صحيفة المثقف

ثورة العشرين مهدت لتأسيس الدولة العراقية

عبد الحسين صالح الطائيقرن على تأسيس الدولة العراقية (4)

حفل تاريخ البشرية بالعديد من الثورات التي غيرت وجه العالم برفضها للظلم والفساد، كالثورة الإنجليزية، الأمريكية، الفرنسية، الروسية، والثورة العربية التي طالبت بالإنفصال عن الحكم العثماني. الثورة بمفهومها العلمي تعني الإطاحة بمنظومة قيم الإستبداد. بعض الثورات حققت أهدافها بأساليب متعددة، وجرى تقيمها لاحقاً لغرض تجاوز الإخفاقات، ومنع عودة الظلم والطغيان من جديد.

لم تكن المفاهيم العصرية الحديثة كالوطنية والمواطنة والإستقلال متداولة لدى الكثير من العراقيين في ظل الهيمنة العثمانية. ولكن الوعي الفكري أخذ دوره في ظل سلطة الإحتلال البريطاني. أخذت المفاهيم العصرية في الإنتشار لدى الكثير من العراقيين كبداية للوعي الوطني الذي بدأ ينمو ويتوسع بمرور الأيام، لا سيما بعد أن توسعت دائرة الثورة في أكثر أنحاء العراق. شارك العراقيون فيها بمختلف فئاتهم وطبقاتهم، نتيجة التذمر الذي أخذ ينتشر تدريجياً، بعد إدراكهم بأن سلطة الإحتلال التي أنقذتهم من مظالم الدولة العثمانية، لا تخلو أيضاً من مظالم كثيرة.

أُطلِقت صفات متنوعة على ثورة العشرين، مستوحاة من أهمية الحدث في نفوس العراقيين. لأنها تستحق الفخر والتمجيد، أحدثت نقلة نوعية مؤثرة عمقت الفوارق الطبقية، أسهمت بمتغيرات بنيوية بتركيبة المجتمع، لأسباب إرتبطت بدور العلاقات السلعية الجديدة التي نمت بفعل حركة الرأسمال التجاري الغربي في العراق. وسعي الإقطاع وكبار الملاكين في تشديد الإستغلال على الفلاحين، وبتكريس العلاقات العشائرية، والتمهيد لفرض سيادة العلاقات الإنتاجية شبه الإقطاعية في البلاد. متغيرات مهدت لنمط فكري لدى شرائح كثيرة من العراقيين، وكذلك في توجهات سلطة الإحتلال، نتج عنها قناعة بضرورة أن يكون للعراق كياناً مستقلاً.

كُتِب الكثير عن ثورة العشرين، مدحاً وقدحاً، لأنها الحدث الأكبر الذي مهد لتأسيس الدولة العراقية، فبعد مرور أكثر من قرن من الزمن، فالضرورة تتطلب إجراءً تقيمياً موضوعياً من الباحثين المهتمين بالذاكرة العراقية. لتحليل كل الآراء التي تناولت الثورة سلباً وإيجاباً، بعيداً عن كل الخلفيات السياسية والأيديولوجية.

إمتازت ثورة العشرين بالمشاركة الواسعة، من أبناء الريف والمدن، صدرت حولها دراسات كثيرة، أهمها مؤلف د. علي الوردي، الذي أكد بأن معظم الدراسات تضمنت أسلوب المبالغة في التمجيد والحماس، وبعضها ذات طابع خطابي حماسي تفتقر إلى المنهج العلمي لأنها ذات بُعد واحد. وبعضها لا يخلو من روحية المزايدات الوطنية، على مبدأ من لا يبالغ في التمجيد يحسب من عملاء الإستعمار.

أكد د. سيار الجميل أن أغلب من كتب تاريخاً للثورة، كان في حالة فوضى فكرية، منطلقاتها متشبعة بالعواطف الطائفية أو التجريحات الشخصية أو التوصيفات الكيدية. كل طرف يسحبها نحوه ليفخر بالمشاركة فيها أو يصرّ على أن  يكون هو الأجدى وينفي مشاركة الآخرين فيها. وكل طرف يحاول بطريقته إخراج الثورة من إطارها الطبيعي ليصوغها حسب توجهاته ورغباته. أي ثمة مجادلات غير علمية بصدد الثورة التي صنعها الغالبية من العراقيين بمختلف إنتمائاتهم. فمن الأقوال المنسوبة إلى نابليون: بأن النصر له ألف أب. أما الهزيمة فالكل يتنصل من مسؤوليتها.

ولهذا ركز د. على الوردي على أهمية وضع الثورة على منضدة التشريح العلمي لدراستها من مختلف جوانبها، وفقاً لمنهجية علمية تعتمد الوقائع التاريخية الموثقة، وتسترشد بفكرة مفادها أنّ للبداوة دوراً مهماً في صناعة التمرد والثورة. الدراسة الموضوعية لا تتطلب التركيز على الجوانب الإيجابية فقط، والإفراط في الأخطاء التي إرتكبتها سلطة الإحتلال، التي تدور في محور الضغط السياسي وتقييد الحريات وغياب العدالة الإجتماعية. بل الإجابة عن كل الأسئلة الجدلية، لتسهم في إزالة الملابسات. لأن الثورة حفلت بتناقضات عديدة لم يتمكن المتخصصون من ترجمتها بموضوعية وحيادية لتوثيق الذاكرة العراقية.

العامل الديني من أهم العوامل في إنتشار الثورة، كان إتجاه الناس توجيه تهمة الكفر لكل من لا يؤيد الثورة، بالإضافة إلى تفاعل العديد من الأسباب، سواء أكانت سياسية تتعلق بقساوة التعامل وكتم الأفواه وقساوة القرارات والتشريعات الإدارية والمالية والعسكرية التي أثقلت كاهل الناس، أم بسبب بشاعة الإستغلال الإقتصادي للموارد وإستنزاف الطاقات المادية والبشرية، أم بسبب الظلم الإجتماعي بإشاعة الفرقة بين العشائر، وإثارة الأحقاد بين الطوائف الدينية بأساليب قهرية ذات طبيعة ازدرائية، تتسم بالتعالي والاحتقار وإمتهان كرامة الكثير من الشرائح المجتمعية. أساليب تسعى إلى تركيع البعض من العراقيين بحجة أنهم يرفضون الإنصياع للقوانين والتعليمات والأوامر.

لم يكن عهد الإحتلال خالياً من التمييز والظلم، وبالمقابل الصفة العامة للعراقيين هي عدم الصبر على ظلم وتعسف السلطة، ولا سيما هناك الكثير من الفتاوى لمرجعيات فقهية هيجت حماس ومشاعر شرائح إجتماعية كثيرة، خلقت أجواءً لتوسيع دائرة الرفض ومواجهة سياسة المحتل بكل الإمكانيات المتاحة.

والرأي الآخر من خصوم الثورة، نابع من فهمهم لطبيعة المجتمع العراقي، ولا سيما العشائر العراقية وسلوكها العدائي لكل حكومة مهما كان نوعها. هذه الميزة مرتبطة بطبيعة موروثها البدوي الذي يميل إلى الغزو والنهب، فهي تسعى للتمرد كلما سنحت لها الفرصة. فهناك بعض العشائر انضمت للثورة طمعاً بالفوز بالغنائم أكثر من المطالبة بالحرية والإستقلال.

يؤكد توماس لايل (Thomas Lyell) (1886-1956): "إن الطبيعة الفوضوية المشاغبة التي اتصف بها أهل العراق معروفة تماماً لدى المطلعين على شؤون الشرق الأوسط من الساسة الأوروبين، وإن عدم رغبة العراقيين فينا ليس بالأمر الجديد فهم لا يحبون أي حكومة تمنعهم من مواصلة غرائزهم الموروثة في التمرد على القانون واقتراف الجرائم العنفية". لا شك بإن التراث البدوي كان عاملاً مهماً من عوامل الثورة، ولكنه ليس العامل الوحيد، لأن الكثير من العشائر التي شاركت بالثورة كانت تقاتل بنفس الروحية التي حاربت بها الدولة العثمانية.

كل المؤشرات تشير إلى الأخطاء الكثيرة التي مارستها سلطة الإحتلال هي التي أدت إلى إعلان الثورة ضدهم. فلو مارست سياسات أخرى، لأمكنها التأثير الإيجابي في المجتمع، وإخراجه إلى نور الحضارة الغربية الحديثة. ولكن كانت السياسة البريطانية قاسية، ومحافظة على مبدأ تحقيق الأهداف الاستعمارية، ولهذا لم يستطع الفكر الديمقراطي البريطاني التناغم مع الواقع العراقي، بالصورة التي تساعده على التفاعل والتفاهم ومنح الحقوق المشروعة. هذه السياسية جلبت لهم الكثير من المتاعب، فتجربة الاحتلال البريطاني للعراق وعواقبها وتداعياتها، يمكن لها أن تقدم درساً حياً للمجتمع العراقي في كل مراحله اللاحقة التي لم يتمكن من استثمارها بشكل إيجابي.

جاء الإستعمار البريطاني محتلاً، وتصرف كمحتل فقمع إنتفاضة النجف في 1918، وثورتي 1919 و1920، وفرض على العراق معاهداته واتفاقياته، وكرّس فيه مصالحه. ذكر الدكتور الوردي الكثير من نماذج الإساءة للعراقيين، التي كان يراد بها تحطيم معنويات الناس وكرامتهم وإذلالهم، فارتفعت درجة الحقد والكراهية لدى الناس، وعمّق فجوة انعدام التفاهم بين الطرفين.

أسهمت عوامل كثيرة في إضعاف الثورة وتفكيك صفوفها. كانت القوات البريطانية، تمتلك قيادة موحدة، وسرعة في الإتصالات وتنظيم العلاقات والإلتزام بتنفيذ القرارات. في حين كانت قوات الثوار، لا تمتلك قيادة ميدانية موحدة. العشائر تتصرف بحسب ما تمليه عليهم إجتهادات الشيوخ، الذين يتخذون القرارات على ضوء مصالحهم الخاصة، من دون أن يلجأوا إلى التنسيق مع بقية العشائر، إضافة إلى تخلف فن قيادة المعارك عند قادة الثوار. لم يكن التنسيق بين المدن والأرياف ناجحاً، بسبب ضعف الثقة، وضعف مستوى الوعي السياسي للفلاحين. ومهما تعددت عوامل الإندحار تبقى ثورة العشرين، في إنتصاراتها وإندحاراتها نقطة تحول كبيرة في سياسة بريطانيا في الشرق الأوسط، وتعد خطوة مهدت لتأسيس الدولة العراقية، وتجربة سياسية غنية أكدت إستعداد الجماهير للقتال في سبيل الأهداف التي تسعى إليها. وعبرت في الوقت نفسه، عن نشوء نوع من الوحدة الوطنية والإحساس بالكيان الواحد، الذي لم يكن واضحاً في فترة الحكم العثماني.

 

د. عبدالحسين صالح الطائي

أكاديمي عراقي مقيم في بريطانيا

.......................

المراجع:

- د. علي الوردي: لمحات إجتماعية من تاريخ العراق الحديث، ج5، دار كوفان للنشر، لندن 1992.

- عبدالرزاق الحسني: الثورة العراقية الكبرى 1920، مكتبة نرجس، ط3، لندن 1971.

- موقع المعرفة.

رابط المقالة الأولى:

https://www.almothaqaf.com/a/opinions/953410

 رابط المقالة الثانية:

https://www.almothaqaf.com/a/opinions/953571

رابط المقالة الثالثة:

https://www.almothaqaf.com/a/opinions/953761

 

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم