صحيفة المثقف

صورة الصنم في ديوان "ليلة مجنونة" للشاعر مريد البرغوثي

تشتغل هذه النصوص على فضح صورة الصنم / الدكتاتور عن طريق رسم صورة قاتمة تقوم على التفرد والتسلط والتعسف والعنف.

وقصائد الصنم هو العنوان الجامع وسيميائها الرابط لها، واللافت أن الشاعر لم يختر عنوان الدكتاتور مثلا، وفضل دال الصنم؛ لدلالات منها:

. الدلالة التداولية للصنم في الموروث الديني والشعبي والتاريخي.

. الصنم يُصنّع ويُكوّن، ويُصنّم كما أشار إلى ذلك مريد في مقابلاته .

. الهالة المقدسة التي كانت تحيط بالصنم، العبادة والاجلال، والتقديس.

. القابلية للكسر والتحطيم، " فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم".

ويبدو أن صورة الصنم في النصوص المدروسة تنحو نحو الصنم العربي لا غيره، ومن جهة أخرى، فليس الصنم في القصائد هو الدكتاتور أو الرئيس وحسب، بل نعثر على صور متعددة له منها: الصنم الجنرال،  والصنم المفتي، والصنم قائد الحزب، والصنم الوصولي، والصنم المرأة/ الجلاد.والصنم في النصوص يرث ويورِث،، وثمة صنم كبير، وصنيومات صغار .

في القراءة الداخلية للصنم يتغيا الشاعرنقد العقل العربي، وجلد (نحن)، ونقد الثقافة المتكلسة والدين المزيف لدى بعض رجال الدين، أو ما يمكن أن نسميه السلفية الثقافية .

في الحديث عن العنونة لم يقدم الشاعر الصنم كما تعهده العامة بل اختار الصفات، والقيم السلبية، ومتعلقات الصنم .

صحيح أن السخرية تتبدى في النصوص لصورة الصنم، غير انها تسخر من الذات الجمعية نحن، ويحاول الشاعر أن يتخفف من مبدأ السخرية كيلا تبدو صورة الصنم فقط صورة أرشيفية، وكاريكاتورية مضحكة كما هو المعروف في المسلسلات العربيه والمسرحيات.

وعند البحث عن صورة الدكتاتور في الأدب العربي الحديث، يرى بعض النقاد أن الكتاب قد عزفوا . بقصد . عن الكتابة عن صورة الدكتاتور العربي بعامة، ولم يلتفت إلى هذه الموضوعة الا مؤخرا فيما يمكن تسميته أدب المعارضة السياسية، وبخاصة عند الكتاب العرب في الغرب، أوفي اثناء ثورات الربيع العربي، ويعود ذلك بطبيعة الحال إلى حالة القمع والعنف الممارس وتسلط أجهزة الأمن العربية على الحكم، وربما هو العقل العربي المتقبل لذلك، ويبدو أن التبرير الديني عبر مصطلح السمع والطاعة، ولا أستثني هنا كثيرا من الأحزاب التي تحمل فكر المعارضة ثم توالي الحاكم/ الدكتاتور؛ لمصلحة أو نكاية في حزب آخر .

هذه الأسباب وغيرها جعلت الكاتب العربي ينأى عن خوض معارك ضارية مع أنظمة الحكم العربي، اللهم ما كان نقدا خفيا أو رمزيا.وبالطبع، لا يعني ذلك خلو الساحة تماما فنجد مثلا أحمد مطر في لافتاته، ومحمود درويش في خطب الدكتاتور، وحديثا عند الكاتب أيمن العتوم في رواية " حديث الجنود" و " ويوم مشهود" ... .

 إلا أن الدارس يرى العكس تماما عند كتاب أمريكا اللاتينيه كما يظهر في كتابات جابرييل جارسيا ماركيز (رحلة موفقة سيدي الرئيس) ورواية (الجنرال في متاهته) و(خريف البطريك)

ترد في مدونة ليلة مجنونة (١٩٩٦) مجموعة من النصوص تحمل عنوان (قصائد الصنم)

وسيعالجها الدارس موضوعيا تحت هذا الباب ولسانيا كمرجعية دلالية ومحمولات لغوية، ومن ثم تدخل المقالة في الحفر في الأبعاد والمرجعيات الثقافية .

. النص الأول (المشورة، ص٥٥)

صنم رخاميُ

أصيب بحيرة من أمره يوماً

دعانا..فامتثلنا تحت شرفته الرخام

وبدا حزينا... راعش الكفين

مذ قالت له عرافة أعجميةٌ: ستموت

إن لم تستشر أحداً!

تنحنح ثم نقل بيننا نظراتِه...

كدنا نصدق أن فينا من سيمنح فرصة

للنطق بين يديه أول مرة من ألف عام...

فإذا بسيدنا الصنم

يستل مرآة ويرفعها

وينظر ... ثم يسألها فتنطق بالمشورة

ثم يشكرها

ويكسرها

مخافة أن يُعوّدها على حق الكلام

ينبعث النص عبر تفكيك قيمة/ ثيمة "الشورى" والديمقراطية، الحق في إبداء الرأي وحرية التعبير . غير أن الصنم الملهم لا يستشير أحدا، فيصادر حقّ الناس في إشاعة مبدأ الديمقراطية، والحزب المعارض، البرلمان، الفقراء...

توزع تلك القيمة عبر حقلين أو بنيتين متضادتين بين الصنم الرخامي (هو الأعلى) وشخصية (نحن الأدنى).

ففي حين ترسم البنية الأولى صورة للصنم ترتكز على الحيرة والحزن، ورعشة الكفين، سمات جسدية ونفسية، يبرر النص مسوغات تلك الصفات أن عرافة أجنبية هددته بالموت والاندثار إذا لم يمارس مبدأ الاستشارة بوصفها بؤرة النص وقيم الدول الأجنبية، وهذا ما يؤكد لنا جنس الصنم العربي، ومرجعية العرافة الأجنبية.

في حين تقوم بنية نحن على الامتثال لدعوة الصنم (دعانا، فامتثلنا)، وهنا تبدو المفارقة في أن لدى الصنم بطانة تحيط به، وثلة من المقربين، غير أنهم لا يجرؤون على مخالفته .

تنصرف دلالة الزمن (ألف عام) إلى طول المدة وسيرورتها ؛ فهي ليست دلالة زمنية محددة وبالتأكيد فإن الشاعر يدرك الفرق الدلالي بين لفظي سنة وعام، في دلالة الأول على الشدة والأخير على الرخاء.وقد اختار لفظ عام مع أن السياق يدل على الشدة، وذلك لسببين في تقديري الشخصي:

. إن استمراء هذه الثلة (نحن) واقع الحال جعلهم لا يفرقون بين الدلالتين، فكأن الوضع أصبح معتادا. ولكن هذا السبب تنخفض وجاهته حين نقرأ (كدنا نصدق أن فيما من سيمنح فرصة ..).

والسبب الآخر هو أن الشاعر غير معني أصلا بالتوجيه الدلالي للمفردتين بقدر اعتنائه بالوصف العام لليومي والواقعي، فالتداولية التي تعني استعمال اللغة عند أهلها تعنى بمبدأ الاستبدالية اللغوية بين سنة وعام، فنحن نقول في عيد الميلاد (سنة حلوة)، ولا يعترض أحد ويمكن أن يدلي قائل بأن القافية المتجاوبة بين ( الرخام/ الكلام/عام) جعلت الشاعر يحافظ على الخيط النغمي.

على أية حال تبرز إشكالية في النص وهي أن الصنم اجترح حيلة (المرآة) ليتخلص من نبوءة العرافة، ويحقق مبدأ الاستشارة، ولكن أليست المرآة تمثل (وجه الصنم) وظله وصورته العاكسة لرؤيته ؟ فكيف سمح الشاعر الصنم أن يكسر ظله وصورته .فهل كان الشاعر واعيا لفعل الكسر؟ هذا إن سلمنا بأن صورة الصنم هي ذات ثانية له، وأن للصنم ذواتا متعددة تتخلق؟ ... ربما.

النص الثاني: (الرحيم/ ص57)

الصنم

زيه العسكري

فصلته المعارك طبعا

وفي يوم عطلته يرتديه

فيزداد طولا مع القبعة

لا سوفوكليس يرقى لإلهامه

لا ولا يجرؤ الغيم أن يشتهي موقعه

ذات مغضبة أعمل السيف فيمن عليه

وحين استفاضت حماسته

أعمل السيف فيمن معه

ولكنه وهو يلقي خطابا له في الصباح

بكى صادقا

حيث لم يبق من قومه

أي حي لكي يسمعه !

تتبأر المفارقة الضدية منذ العتبة النصية ( الرحيم) ليتخلق سؤال مرجعي ؛ كيف يكون الصنم رحيما؟ هذا الصنم الذي لا يعرف سوى لغة القتل االدموي للمعارضين إذا غضب، والموالين إذا تحمس . ويشير مريد بالطبع في البعد الثقافي إلى الحكم العسكري لا السياسي، فضلا عن الحكم الديمقراطي بطبيعة الحال .

يرسم النص للصنم صورة تتمتع بالمبالغة والغلو ابتداء من الشكل العسكري فيما يتعلق بالزيّ والقبعة، وهو على المستوى المعرفي أكثر إلهاما من سوفوكليس الكاتب الإنساني اليوناني

وتبدو متعة القتل لديه كما يوضح النص في حال الغضب،  وتوظيف المصدر الميمي (مغضبة) أشد دلالة في التعبير اللساني وآكد ؛ فكل زيادة في المبنى تدل على زيادة في المعنى، حيث "يجيء المصدر الميمي مختومًا بالتاء من الثلاثي المجرد على وزن (مَفْعَلَة)؛ لبيان سبب كثرة الحدث، والحامل عليه، والداعي إليه" .

يعتمد الشاعر على تقنية المفاجأة الدرامية حين يقول:" بكى صادقا" والحال " صادقا" ينفي صفة التباكي التي يمكن أن تنطلي على الحضور، والبكاء هنا يستدعي قيمة الرحمة ليتسق ظاهريا مع العنوان " الرحيم".

يهدم الشاعر ما بناه سابقا من حيثية البكاء بصدق ليعود إلى فضاء المفارقة الضدية الساخرة، حينما يسوغ منطقيا سبب البكاء أنه لم يجد أحدا يسمعه بعد ممارسة القتل.

وفي رأيي أن القفلة غير ذات وهج شعري، تسقط في النثرية، وتقع في المبالغة غير المبررة، وتخلو من الصورة الشعرية.

.النص الثالث: "الصنم الحزبي"/ ص65.

يتناول أدوية الشيخوخة

ويبدل سماعات الأذنيين

ليلقط أي دبيب يدنو من منصبه

ويساعده فحلان من الحراس

على حمل الكرسي مساء للبيت

يغمره الاطمئنان إلى زوجته النائمة يساره

ويحط أصابعه اليمنى فوق الكرسي

ويمسكه مغتبطا وينام

 صور جديدة وطازجة وجريئة جدا تقفز عن المعنى المعهود للدكتاتور الرئيس أو الجنرال العسكري لتتناول بالأسئلة الشائكة عن أصنام الأحزاب العربية ذات اليمين وذات اليسار.

ويمكن إجمالها فيما يأتي:

. الصنم الحزبي العجوز المتهالك المتشبث بالمنصب، وهو بهذا لا يختلف عن الصنم الرئيس الدكتاتور.

.الهلع والخوف من زوال الكرسي رغم تقدمه في السن –حتى إنه ينقله معه إلى البيت .

. الحراسة المشددة على الصنم الحزبي، وهو من سمات الصنم الجنرال .

. صورة الزوجة النائمة يساره " وكلمة اليسار هنا تحمل دلالة مرجعية كما أن أصابعه "اليمنى" ذات دلالة ثقافية أيضا .

 إن حضور الزوجة النائمة ليلا تحمل دلالات اجتماعية واسعة في قلة الاهتمام بشؤون الأسرة، وأنها تأتي ثانيا وثالثا في دائرة الاهتمام، وهو نقد مبطن للأحزاب السياسية الفاعلة على الساحة.

.انتشار الفعل الحاضر الحامل لمعاني الاستمرارية ( يتناول/ يبدل/ يغمره/ يحط/ يمسكه/ ينام) ما يوحي بالديمومة الفعلية والزمنية لحدث الكرسي الحزبي .

.اللغة النثر/شعرية التي ترافق الحدث النصي .

.النص الرابع: المفسّر:68

صنم مسبحة من اليسر المتوج بالذهب

متربع في فرو خاروف

ويشرح ما يريد من الكتاب

في عينه ورع

ولكن عينه الأخرى

تهيؤنا ولائم " للذئاب"

لطالما شاهدنا صورة الشيخ والمفتي في النص الأدبي بلباسه الخاص، وهيئته الدينية المجردة، التي تدين العقل الديني الأعور في الأمصار العربية .

يقدم الشاعر صورة تقليدية مهولة لهذا المفسر من خلال (سبحة اليسر) الطويلة والسوداء، وهو متلفع بفرو الخاروف، ويفتح كتابا يفسر ما يريد وكيف يريد، وتبدو علامات الورع لمن يشاهده، وعلامات التقوى الظاهرة على محياه وفي عيونه

 والمقصود هنا بالعين الوجه الظاهري له، أما الوجه الثاوي والمخفي وهو المهم والذي يتناسب وصورة الصنم، فهو الوجه الأسود والصورة الظل للصنم الحاكم، حين يلوي عنق النصوص، ويفتي للصنم الأكبر ما يعضد حكمه عبر أساليب وفتاوى وأحكام تجتمع في السمع والطاعة .

والصنم المفسر بدلالة "المفسر" يعلم التأويل المضمر للرؤية والرؤيا / الواقع والمستقبل

وهو بهذا يستمد قوته الغيبية لإقناع الحضور الجهلة . ولكن لماذا يفعل المفسر كل هذه الأفاعيل؟

يكثفها الشاعر بخاتمته الشعرية " يهيؤنا ولائم للذئاب"وفي هذا الجملة التعبيرية دلالتان:

. دلالة "ولائم" ومفردها وليمة، وهي تدل على الاجتماع، وميثولوجيا ترتد إلى موروث جاهلي حيث كان بعض العرب يقدم ولده للصنم قربانا ويذبح الذبائح لنيل البركة، وهو تماما ما تفعله شخصية المفسر في تقديم الناس ولائم للصنم الأكبر .

. دلالة " الذئاب" وقد وضعها الشاعر بين علامتي تنصيص؛ لتدمر معناها الحقيقي وتنزاح نحو معنى آخر يحمل سمة الذبح والدم والافتراس، والمعنى واضح في إشارته إلى الحكام الذئاب، أو من ينوب عنهم .

. النص الخامس: صوينمات/ 69

صنم يربي كالدجاج صوينمات

ثم يطلقها علينا كي نقدس ريشها

ونقدم الصلوات كي ترضى علينا

ثم يعلفها بألقاب لها وقع الهراوات التي تهوي

وعندئذ

تظن دجاجة صنم بأن لها مخالب كالأسود

ولبدة ومهابة

وتروح تزأر كي نخاف وننزوي

وسلالة الأصنان تولد هكذا

صنم يحن على صنم

ليسوقنا الإثنان

في زهو

إلى قفص المخافة كالدجاج

تنفلت الصورة المرسومة للصنم من إطاراتها المركزية في تصوير الأصنام الكبار " الرئيس /المفتي، الجنرال، الحزبي..." لتقدم صورة للصنم / الهامش، الصنم الصغير، عن طريق توظيف التصغير في الصرف العربي الذي ينصرف في النص إلى معنى التحقير .

وصوينمات مختوم بألف وتاء وهو ما ينصرف في العادة إلى المؤنث ليتواءم مع لفظ " الدجاج" التي تظهر وتتظاهر على شكل الأسود في ألقابها، وأصواتها، وريشها، ومخالبها، كي تبث الرعب في الناس العاديين، وبهذا يتم مشهد التحول إلى:

الصنم ...... الدجاجة ... الأسد

يؤكد الشاعر أن الأصنام ينحدرون من سلالة "الصنمية" منذ الولادة إلى الممات وحتى التوريث.

وكما تتناسل الأصنام في سلالتها، للأسف يتناسل الشعب كالدجاج المسجون في قفص وبذا تتحول المعادلة إلى:

. الأصنام الصغار ..... دجاج بهيئة أسود وهراوات وزئير.

. الشعب ........ دجاج بهيئة الخوف وقابلية الانقياد عبر تقديم العلف .

. القفص ......... الخوف .......... الدولة

في الديوان صور أخرى للأصنام: (القائد الصنم، والولد المراهق المهيأ للصنمية، والصنم الوصولي، والمرأة التي تنحدر إلى الصنمية عبر وصفها ب" الجلاد").

ومهما يكن من أمر القصائد، فقد رمى الشاعر من خلالها إلى نقد الواقع العربي، السياسي والديني، والثقافي... غير أن ألنصوص بعامة كانت تروى بضمير الجمع "نحن" لإدانتها

في عدم الفعل والتمرد والانعتاق .

 انتهى

 

د. خليل قطناني

أستاذ البلاغة والنقد

كلية العلوم والدراسات الإسلاميّة/ فلسطين

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم