صحيفة المثقف

الشخصية المعنوية للحضارة

رحيم الساعديمن اجل مدرسة عراقية وعربية لفلسفة التاريخ (مقال بحثي)

في طريق سياقتي الى النجف لا انسى ان اسلم على الفرات، كلما عبرت جسر الحلة، وقد اثار ذلك استغراب صديقي الدكتور رائد جبار في احدى المرات، فقلت له انني اتعامل معه بوصفه شخصية معنوية، بالطبع وفق تصور وجودي وليس القانوني فقط .

والشخصية المعنوية مفهوم يعيش في كنف القانون وهي تتعلق بهيئات ومؤسسات وايضا الجماعات التي يعترف بها المشرع، ويعطيها الحق في ما يخص التصرفات القانونية في التعامل، من جهة الحقوق والواجبات، وكونها مستقلة شأنها في ذلك شأن الأشخاص الطبيعيين

وتصنف الشخصية المعنوية الى خاصة وعامة والاولى حول الشخصية القانونية التي لا تتبع الدولة بل تتبع الأفراد والجماعات الخاصة اما الشخصية المعنوية العامة فهي الدولة أو الشخصية المعنوية التي تتبع الدولة .

لكن بإمكاننا النظر في مفهوم الشخصية المعنوية من زاوية (وجودية – ومعرفية- وجغرافية – وتاريخية – ودينية....الخ). دون الاكتفاء بتقسيمات جزئية .

بمعنى ان وجود الانسان بحد ذاته او هذا الوجود او الفضاء اللامتناهي او الكواكب التي بدا مسلسل اكتشافها تمثل شخصية معنوية او جزء من شخصية معنوية، وهكذا يمكننا الحديث عن السيستم المعرفي طالما انه ارتبط بمدعيه او موجده او مبتكره، وقل مثل هذه التصورات عند الحديث عن القران كوجود يمكن مناقشته وتقديسه واحترامه او نقده من قبل البعض الاخر، ووفق كونه نصا مستقلا ينتمي الى جماعة او تنتمي اليه الجماعة، وهذا التقارب والتداخل يعني ازدواجية الشخصية المعنوية، وفق المنظور البشري او القانوني او الاجتماعي او الفكري .

وتبرز ثلاثية مهمة جدا بجانبها التاريخي والجغرافي والديني، وهي تتداخل بشدة وفق مفهوم الشخصية المعنوية فهي تمثل الحضارة و الامة والشعب وما الى ذلك من الهويات الجامعة، والامم لا تستغني عن هذه الثلاثية المهمة، اقصد (التاريخ والجغرافيا والدين)، لكن ماذا عن العمران والعلم والثقافة، اظن بان هذه الاخيرة هي تمثلات للحضارة،وهي مؤممة لكل الانسانية . الا ما تعلق بعمران خاص مثل برج باريس او مرقد الامام علي او بيت الله او تاج محل في الهند او سور الصين.

ومن الشخصية المعنوية الجغرافية قد نلمس النهر والجبل والبحر وحتى القمر، وكلها تنوعت بوصفها وجود خاص لبعض الامم احيانا .

اما التاريخ هو انك تنتسب الى الارث ومس ذلك الارث يعني ثلم هويتك ،والانتساب طبعا بنسب متباينة متفاوتة، والجغرافيا هي الجانب الاشد ارتباط بالقانون اليوم وبالتالي بمفهوم الشخصية المعنوية، ولذلك تجد بان وسيلة الحفاظ الى الشخصية المعنوية الجغرافية هي الاكثر الم وقسوة على مر التاريخ، ولك ان تسال عن الصراعات السياسية والحروب العالمية وسقوط الامبراطوريات، وعن صراعات القانون الدولي الذي تقوده الإمبراطوريات قديما وحديثا، لتعرف حجم فداحة وضرر الشخصية المعنوية للحضارة والشعوب.

انه اصطفاف لولادة وموت الحضارات التي تشيخ وتموت او قمع للحضارات التي تموت طفلا طريا (وهو ما يمكن تسميته بالحضارة الطفل او الجنين الحضاري).

وغالبا الحضارات تلبس شخصية من يدير الدولة فلا نذكر سمات حضارة ما الا بملازمة من اسسها، وهذا تداخل بين مفهوم الشخصية المعنوية الانسانية سواء اكان السلطان – الملك – الامبراطور- النبي – القائد الملهم – الامير – المرأة – الصبي – الرمز – الجماد ...الخ، وبين الشخصية المعنوية للبناء الهرمي المتمثل بالدولة .

ولان القوانين ليست موحدة ولوجود التقادم في التاريخ، فلا يمكن مثلا للدول التي مر بها جنكيز خان ومنها العراق والشام، معاقبة البقعة الجغرافية التي خرجت منها تلك الجيوش بوصف تلك الاماكن او هذا الشعب بمثابة الشخصية المعنوية، التي يجب ان تحاكم قانونا، لكن هذه المسائل قد تنشط مثلا عندما تتحدث  ارمينيا عن مجزرة حدثت مع الاتراك . او قد تنشط عندما يتحمل العراق مثلا تبعات غزو لجيرانه .

بشكل عام ان التراث الديني الذي يستند الى قالبين الاول هو التاريخي والاخر هو الجغرافي، يبرز اليوم بوصفه الوجود الرمزي داخل الحضارات وهو وجود مستقل لم يصنعه الناس بل يحتفظ بكليته ووجوده ورمزه وقدسيته، وهو شخصية معنوية بامتياز كما لا يخفى ان بعض التراث الديني يقترب من الزيف، لكنه مع هذا تشابك وجوده بوجود الشخصية المعنوية الفردية والجماعية .

ولعل اكثر الشخصيات المعنوية خصوبة هي ما يوصف بالميتافيزيقي وهو على صنفين الاول يمتد ويستمر مع التاريخ (ويمكنني وصفه بالحضارة المعنوية) فهو وجود حي ممتد يرافق التاريخ ومثاله وفق النصوص الاسلامية والمسيحية واليهودية عيسى المسيح والخضر وعزير والمهدي المنتظر،ولا يمكن باي صورة التعرض لهذه المحاور المعنوية بحرية لانها شخصية معنوية بالرغم من جانبها الميتافيزيقي .وترتبط هويتها بهوية امة ما سيما الامم الكبيرة، وهي بغالبها مشاريع مستقبلية طويلة الامد، تتصارع الامم والملل لتثبيتها في ضمائر من ينتمون لها .

والصنف الاخر هو الميتافيزيقي الذي غاب عين وجوده عن هذا العالم مثل الانبياء النبي محمد والنبي موسى وغيرهم او الملهمون او بعض الملوك والاباطرة .

ان الحديث عن جانب الشخصية المعنوية في الحضارات يقودنا الى ان الدول اليوم وبالأمس مثلت كل منها شخصية معنوية وكيان مستقل ، وقد تنوعت الى صور عديدة منها الفردي عندما تبرز الذات الخلاقة (الشاعر – الفيلسوف – الكاهن  - النبي – الطبيب ...الخ) او الى المجموع (الامة – الشعب- القبيلة – المجموعة الدينية – العصابة – الجيش) وتقترب هذه التصنيفات من علوم الاجتماع لكنها تشير الى اكثر من وجود مختلف ينتمي للفلسفة والجغرافيا وللتاريخ والفلسفة التاريخ وغير ذلك .

 

د. رحيم الساعدي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم