صحيفة المثقف

أخميم.. مانشستر ما قبل التاريخ (2)

محمود محمد عليلن أمل من الحديث عندما أقول بأن أخميم هي المكان الذي انتميت إليه، والذي مهما ابتعدت عنه يبقي دائم الحنين للرجوع إليه، وهو الذي استفدت من خيرات أراضيها سواء من مياه وثروات طبيعية وغيرها الكثير، أخميم فضلها عظيم وخيرها وفير.. كيف لا !، وهي التي عرفت منها كرامة العيش، وأدركت معني الاستقرار والطمأنينة والدفئ .. إن حب أخميم فطرة موجودة في قلبي، فلا أقوي علي مغادرتها، ولا أنسي ما قدمته لي دوماً، لذلك رأيت أنه من واجبي أن أكتب عنها .

وهنا في مقالي الثاني عن أخميم أستأنف الحديث عن عظمة أثار أخميم؛ فأقول: ومن الآثار الإسلامية بمدينة أخميم جامع الأمير حسن وأنشأه الأمير حسن بن الأمير محمد عام 1117 هجرية الموافق عام 1705م، واستغرق البناء 4 سنوات وألحق به ضريح ملاصق له فى الجهة الشرقية حيث لما توفي الأمير تم دفنه في هذا الضريح وتبلغ مساحة المسجد 648 متر مربع؛ كما يوجد بأخميم أيضاً من الآثار الإسلامية جامع الأمير محمد والذى يرجع إلى العصر العثماني ويسمي أيضا جامع السوق ويقع على الجانب الغربي لشارع القيسارية بأخميم وقد بناه الأمير محمد والد الأمير حسن وتشير العناصر المعمارية للمسجد والمئذنة وبعض العناصر الزخرفية الي أن بناءه كان معاصرا لبناء مسجد الأمير حسن والمسجد يطل على شارع القيسارية.

ومن الآثار القبطية بمدينة أخميم نجد كنيسة الشهيدة دميانة والقديسة دميانة ولدت من أبوين مسيحيين في أواخر القرن الثالث الميلادى وكان أبوها مرقس يدين بالمسيحية ولما بلغت العام الأول من عمرها تعمدت وأقام والدها مأدبة فاخرة للفقراء والمحتاجين لمدة ثلاثة أيام,, وتوجد أيضا بمدينة أخميم من الآثار القبطية كنيسة أبو سيفين والتي تنسب إلي القديس أبو السيفين وكان ضابطاً بالجيش الروماني وإستشهد سنة 362م وترسم صورته بلباس الجند ممتطياً جواداً شاهراً سيفين فوق رأسه والسيف الثاني رمز الجهاد في سبيل الدين وهي تقع وسط مدينة أخميم وقد أقيمت على تل يسمي تل تل نسطور.

كذلك توجد بمدينة أخميم مقابر الحواويش، ومقابر السلاموني .. أما مقابر الحواويش فتقع في مصر القديمة بالجبل الشرقي بقرية الحواويش، والتي تبعد عن سوهاج بنحو 10 كم ومن أخميم 7 كم، وتضمن ذلك التل 3 أديرة قبطية تعرف بالدير البحري والدير الأوسط والدير القبلي، واستخدم ذلك التل منذ بداية عصر ما قبل التاريخ ومرورا بالعصر الفرعوني ثم اليوناني والروماني والقبطي...أما مقابر السلاموني فيقع في الصحراء الشرقية لجبل السلاموني، والذي يحتوي على جبانة مرتفعة بعض مقابرها ترجع لعصر الدولة القديمة وغالبية المقابر للعصر المتأخر اليوناني الروماني، وبعض هذه المقابر لا تزال تحتفظ برسومها الجدارية الملونة، والتي تعتبر خليط بين الحضارة المصرية والهلينية المتضمنة آلهة مصرية ومناظر البروج وأشخاص في نمط روماني، وفي قمة الجبل معبد صخري صغير شيده الملك "آي" التالي مباشرة للملك "توت عنخ آمون"؛ لأجل إله الخصب والنماء الإله "مين" رب أخميم ولأجل الإله "حورس – مين" هذا الإله الذي كان مزيجًا بين الإثنين، والذي ظهر فيه أدب الدولة الوسطى.

وبالإضافة إلي ما سبق توجد أيضاً بمدينة أخميم آثار مدينة بانوبوليس الإغريقية القديمة كما إشتهرت مدينة أخميم في العصر المسيحي بأديرتها الكثيرة وكانت في العصر العربي الأول عاصمة منطقة منفصلة عرفت منذ الفتح العربي بكور أخميم أي المدينة الرئيسية التي يتبعها أخريات وكان يحدها شمالا كور طهطا وجنوبا كور قوص.

وقد أطلق علي مدينة أخميم اسم " مدينة الشهداء " لكثرة عدد الشهداء فيها، فعندما أحصي أهل أخميم عدد شهدائهم بعد المذبحة المروعة التي قام بها " إريانوس" والي أنصنا كان العدد حسب ما جاء في محطوط الشهيدين لـ" ديسكوريدس " و" وإسكلابيوس" .. 8140. شهيد . هذا بخلاف أجساد الشهداء التي كانت متناثرة في امكن متفرقة وفي مكان يدعي " المعسكر" شرق أخميم ويقع علي الشمال من دير الشهداء ؛ حيث كان يتمركز فيه جنود إريانوس علي ما يبدو كان هذا المكان يحتوي علي معتقل المسيحين الذين رفضوا العبادة الوثنية والرضوخ لرسوم " دقلديانوس"، وكانت هذه المذبحة في ثلاثة أيام 92، 30 كيهك و 1 طوبة من سنة 302 ميلادية تقريبا.

وعن أهم المكتشفات التي وجدت في أخميم مدينة الأساطير قديما، قال المؤرخ "فرنسيس أمين" إنها لاتعد ولا تحصي، مؤكداً أنه وجدت بها برديات رياضية تثبت أن علم الرياضيات بدأ من مصر، مثلما وجدت بها لوحات الكتابة وبرديات أعظم الحكماء في مصر "عنخ شاشنجي" حكيم عين شمس في القرن الخامس قبل الميلاد.

كذلك تحتوي أخميم على بقايا معبد أبيو المشهور، إضافة لمقابر بالجانب الشمالي الشرقي بها، وتعود أهميتها لوجود مدينة أثرية كاملة تحت المدينة الحديثة، واحتمالية احتوائها على معبد فرعوني يوازي أهمية معبد الكرنك بالأقصر، وتزايدت أهمية أخميم، عقب الكشف الأثري عن تمثال الملك رمسيس الثاني أحد ملوك الأسرة الـ19، وفي عام 1982م عُثر على بقايا معبد لرمسيس الثاني وتمثال ضخم لميريت آمون ابنته، وبقايا مهشمة لتماثيل رمسيس الثاني، وقطع أثرية من العصر اليوناني والروماني.

ويقول الدكتور "زاهي حواس" وزير الآثار الأسبق خلال إحدى زيارته لاخميم إن مقابر اخميم تعوم على معبد كامل يعادل في أهميته التاريخية والأثرية معبد الأقصر والمشروع يحتاج إلى تكاتف جميع أجهزة الدولة وتوجيه نداء إلى المنظمات العالمية ومنظمة اليونسكو للمساهمة في الكشف عن أثار اخميم ودعم المشروع ماليا ومن ثم وضع سوهاج على خريطة العالم السياحية وخلق آلاف من فرص العمل للشباب سواء فرص مباشرة أو غير مباشرة وسيكون لدينا معبد فرعوني جديد سيدهش العالم كله  في حال الكشف عنه.

عُرفت أخميم قديمًا عند المؤرخين  بـ"مانشستر ما قبل التاريخ"، حيث تُعد من أهم مراكز صناعة النسيج في صعيد مصر قاطبة، إذ قال عنها المؤرخ اليوناني الشهير "هيرودوت:" إن نسائها كن يقضين جميع ما يلزم للمنازل ورجالها كانوا يقومون على صناعة النسيج"، ففي في العصر الفرعوني كانت أخميم أهم مراكز المنسوجات، حيث كان نسيج أخميم قاصرًا على القصور الملكية، وظلت كذلك في العصرين البطلمي والقبطي، وجاءت في مقدمة المدن في هذا المجال، خاصة تلك المدن التي تمسكت بالتقاليد الزخرفية القديمة.

وقد عثر فيها على مجموعة كبيرة من الأقمشة تنوعت أساليب نسجها وموضوعات زخرفتها وألوانها، ودراسة هذه القطع تكشف عن أهمية مدينة أخميم كمركز من مراكز النسيج في العصر القبطي، فمن بين ما تم العثور عليه قطع منسوجة بطريقة النسيج المبطن من اللحمة وأخرى بطريقة القباطي، وقد انعكست الموضوعات المسيحية في المنسوجات القبطية مثل قطعة نسيج عثر عليها تمثلت فيها "البشارة" وهي محفوظة في متحف فيكتوريا وألبرت وأخرى تمثل فقط "الميلاد" بنفس المتحف.

فى العصر الروماني اشتهرت "أخميم" بالمنسوجات الحريرية، وبلغت في ذلك شأنًا كبيرًا، حتى إنها كانت تصدر خارج البلاد، وقد توافر للمدينة مواد الصباغة مما ساعد على تفوقها في المنسوجات، حيث كان ينمو بمنطقة وادي الملوك قرب دير السبع جبال نبات يسمى "الملوك" له عصارة حمراء داكنة تستعمل في الصباغة، خاصة الحرير القرمزي الذي اقتصر لبسه على الملوك والأباطرة في العصر الروماني، وظلت أخميم على شهرتها في صناعة المنسوجات في العصر الإسلامي، وكان إنتاجها يصدر إلى بيزنطة وروما.

واستمرت التأثيرات القبطية في بعض المنسوجات الإسلامية، حيث إن الدولة الإسلامية تركت للدولة والمناطق التي خضعت لها مطلق الحرية في أن تظل هذه المجالات على ما كانت عليه قبل الفتح الإسلامي، حرصًا على سياسة التسامح التي سار عليها العرب، وقد قال ابن الكندي عنها: "يعمل بها طراز الصوف الشفاف والمطارف وغيرها من أنواع النسيج التي تحمل إلى سائر الآفاق".

وقد عُثر في "أخميم" على قطع من النسيج المبطن من اللحمة من العصر الإسلامي، ونُسجت جميعها من لحمة وسداه من الحرير، وكانت الأنوال منتشرة بدرجة كبيرة بها، حيث قيل إنه كان يوجد نول في كل منزل؛ وهنا يقول المفكر زكي مبارك في كتابه "الخطط التوفيقية": "أهلها يفوقون غيرهم في الصنائع لاسيما نسيج أقمشة الكتان".

وفي نهاية مقالي أقول بأن أخميم برغم كونها تمثل مساحة صغيرة جداً من مصر الحبيبة، إلا أنها تمثل لي وسع الكون، فهي الحضن الكبير الذي احتضني وأعطاني كل ما فيه من خيراتٍ، ففضل أخميم لا تتسع بضعة سطورٍ لذكره، ولا تكفي الكلمات لوصفه، فأخميم أكبر من أن تحتويها الكلمات، وارتباطي بها كما قلت من ذي قبل، هو ارتباطٌ نابعٌ من الأعماق، لكونه يمثل ارتباطٌ فطري، يُخلق معي، ويكبر يومًا بعد يوم، فأخميم هو التي أعطتني الهوية، والكيان، والانتماء، وهو التي تضمي حياً وميتاً ؛ وكما قال "عبد الحميد الرافعي ": وطني عليك تحيتي وسلامي.. وقف بحلّي غربتي ومقامي.. وطني اليك أحن في سفري وفي حضري.. وطني وأدعو في ظلام الليل أن لا يبتليك الله بالظلام.. وطني وأرجو أن يدوم لك الهنا أبداً بظل عدالة الحكّام.. وطني بروحي افتديك إذا التوت عنك الرّعاة وطاشَ سهم الحامي.. وطني إذا ما شاك مجدك شائك فكأنما هو ناخر بعظامي.. وطني العزيز وفيك كل صبابتي وتدلّهي وتولّهي وهيامي.. وطني العزيز وعنك خلت محدّثي انحى على سمعي ببنت الجام.. وطني العزيز وإن ألّم بك الأسى قامت بقلبي سائر الآلام..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم