صحيفة المثقف

سؤال آينشتاين.. هل ان الله مقيّد بقوانين الفيزياء؟

حاتم حميد محسنفي إحدى الندوات طُرح سؤال هام جدا كان في الأصل أثاره آينشتاين فيه الكثير من الذكاء والعمق وهو: اذا كان هناك اله خلق كل هذا الكون وكل ما فيه من قوانين فيزيائية، فهل ان الله يتّبع قوانينه؟ او هل بإمكان الله إبطال او تجاوز تلك القوانين، مثل السفر بأسرع من سرعة الضوء وبهذا يكون قادرا على ان يكون في مكانين مختلفين في وقت واحد؟

لاشك ان ظروف الوباء الحالي تدفع الناس للتساؤل عن وجود الله، باعتبار اذا كان هناك اله رحيم فلماذا تحدث مثل كل هذه الكوارث؟ فكرة ان الله مقيّد بقوانين الفيزياء والتي ايضا تحكم الكيمياء والبايولوجي ومن ثم حدود العلوم الطبية – كان سؤالا مثيرا للاهتمام.

اذا كان الله غير قادر على كسر قوانين الفيزياء، عندئذ يمكن القول انه سوف لن يكون القوة العظمى والوجود الأعلى. ولكن اذا كان يستطيع ذلك، فلماذا لم نر أي دليل على خرقه لقوانين الفيزياء في الكون؟

لمعالجة هذا السؤال، دعنا نحلله بتفصيل أكثر. اولاً، هل يستطيع الله السفر بأسرع من سرعة الضوء؟ نحن نعلم ان الضوء يسير بسرعة 3 × 10 مرفوعة الى قوة 5 كيلومتر في الثانية، او 186000 ميل ويساوي (299,500) كيلومتر في الثانية. تعلّمنا في المدرسة ان لاشيء أسرع من الضوء. ولكن هل هذا صحيح؟ قبل عدة سنوات، أعلنت جماعة من الفيزيائيين ان جسيمات تسمى تاكيونس تسير بسرعة أكبر من الضوء. لحسن الحظ، اتضح لاحقا عدم إحتمال وجود تلك الجسيمات. اذا كانت تلك الجسيمات حقا موجودة، فانها ستكون كتلة خيالية وان نسيج الزمان والمكان سيصبح مشوها بما يقود الى انتهاك لقوانين السببية .

حتى الآن لم يُلاحظ وجود شيء يمكنه السفر أسرع من الضوء. لكن هذا بذاته لايقول شيئا عن الله. انه فقط يؤكد المعرفة بان الضوء يسافر بسرعة هائلة .

الأشياء تصبح اكثر إثارة عندما ننظر في المسافة التي قطعها الضوء منذ البدء. بافتراض كوسمولوجيا البغ بانغ Big Bang (الانفجار العظيم) التقليدية وسرعة الضوء العادية 3 × 10 مرفوعة للقوة 5، عندئذ نستطيع حساب ان الضوء قطع تقريبا 1.3 × 10 مرفوعة الى القوة 23 كيلومتر في الـ 13.8 بليون سنة من وجود الكون.

ان الكون يتسع بمقدار 70Km في الثانية لكل megaparsec، لذا فان التقديرات الحالية تقترح ان المسافة الى حافة الكون هي 46 بليون سنة ضوئية. ومع مرور الزمن، يزداد حجم الفضاء، ويتحتم على الضوء ان يسير مسافة أطول لكي يصلنا.

هناك من الأكوان اكثر مما نستطيع رؤيته، ولكن أبعد شيء رأيناه حتى الان هو المجرة GN-ZII التي لاحظها تلسكوب هابل الفضائي. هذه تبعد تقريبا 1.2 × 10 مرفوعة الى القوة 23 كيلوميتر او 13.4 بليون سنة ضوئية، وهو ما يعني ان الضوء احتاج الى 13.4 بليون سنة ضوئية من المجرة كي يصلنا. ولكن عندما "بدأ" الضوء رحلته، كانت المجرة فقط على بعد حوالي 3 بليون سنة ضوئية من مجرة التبانة (مجرتنا)(1).

نحن لا نستطيع النظر في كامل او مجمل الكون الذي اتسع منذ انفجار البغ بانغ لأنه لم يمر الوقت الكافي للضوء منذ الجزء الاول من الثانية ليصلنا. البعض يجادل اننا لهذا السبب غير متأكدين ما اذا كانت قوانين الفيزياء يمكن خرقها في مناطق كونية اخرى – ربما هي فقط قوانين محلية وعرضية. وذلك يقودنا الى شيء ما أكبر من الكون.

تعدد الكون

العديد من الكوزمولوجيين يعتقدون ان الكون ربما هو جزء من كون أكثر اتساعا، كون متعدد، حيث العديد من الأكوان المختلفة تتواجد لكنها لاتتفاعل. فكرة الكون المتعدد لقيت الإسناد من نظرية التضخم Theory of inflation – الفكرة بان الكون اتّسع بشكل هائل . التضخم نظرية هامة لأنها توضح لماذا اتخذ الكون الشكل والتركيب الذي نراه حولنا.

ولكن اذا كان التضخم حدث مرة، فلماذا لا يحدث عدة مرات؟ نحن نعرف من التجارب ان التقلبات الكوانتمية تؤدي الى ظهور أزواج من الجزيئات تخرج فجأة الى الوجود لتختفي بعد لحظات. اذا كان يمكن لهذه التقلبات ان تنتج جسيمات، فلماذا لايحصل هذا لكامل الذرات او الأكوان؟ قيل انه، اثناء فترة من التضخم الفوضوي، لم يكن كل شيء يحدث بنفس النسبة – التقلبات الكوانتمية في التوسع ربما أنتجت فقاعات انفجرت لتصبح اكوانا بذاتها. ولكن كيف إنسجم الله مع الكون المتعدد؟ احد الآراء هو ان كوننا يبدو جرى ضبطه بطريقة لكي توجد الحياة. الجسيمات الأصلية التي خُلقت في البغ بانغ امتلكت الخصائص المناسبة لكي تساعد في تكوين الهايدروجين والديوتيريوم اللذان أنتجا أول النجوم.

قوانين الفيزياء التي تحكم التفاعلات النووية في هذه النجوم أنتجت المادة التي صُنعت منها الحياة – الكاربون والنيتروجين والاوكسجين. كيف اتفق ان تأتي كل القوانين الفيزيائية والعوامل الاخرى في الكون لتأخذ قيما سمحت بالنهاية للنجوم والكواكب ومن ثم للحياة لتتطور؟

البعض يرى انها مجرد صدفة. بعض المؤمنين يجادلون ان ذلك يشير لوجود اله خلق ظروفا مفضلة.

ولكن الفريق المقابل لا يرى في الله توضيحا علميا صالحا. نظرية تعدد الأكوان تحل اللغز لأنها تسمح بمختلف الأكوان لتأخذ مختلف القوانين الفيزيائية. لذا، من غير المدهش ان نرى انفسنا في واحد من عدة اكوان والذي قد يساعد في خلق ظروف الحياة. بالطبع، اننا لا نستطيع دحض فكرة ان الله خلق الاكوان المتعددة. هذه دائما افتراضية، ومن بين اكبر الانتقادات لنظريات تعدد الاكوان هو انه نظرا لعدم وجود تفاعل بين كوننا والاكوان الاخرى، عندئذ فان فكرة تعدد الاكوان لا يمكن اختبارها مباشرة.

غرابة الكوانتم

الآن لننظر ما اذا كان الله يمكن ان يكون في اكثر من مكان واحد في وقت واحد. معظم العلوم والتكنلوجيا التي نستخدمها في علوم الفضاء ترتكز على نظرية مضادة للبديهة حول عالم صغير جدا من الذرات والجسيمات تُعرف بميكانيكا الكوانتم. النظرية تمكّن من حدوث شيء يسمى التشابك الكمي quantum entanglement وهي الظاهرة التي يوصف بها جسيمان او شيئان بالارتباط مع بعضهما حتى وان كانا لا يتفاعلان ومنفصلان مكانيا.(2) انتقال المعلومات الكوانتمية بين الجسيمات عادة يتم بسرعة أعلى من سرعة الضوء. لكن هذا لا يثبت ولا ينفي وجود الله، وانما يساعدنا في التفكير بالله بعبارات فيزيائية – كانسياب خفيف لجسيمات متشابكة، تنقل المعلومات الكوانتمية الى الامام والى الخلف، وبهذا يشغل عدة أماكن في وقت واحد. وحتى عدة اكوان في وقت واحد.

العلم يتطلب البرهان، بينما العقيدة الدينية تتطلب الايمان

لحسن الحظ ان الله يستطيع بمهام متعددة الحفاظ على استمرارية عمل نسيج الزمان والمكان . كل ما هو مطلوب هو قليل من الايمان.

هل تمكنّا حتى الآن من الإجابة على السؤال المطروح في أول المقال؟ الجواب كلا. اذا انت تؤمن بالله، عندئذ فان فكرة كون الله مقيّد بقوانين الفيزياء هي بلا معنى، لأن الله يستطيع عمل أي شيء بما في ذلك السفر أسرع من الضوء. واذا كنت لا تؤمن بالله، عندئذ فان السؤال هو بلا معنى ايضا وبنفس المقدار لأن لا وجود هناك لاله ولا شيء يمكنه السفر أسرع من الضوء.

هنا في الحقيقة يختلف الدين عن العلم. العلم يتطلب البرهان بينما الدين يتطلب الايمان. العلماء لايحاولون إثبات او نفي وجود الله لأنهم يعلمون ان لا وجود لتجربة يمكنها اكتشاف الله. واذا انت تؤمن بالله، لايهم ما يكتشفه العلماء حول الكون، أي كوزمولوجي او عالم فلك يمكن اعتباره منسجما مع الله.

آراؤنا حول الله والفيزياء وأي شيء آخر يعتمد على منظورنا. لكن دعونا ننقل اقتباسا من مصدر موثوق به، ليس من الإنجيل، ولا من كتب مناهج تدريس علم الكون، انه من رواية ريبر مان للكاتب البريطاني Terry Pratchett بقوله: "نعتقد ان الضوء يسير أسرع من أي شيء آخر لكن ذلك خطأ. لا يهم كم هي السرعة التي يسير بها الضوء، انه سيجد دائما الظلام ينتظره هناك اولاً".

 

حاتم حميد محسن

...............................

How physics could prove God exists? By Monica Grady, The open university،

* الكاتبة بروفيسور في الكواكب وعلوم الفضاء في الجامعة المفتوحة- المملكة المتحدة

الهوامش

 (1) ان التوسع في الكون هو الزيادة في المسافة بمرور الزمن بين اي جزئين من الكون الملاحظ غير مقيّدين جذبيا. انه توسّع جوهري او متأصل بموجبه يتغير حجم الفضاء ذاته. الكون لم يتمدد الى اي شيء، ولا يتطلب وجود فضاء خارجه. تقنيا، لا الفضاء يتحرك ولا الاشياء التي في الفضاء. انما القياس المتري الذي يتحكم بحجم وهندسة الزمكان ذاته هو الذي يتغير في الحجم. ونتيجة لتأثير النسبية العامة، فان التوسع في الكون يختلف عن التوسع الذي نراه في حياتنا اليومية. انه خاصية للكون ككل وليس ظاهرة تنطبق فقط على جزء واحد من الكون، وعلى خلاف التوسعات او الانفجارات الاخرى، لا يمكن ملاحظة توسّع الكون من خارجه.

(2) واحدة من أغرب المظاهر في فيزياء الكوانتم هي التشابك او entanglement. لو انت تلاحظ جسيم في مكان ما، فان جسيم آخر حتى لو كان على بعد سنة ضوئية بعيدا عنك سوف يغيّر خصائصه فوراً، كما لو ان الجسيمين ارتبطا عبر قناة اتصال اسطورية. العلماء لاحظوا هذه الظاهرة في الاشياء الصغيرة جدا مثل الذرات والالكترونات. البرت اينشتاين رفض التشابك الكوانتمي واعتبره عمل غريب في مكان بعيد.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم