاملة لا في خمسة أجزاء كما هي الحال في قانون ابن سينا، إذ أنه ضم الكتاب أو الجزء المتعلق بالأدوية إلى الجزء الثاني بعد باب المفردات .

وتوجد منه نسخ في مكتبات كل من: باريس الفرنسية، وأكسفورد البريطانية، وفلورنسا الإيطالية، وميونخ الألمانية، والأسكوريال الأسبانية.

ومما يدل على انتشار هذا المؤلف كثرة التعليقات التي خصصت له، وأول هذه التعليقات نجدها من معاصري ابن النفيس، وبعد ذلك ترجم قانون ابن النفيس إلى التركية والعبرية، وعنوانه في العبرية (صفر جا موجز)، كما طبع بالإنجليزية في مدينة كلكتا الهندية سنة 1828 م تحت عنوان (الشرح المغني أو المغني في شرح الموجز)، كما أعيد طبعه في مدينة لوكناو الهندية مرة أخرى وضم إليه معجم بأسماء المفردات والعناصر الواردة فيه مفسرة باللغة الإيرانية (الفارسية) .

وما زال هذا المؤلف الكبير يدرس إلى يومنا هذا في المعاهد العلمية والطبية في الهند، وقد أخبرني أحد الأخوة من الهنود أن هذا الكتاب لأبن النفيس يلعب دوره الكبير في تعليم الطب لديهم .

ولكن الذي يجب أن نشير إليه هنا هو السبب في اعتبارنا ابن النفيس فخراً للمسلمين في كل مكان، هذا السبب يرجع إلى أن الرجل تمكن من أن يتخلص من القيود التقليدية في البحث والدرس والممارسة، وبمعنى آخر تمكن من أن يتخلص من سيطرة جالينوس، وسيطرة ابن سينا، معلناً في جرأة وشجاعة منقطعة النظير في صفحات كتابه (شرح تشريح القانون): ما لم تره العين، فمن المحال أن يصدقه العقل !! (وبالطبع هذا يكون في مجال العلم والفكر).

جهد مشكور، وأمل مرجو:

وكتاب (شرح تشريح القانون) توجد منه نسخ مخطوطة في مكتبات باريس الفرنسية، والأسكوريال الأسبانية، وأكسفورد البريطانية، إلا أنه ظل حبيس المكتبات سبعة قرون كاملة، إلى أن عثر عليه الدكتور / محي الدين التطاوي سنة 1924 م، أثناء دراسته في برلين الألمانية، فقام بدراسته دراسة علمية متقنة، وتقدم به للحصول على درجة الدكتوراه من جامعة فريبورج بألمانية، وهذه الرسالة ـ وفقاً لمعلوماتي ـ لم يتم طبعها حتى الآن، ولا توجد منها سوى نسخة مكتوبة على الألة الكاتبة القديمة في مكتبة جامعة فريبورج الألمانية والذي أعرفه أن مكتبة جامعة فريبورج تحتفظ بثلاث نسخ في حالة جيدة جداً من رسالة الدكتور التطاوي .

وبالطبع يحدونا الأمل في أن يبعث الله تعالى من يخرج هذه الرسالة من مرقدها، فيعرف الناس بجهد ابن النفيس في مجال الطب، وفي نفس الوقت يعرفهم بجهد الدكتور / التطاوي في دراسة وتحقيق وبحث تراثنا العلمي في تلك الفترة الباكرة .

لقد رأى ابن النفيس أن يعتمد في تعرف صور الأعضاء الباطنية على مشاهداته الخاصة / الشخصية، لا على ما قاله الأسبقون، حتى لو لم مشاهداته رأيهم، وكان من نتيجة ذلك أن أنكر وجود المسام التي زعم جالينوس وجودها بين البطينين الأيمن والأيسر من القلب .

كذلك أنكر ابن النفيس نظرية دورة الدم من البطين الأيمن للقلب إلى الرئة عن طريق الشريان الرئوي، ثم من الرئة إلى البطين الأيسر للقلب عن طريق الوريد .

ويعتبر ابن النفيس سابقاً بحق لكل من (سيزالبتيو) و(هارفي) في اكتشافهما الدورة الدموية بثلاثة قرون كاملة، كما أنه فرض منافذ محسوسة بين الشريان والوريد الرئويين، وبذلك سبق (مالبيجي) في هذا الكشف، بالرغم من عدم وجود المجاهر المتقدمة التي استعملها (مالبيجي) في بحثه العلمي .

ولم يوافق ابن النفيس أستاذه ابن سينا أيضاً في عدد تجاويف القلب، حيث قال ابن سينا: إن فيه بطون ثلاث، وقال ابن النفيس: إن فيه بطنين .

وهذا يدلنا على أن الرجل مارس وباشر التشريح بالفعل، إلا أنه حرص على ألا يتهمه أحد بممارسته، فأنكر في مقدمة كتابه (شرح تشريح القانون) أن يكون قد فعل ذلك .

كما أكد في نفس الكتاب أن غذاء القلب هو من الدم المار فيه من العروق المارة في جُرمه، وهذه العبارة تجعله أول من فطن إلى وجود أوعية دموية داخل عضلة القلب تغذيها، وهو ما نسميها الآن الشرايين التاجية أو الإكليلية .

 هذا، وقد ظلت نظرية دورة الدم في الرئة مجهولة، حتى أول عهد النهضة الأوربية حيث وصف الدورة الدموية: (سرفتيوس)، و(كولمبو)، و(هارفي)، على التوالي، وقد قيل: إن هؤلاء لم يعلموا شيئاً عن نظرية ابن النفيس !!، إلا أن هناك ما يدلل على أن بعض أهل الغرب من البحاثة والعلماء، اطلعوا على مؤلفات ابن النفيس، وترجموها إلى اللغة اللاتينية إبان القرن السادس عشر الميلادي، وقد نشرت هذه الترجمة في مدينة البندقية الإيطالية، عام 1547 م .

 وفي رأي الباحث أن كتاب ابن النفيس المهم (شرح تشريح القانون)، وكتب ابن النفيس الأخرى في الطب، كان لها أكبر الأثر في تنبيه علماء النهضة الأوربية إلى الدورة الدموية، وقد اعترف بذلك اهل الاستشراق من المنصفين .

ابن النفيس في مرآة المستشرقين:

 اهتم المستشرقون بابن النفيس اهتماماً كبيراً، تجلى هذا الاهتمام في العديد من الدراسات التي قاموا بكتابتها، ومن هذه الدراسات:ـ

1 ـ الدراسة التي كتبها / ماكس ماير هوف، وكان عنوانها: (ابن النفيس: عالم من القرن الثالث عشر الميلادي، ونظريته في الدورة الدموية)، ونشر هذه الدراسة في مجلة (إيسيس) سنة 1935 م، من صفحة 100 إلى صفحة 120 .

2 ـ كما كتب يوسف شخت دراسة عنوانها: (ابن النفيس وسرفتيوس وكولمبو)، تم نشرها في مجلة الأندلس، المجلد الخاص بسنة 1957 م، من صفحة 317 إلى 331، وفي هذه الدراسة نجد بياناً بالمؤلفات التي كتبت في موضوع الدورة الدموية على مر تاريخ الطب، كما نجد مختارات من كتابات سرفتيوس، وفالفردي، وكولمبو، وذلك لأظهار إمكانية انتقال آراء ابن النفيس إلى أوربا .

3 ـ كتب تشارلز. د . أوملي، بحثاً عنوانه: (ترجمة لاتينية لابن النفيس)، وفيها يتحدث عن مشكلة الدورة الدموية، والجهد الذي بذله ابن النفيس في اكتشافها، وتم نشر هذا البحث في المجلد الثاني من أعمال المؤتمر الثامن الدولي لتاريخ العلوم، والذي عقد بين: فيرنتسه ـ وميلانو، في الفترة ما بين 3 ـ 9 سبتمبر، سنة 1956 م، وهذا البحث تم نشره في باريس بواسطة (هيرمانا) سنة 1958 م .

 وختاماً: فإننا إن كنا تحدثنا عن ابن الفيس في هذه السطور، فإن أي باحث لا يستطيع بأي حال من الأحوال أن ينكر دور كل من: علي ابن ربن الطبيب الشامل، والمجوسي الطبيب المبدع، وابن عيسى الذي نهض بطب العيون وألف للكحالين، وأبو بكر الرازي طبيب الدولة الإسلامية الأول، والشيخ الرئيس ابن سينا الذي فلسف الطب وقعده، والزهراوي الجراح الذي ألف لمن عجز عن التأليف والتصريف، وابن أبي إصيبعة المؤرخ الأول للطب الإسلامي، وحنين بن اسحق ومسائله في العين ومقالاته في الطب، وابن قرة صاحب الزخيرة في الطب، وابن جلجل صاحب طبقات الأطباء، وابن سيده صاحب كتاب المخصص، وغيرهم وغيرهم مما لا يتسع المجال لذكرهم ..

 واضعين في الاعتبار الدراسات والأبحاث التي قام بها أهل الاستشراق للتعريف بجهد المسلمين وابتكاراتهم وابداعاتهم في مجال الطب، معترفين في كل ما كتبوه بهذا الدور الكبير للأطباء المسلمين، هذا الدور الذي عرفه الغرب جيداً وترجمه إلى لغاته، واستفاد منه أعظم استفادة مع بدايات عصر النهضة الأوربية.

 

بقلم: د. يسري عبد الغني

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم