صحيفة المثقف

قراءة في كتاب "هكذا تكلم زرادشت" لنيتشه (1)

محمود محمد عليكان فريدريك ويلهلم نيتشه: Friedrich Nietzsche ‏(15 أكتوبر 1844 – 25 أغسطس 1900) شاعراً، وموسيقاراُ، وناقداً اجتماعياً، وعالماً لغوياً، وكاتباً رمزياً، وعالم نفس، وفيلسوفاً، ومربياً. يقول عنه رايت Wright: هو شاعر،وموسيقار، وكاتب مقال، ولغوي كلاسيكي، وفيلسوف " (1)؛ ويقول عنه عبد الوهاب المسيري: فيلسوف علماني عدمي ألماني، أول من عبر بشكل منهجي وصريح عن النزعة التفكيكية في المشروع التحديثي والاستناري الغربي الذي يدور في إطار العقلانية المادية " (2).

ويعد كتابه " هكذا تكلم زرادشت (1905) أعظم ما كتب من وجهة النظر الفلسفية والأدبية والتربوية. ففي هذا الكتاب يعرض نيتشه فلسفته في رمزية غامضة تتحدي القارئ، أن يبلغ إلي تفسيرها أو يقدر مبلغ الحق  فيها، ويقدم هدفه التربوي الذي يتمثل في الإنسان الأعلي، ويضع ملامح برنامج تربوي يعين  علي  تحقيق هذا الهدف . ولا تقل أعماله الأخري إثارة، وإن كانت أكثر انفتاحاً للفهم . يقول محمد المسير: " يعتبر كتاب " هكذا تكلم زرادشت" إنجيل فلسفة نيتشه .. رغم غموضه، ورمزيته، واستطراد حواره، وتعقيد مواقفه) (3)، وقد عرف نيتشه نفسه أهمية كتابه فقال:" إن هذا الكتاب درة وحيدة يعجز عن الإتيان بمثله الشعراء، ولا شئ يساويه في سحر ألفاظه، وعمق أفكاره، ولو جمعنا كل ما شاهده العالم من خير وروح في أعاظم الرجال، لما استطاعوا جميعهم أن يأتوا بحديث واحد من أحاديث زرداشت" (4).

لم يكن نيتشه فيلسوفاً مذهبياً، بل كره المذهبية، والاتساق والنظام، فاشتملت كتاباته علي أنصاف حقائق أو أنصاف أخطاء، غير أنه كان أكثر إثارة من معظم الفلاسفة المذهبيين، ولا يكاد يقرأ أحد أعماله دون أن يفكر فيها تفكيراً عميقاً . ويذهب يسري إبراهيم إلي أن نيتشه كره الأنساق الفلسفية " لعنايتها بالترابط المنطقي وإغفالها للواقع . فالواقع مراوغ وفوضوي، ولا يناسب أي نسق " . ولعل هذا ما يفسر موقف نيتشه من النزعة العقلية الغالبة علي الفلسفات التقليدية التي حاولت جعل الحقيقة كلها في متناول الإنسان .

ولم يقدم نيتشه بناء فلسفياً شامخاً، بل قدم أفكاراً متناثرة، وحكماً مبعثرة، وقصائد شعرية، وأحاديث رمزية،تفتقر إلي النظام وتوهن بالتناقض، ولا يكاد القارئ يدرك الارتباط بينها إلا بإعمال العقل، وكد الذهن، والقراءة المتأنية لكل أعماله . يقول يسري إبراهيم: " إنه (يريد نيتشه) يقدم مجموعة من الأفكار تترابط فيما بينها .. ولكن القالب أو الإطار الذي تتبدي فيه هذه الأفكار يفتقر إلي النظام، وتدب فيه الفوضي " (5) . وترجع صعوبة قراءة نيتشه إلي تناقض عباراته، فكل فكره من أفكاره لها ما يناقضها في بعض أعماله، وإلي طريقة استخدامه للكلمات، فهو يستخدم الكلمة في سياق لتشير إلي معني غير المعني الذي تشير إليه خارج السياق؛ وإلي تعمده الغموض، فهو لا يكتب للقارئ العادي، بل إلي فئة خاصة يناديهم في كتاباته، يقول برتراندرسل: كان نيتشه " مغرماً بالتعبير عن نفسه علي نحو متناقض وصدم القراء التقليديين" (6)، ويقول نيتشه: " من يكتب  بدمه يريد  قراء مجتهدين .. إنني أكره كسالي القراء .. إن أقصر طريق في الجبال هو الطريق الذي يمتد بين القمم، ولكن من يجتاز هذا الطريق يجب أن يكون طويل السيقان . والحكم يجب أن تكون قمماً، وتخاطب الكبار والطوال " . ومعني ذلك أنه لم يكتب لكل الناس، وإنما للخاصة . ويمكن التغلب علي مشكلات التعبير عند نيتشه بالمقارنة النقدية للعبارات وثيقة الصلة بأي موضوع يتناوله (7) .

ولقد أحدث نيتشه ثورات عظيمة في مجال الكفر الإنساني ؛ وبخاصة في الدين والأخلاق، والفلسفة، والسياسة والاجتماع، والتربية، وبشر بثقافة جديدة وإنسان جديد . لقد أدرك  نيتشه تضاؤل اهتمام معظم الغربيين بالمسيحية فأعلن موت الرب، وكان موت الرب حدثاً لا حظه في ثقافة القرن التاسع عشر، حيث ضاقت مكانة الرب فاختفي شيئاً فشيئاً من حياة الناس، وبخاصة بعد الثورة الفرنسية، والثورات العلمية والصناعية، ثمر فكر في النتائج الدينية والخلقية والفلسفية التي ترتبت علي هذا الحدث الجلل . إن موت الرب كان موتاً للآخرة، وإلغاء للإيمان بعالم آخر، وإنكار للازدواجية الثقافية، وأنكر نيتشه الأخلاق القائمة علي أساس الدين أو العقل لأنها تبخس قيمة الهنا، وترفع قيمة الهناك، ودعا إلي أخلاق تقوم علي أساس الحياة والطبيعة الإنسانية فالحياة في رأيه قوة، والطبيعة الإنسانية تسعي إلي القوة، وأطلق عليه كامل عويضة  نبي  فلسفة القوة، وهو العنوان الفرعي لكتابه " فريدريك نيتشه: " نبي فلسفة القوة" (8)، وقسم نيتشه الأخلاق إلي نوعين: أخلاق السادة وأخلاق العبيد قائلاً بصراحة:" هناك أخلاق للسادة وأخلاق للعبيد، وأسارع إلي إضافة أن النظر في الحضارات الراقية والهجينة كلها، يظهر حيناً محاولات تسوية، بين نمطي الأخلاق هذين، ويظهر غالباً خلطاُ بينهما، وحتي في الإنسان عينه وداخل النفس الواحدة . وقد تولد التمييز بين القيم الأخلاقية، إما من صلب جنس غالب، أدرك بالتذاذ امتيازه عن الجنس المغلوب، وإما من صلب المغلوبين العبيد والأتباع علي مختلف الدرجات (9).

فما قصة كتاب " هكذا تكلم زرادشت؟ .. وما ظروف تأليفه؟ .. ولماذا أدرجناه من ضمن الكتب التي لا تُتنسي؟

الكتاب له ترجمتان: الترجمة الأولي صدرت عن منشورات المكتبة الأهلية – بيروت سنة 1938 .. عدد الصفحات 378 صفحة من القطع الكبير .. والطبعة الثانية ... وهذه الترجمة نقلت عن اللغة الفرنسية من خلال فليكس فارس بلغة أدبية رصينة، تحت عنوان " هكذا تكلم زرادشت  كتاب للكل ولا أحد" ؛ بينما كان هناك ترجمة عن الألمانية مباشرة لعلي مصباح في عام 2003، ولكن لغته في الترجمة جافة، تحت عنوان " هكذا تكلم زرادشت  كتاب للجميع ولغير أحد".

وعندما صدرت ترجمة فليكس فارس، تم إعادة نشرها من خلال طبعتين الأولي كانت من خلال مكتبة هنداوي عام 2010 ، وهناك طبعة أخري جديدة صدرت عن المركز القومي للترجمة عام 2014، وفي هذه الطبعة قام الأستاذ مجاهد عبد المنعم مجاهد بتصدير له؛ وقال مجاهد في تصديره: إن مترجم الكتاب راعى أسلوب نيتشه فى التعبير الذى يأتي على شكل ومضة، وأحيانا على شكل جملة ليس لها فعل، أو فاعل، مؤكدا على أن عبارات نيتشه حافلة بالمعنى العميق، ومؤكدا على أن المترجم أبرز فى مقدمته أن نيتشه يريد خلق الإنسان المتفوق جبارا كشمشون وشاعرا كداود وحكيما كسليمان، كذلك اهتم المترجم بالإشارة إلى أن محور الدائرة في فلسفة نيتشه إيجاد إنسان يتفوق على الإنسانية، ومن ذلك عبارته "إنني لم أجد المرأة التي تصلح أما لأبنائي إلا المرأة التى أحبها" مشيرا إلى أن هذه العبارة من أعظم ما كتبه الفيلسوف الألماني (10)؛ أما فليكس فارس، فيشير في تمهيد الكتاب إلى أن "زرادشت"، صدم تيارات الفلسفات المتناقضة منذ نصف قرن فى أوروبا، موجها الإنسان إلى تلمس مواطن القوة فى نفسه (11).

ثم قام الأستاذ " علي مصباح بترجمته عن الألمانية كما ذكرنا في طبعته الأولي في عام 2007 ؛ وذلك ضمن منشورات الجمل، كولونيا (ألمانيا) – بغداد، وقال علي مصباح في مقدمة الكتاب: " لعل الصعوبة الكبري التي يلاقيها مترجم " هكذا تكلم زرداشت " تكمن في ذلك التفرد اللغوي الذي جاء عليه . ويتمثل هذا التفرد في أن نيتشه يكتب هنا لغتين متلاحمتين مندمجتين داخل لغة واحدة: لغة الأناجيل من جهة، وهو اختيار واع لأنه كان يضع نصب عينيه آنذاك غاية محددة من وراء هذا الكتاب الدي حوصل فيه وجمع كل أفكاره الفلسفية التي وردت في كتاباته الأخرى، في شكل أدبي مكثف أراد أن يجعل منه " انجيلاً" جديداً أو "خامساً"، أو انجيلاً معاكساً . وبكلمة واحدة، نقض للأناجيل في كتاب يتكلم لغة الأناجيل (12).

ومن خلال الترجمتين نجد أن كتاب "هكذا تكلم زرادشت" لنيتشه يمثل رواية فلسفية للفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، تتألف من أربعة أجزاء صدرت بين 1883 و1885. تتكون من سلسلة من المقالات والخطب تسلط الضوء على تأملات زرادشت، وهي شخصية مستوحاة من مؤسس الديانة الزرادشتية.

وقد صاغ نيتشه أفكاره الفلسفية في قالب ملحمي وبلغة شعرية، وقدم في كتابه مقاربة للفضائل الإنسانية كما يراها إلا أنه أخذ عليه تمجيده للقوة ؛ حيث يعد نيتشه من أوائل من صاغوا نظرية الرجل الخارق.

والواقع أن نيتشه في هذا الكتاب كان شاعراً أكثر منه فيلسوفاً، إذ قال عنه الأديب الألماني الكبير "توماس مان" بأنه " أفضل ما كتب باللغة الالمانية". كما قال عنه نيتشه نفسه " لقد أوصلت اللغة الألمانية إلى ذروة كمالها". وفي هذا الكتاب كسر نيتشه جميع الحواجز التي وقفت أمامه، وحطم الإيمان بالحقيقة المطلقة، والقيم الانسانية. ومما قاله: " ليس هناك وجود مطلق، وإنما وجود يتكون، وليس هناك تجديد لا نهائي، وإنما عودة ابدية، مثل الساعة الرملية الأبدية للوجود التي تعيد دورتها باستمرار، ولا يحتاج الإنسان فيه إلى شعور رقيق، لأن كل المبدعين يجب أن يكونوا أقوياء الإرادة (13).

وقد ظهرت في هذا الكتاب أول إشارة للنظرية النيتشاويه التكرار الأبدي؛ حيث لخَّص |نيتشه| أفكاره الفلسفية في كتابه: "هكذا تكلم زرادشت" الذي قال عنه إنه "دهليز فلسفته". ويعد هذا الكتاب بحقٍ علامة من علامات الفلسفة الألمانية، فعلى الرغم من مرور أكثر من مائة عام على تأليفه، إلا أنه لازالت لأفكاره صدًى كبير؛ لدرجة أن البعض يعدُّه من أعظم مائة كتاب في تاريخ البشرية. وقد أثرت أفكار هذا الكتاب في مجالات إنسانية عدة كالحرب، والسياسة، والفن؛ فعلى سبيل المثال: كان بعض الجنود في الحرب العالمية الأولى يضعونه في حقائبهم، ويرى أستاذنا الدكتور "حامد طاهر"، أن أفكاره عن "الإنسان المتفوِّق" مثَّلت الأساس الذي قامت عليه الأيديولوجيا النازيَّة فأشعلت الحرب العالمية الثانية. كذلك امتد أثر هذا الكتاب إلى الأعمال الفنيَّة، فكان من أبرزها مقطوعة الموسيقار "ريتشارد شتراوس" التي حملت نفس اسم الكتاب، وفيلم "أوديسة الفضاء" ﻟ "ستانلي كوبريك" (14).

ويمثل الكتاب أحد أهم كتب الفيلسوف الألماني نيتشه، وأكثر الكتب إثارة للجدل، إذ حرص نيتشه (1844 – 1900) أن يناقش فيه قضايا فلسفية، فى قالب ملحمي، وصاغ فيه " الفضائل الإنسانية، كما يراها معبراً عن فكرة الإنسان الخارق أو السوبرمان" (15).

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

..............

1-وليم كلي رايت: تاريخ الفلسفة الحديثة، المترجم / المحقق: محمود سيد أحمد، دار التنوير، الطبعة الأولى، 2010، ص 384.

2- عبد الوهاب المسيري:  نيتشه فيلسوف العلمانية الأكبر، مجلة الملتقى، العدد 16، 2007، ص 110.

3- محمد سيد أحمد المسير: المجتمع المثالي في الفكر الفلسفي وموقف فلاسفة الإسلام منه، مؤسسة علوم القرآن، دمشق وبيروت، ص 418.

4-فريدريك نيتشه: هكذا تكلم زرادشت، مؤسسة هنداوي، القاهرة، 2014، ص 14.

5- يسري إبراهيم: نيتشه عدو المسيح، سينا للنشر، القاهرة، 1990، ص 45.

6- برتراند رسل: تاريخ الفلسفة الغربية، الكتاب الثالث – الفلسفة الحديثة، ترجمة د. محمد فتحي الشنيطي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1977، ص 393.

7- عبدالمجيد عبدالتواب شيحة: فريدريك نيتشه فيلسوفاً ومربياً، حولية كلية التربية، جامعة قطر - كلية التربية، س 14 , ع 14، 1997، ص 289.

8- كامل محمد محمد عويضة: فريديريك نيتشه ( نبي فلسفة القوة)، دار الكتب العلمية، بيروت، 1993.

9- نيتشه: ما وراء الخير والشر تباشير فلسفة المستقبل، ترجمة جيزيلا فالور حجار، مراجعة د. مراد وهبة، دار الفارابي، بيروت، لبنان، 2003، ص 257.

10-فردريك نيتشه: هكذا تكلم زرادشت "كتاب للكل ولا لأحد"، ترجمة، تحقيق: فليكس فارس، تقديم: مجاهد عبد المنعم مجاهد، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2014، ص 19.

11- نفس المصدر، ص 23.

12- فردريك نيتشه: هكذا تكلم زرادشت "كتاب للكل ولا لأحد"، ترجمة، علي مصباح، منشورات الجمل، بيروت، لبنان، 2007، ص 14.

13- أنظر مقدمة علي مصباح لكتاب هكذا تكلم زرادشت "كتاب للكل ولا لأحد،  نفس المصدر، ص 9.

14- حامد طاهر: فلسفة القوة بين المتنبي ونيتشه، فكر وإبداع، رابطة الأدب الحديث، الجزء 88، 2014، ص 43-55.

15- سليمة فايد: الدلالات الدينية والفلسفية لفكرة موت الإله عند نيتشه، أماراباك، الأكاديمية الأمريكية العربية للعلوم والتكنولوجيا، المجلد 11، العدد 38، 2020، ص 154-155.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم