صحيفة المثقف

التَّمَثُّلَاتُ الحِسيَّةُ لِلآيروتيكِ الشِّعريِّ عِندَ يَحيَى السَّماوي

جبار ماجد البهادليقِراءةٌ نَقديَّةٌ فِي قَصِيدةِ: لَمْ يَبقَ لِيْ مِنِّي سِوَاكِ

ثمَّةَ فرقٌ كبيرٌ، وبونٌ شاسعٌ في الشِّعرية النصيَّة بين ماهية مفهومي الشعرالآيروتيكي الحسِّي الرغائبي ذي الدافع (الجنسي)، والآيروتيك الشِّعري الحسِّي الرغائبي (الرُّوحي الجمالي)، لذلك من الصعب قي نقدية الشعر الحديثة أنْ تُدركَ تمثُّلات فلسفة المعادل الموضوعي الجمالي النسقي في المنجز الإبداعي العشقي الحسِّي لشعرية يحيى السَّماوي الغنائية الذاتية، وتفهم المغزى الروحي البعيد في توجُّهه الفكري الأخير اللافت نظراً لتقنيَّة جماليات الحسِّيات الآيروتيكية، ولكنَّ الأجمل الممتع السائغ في هذه الاشتغالات الرؤيوية المتعاضدة أنْ تستشعر بتفرُّدٍ لذَّةَ وطعمَ ماهية عقد رابطة الألفة الحميمة في معادلة التوفيق الهرمنيوطيقي الصوري (التأويلي) لهذا المعادل الفلسفي الروحي بين ثنائية تمثُّلَات المحسوس العشقي التجريبي (القيمي)، وتمثُّلات الملموس التجريدي (البَصَرِي) الفكري الجمالي الصوفيِّ مركز الرُّوح و(نقطة الإضاءة) الجمالية. والَّذي ينتزع فيه الشَّاعر العاشق اللُّغة الشعرية المخيالية بأنساقها، وصورها المرئية (الحركية والصوتية) وأصواتها (المهموسة والمجهورة والصائتة) من نفسه انتزاعاً بلاغياً تجريدياً فنيَّاً في رسم وتوقيع ملامح صورة المعشوق الحسِّي في لوحة الخطاب العشقي الشِّعري.

والقصيدة الحسيَّة عند السَّماوي بستانُ عشقٍ سَماويٍّ مورقٍ بالمحبةٍ، وواحةُ غزلانٍ ربيعية من ظباء (العشقيات) المخضوضرة بسنابل العشق الجمالية الملأى بالمحبَّة، ولا تعدو القصيدة للمتلقِّي أو القارئ إلَّا أنْ تكون دوحةً لغويةً غنَّاء مسربلةً بقشيب أثوابٍ زاهيةٍ من نسج الكلمات الدلالية المعبِّرة، وبساط سبكي من الألفاظ والعبارات المتراصة، والتراكيب الشعرية الرصينة المؤثِّرة بسعة ورحابة مداها التأثيري. والسَّماوي يحيى في تصميم تمثُّلاته المعمارية (الحسيَّة واللَّمسيَّة) الشعرية،هو المهندس الشعري الشاخص بفقه لغته المخيالية الَّذي لا يكتفي بأنْ يُصيِّر مثيرات المحسوس الأنثوي عشقاً، وجماليات العشق الأنثوي محسوساً صورياً فنيَّاً فحسب، بل يخطو أبعد وأعمق من ذلك التصوّر الفكري، فيذهب عامداً فى تصوير جدليته (الحسية الآيروتيكية) إلى مناطق وأقانيم تأملَّية روحيَّة أكثر بعداً ورؤيةً في إرساء وتعضيد دعائم شعرية فلسفة علم الجمال الروحي العرفاني الصوفي الّذي يتقرَّبُ فيه الشَّاعر في ابتهالاته الصوفية وأناشيده الشعرية السّماويَّة إلى الله تعالى عبر أثير مجسَّاته الحسية الآيروتيكية التي يقوم فيها بإنتاج صورة روحية تخليقية يتماهي فيها المخلوق (العاشق) الحسِّي بجمال الخالق (المعشوق) الرُّوحي التألهي، لكسر واختراق صورة المألوف الشعري النمطي،وإحداث مثيرات الدهشة والإمتاع الجمالي عند المتلقِّي.

وعلى وفق ذلك التأسيس الجمالي تُشكّلُ القصيدة الآيروتيكية بِرُّمتها الكليَّة عند السَّماوي مدائنَ عشقِ شعريَّةً حسيَّةً فاضلةً، ومحطَّات مرافئ سُفْنٍ صُوفيَّةٍ متآلفةٍ عامرةٍ بالجمال، تسمو بها القصيدة الغزلية الحسية الذاتية الحديثة في منظور علاقتها الزمانية والمكانية المتواشجة. فهي مازالت في منظومتها الحضورية الكاشفة تعكس ماضياً، وما ستكون في علاقتها الاستشرافية الحالية حاضراً ومستقبلاً تمثِّل نهراً لافتاً من توليفة (عشق عراقي أخضر) لا ينضب ماؤهُ ولا يجفُّ رواؤه العشبي الأخضر.ذلك العشق الرُّوحي الَّذي تتنفسه رئة السَّماويِّ الشعريَّة روحاً وجسداً، وتحيا به هواءً نقيَّاً مُنعشاً، فلا حياة ليحيى السَّماوي من غير قصيدة عشقٍ تَنبُتُ أملاً تَخضَرُّ بهِ روحه، ولا عشق يُعمِّر ويدوم عنده من غير قصيدة حسٍّ،هي روحه الخضراء المزدانة بحبِّ الجمال الصوفيِّ لذلك الهُيام،فترى صورة المعشوقة الحسيَّة في تراتيل شعره الصوفية بضعةً روحيةً منهُ لصيقةً بمدارك محسوساته، تحيا بحنايا روحه و علائق ونياط قلبه المتقطعة يُتَرْجِمُهَا بأناقة لغته ورشاقة تعبيره، كما هو يحيا اسماً وتكويناً وشخصيةً ووجوداً متفرِّداً.

وعلى نهج هذا التأسيس فإنَّ القصيدة الآيروتيكية ذريةٌ وليدةٌ، وبذرةٌ متناسلةٌ من رحم هذه البضعة الجمالية المكمِّلة لصورتها التخليقية في عرفانيتها الروحية القريبة إلى الله، كونَ اللهُ الخالقُ جميلاً ويحبُّ الجمال. ولا يمكن لمثل هذه الرؤيا الحُلميَّة المخياليَّة أن تتحقَّق على أرض الواقع الشعري الجمالي إلّا بتجرُّد الشاعر وتحرُّره من ذاته الوجودية التكوينية في أبهى وأرفع صورة من صور تجلِّيات التَّواضع الإنساني ونكران جلد الذات المتسامية، لتحلَّ محلها بضعةُ إداةٍ استثنائيةٍ مثل، (سِوَاكِ) اللَّفظية الدالة بالإشارة على (الحصر العشقي) رمز الحسيِّة الأنثوي، وكأنَّ الشاعر في تشاعره اللَّفظي وتماهيه العشقي التوحُّدي يتنقَّل ويتنازل بدلالة موحيات حرفينِ اختارهما (الكاف)، و(النون)، (كُنْ) عن كينونة وجوده،حين يكون المعادل الآيروتيكي الحسِّي بينهما (سريرُالنَّونِ)، ملتقى العشق ونقطة التفاعل الروحي الجمالي التي جسَّد معانيها ورؤاها الدلالية العميقة بهذا المطلع الصوري الذي وشم به ثريا عتبة عنوانه الرئيسة:

لَمْ يَبْقَ لِيْ مِنِّي سِوَاكِ

فَاحْرِمِيْنِي نِعْمَةَ الكَافِ

تَمَاهَى

بِسَرِيْرِ النُّوْنِ

وَيُحَلِّقُ الشَّاعر مرَّةً أخرى تحليق عاشقٍ في فضاء محسوسات ابتهالاته العشقية الجمالية في حضرة المعشوق، ليرسم لنا بمحراب حرفه القدسي نبض المحبَّة االروحيَّة الصادقة، لا لأنَّه يُقدِّس جيشان العاطفة الحسية فحسب، بل لأنه يرى فيها فتحاً روحياً صادقاَ، ونافذةً جماليةً صوفيةً لا حدود نهائية لها تمنحه الشعور بالراحة والطمأنينة والسلام الأبدي.ويدفعهُ شُعوره القلبيُّ بعرفانيةِ العشقِ الحسِّي، التَّجَرُّدَ من شهواته النفسية، والتحرُّر بما علق بها من رغائبه الذاتية، فالسَّماوي يجد في حسياته الآيروتيكية وعشقياته الرُّوحية تطهيراً قدسيَّاً للقلب من الدَّنس الشعوري المُبتذل، وتمريناً ترويضياً،ومماهاةً روحيَّةً، وصلاةً شعريةً ابتهاليةً تقرّبُهُ رفعةً إلى الله تعالى، كما ينظرُ إلى ذلك الفتح الرُّوحي الشيخُ الأكبرُ مُحْيي الدين بن عربي حين يقول: "كيف يمكن للقلب أنْ يصل إلى الله إنْ لم يتحرَّر من رغائبه " ؟ وشهواته.

وعلى الرغم من ذلك الموقف الواضح فأنْ السَّماوي يقف موقفَ الحائر في تضاديته بين الانتصار لمحسوسات جسده أو الانتصار لروحياته الصوفية، ولكنَّه يمكن أنْ يصنع لنفسه مجداً خاصاً خالداً به،فيختّار طريقاً ما يرتقي به إلى الأعالي. وقد نوَّهَ الشاعر إلى ذلك في منشوراته المشباكية مؤكِّداً القول إنَّ: "معضلتي أنَّني أضعف من أنْ انتصر لجسدي في حربه على روحي، وفي نفس الوقت أضعف من أنْ انتصر لروحي في حربها على جسدي؛لهذا السبب عقدت العزم على إقامة الألفة بينهما من خلال العشق في أسمى تجلياته_العشق بمعنييه الحسي والعرفاني_ ولا أظنُّ الأمر مستحيلاً "، وعضد السَّماوي قولَهُ بما قاله السيِّدُ المسيحُ (عليهِ السّلامُ): "لو أنَّ لابن آدم شعيرةً من اليقين مشى على الماء"، كي يصنع منجزاته الروحية الإيمانية. ويمضي السَّماوي في الكشف عن أنساقه الروحية المضمرة في أسناد موقفه التوافقي المعتدل، فيقول مصرِّحاً: "وتأسيساً على ما تقدَّم أعلاه، أظنَّني نجحت في تدجين ذئب جسدي، ليتواءم مع غزال الروح، وسأواصل _قدر استطاعتي_ هذا المنحى، وصولا إلى الارتقاء بالعشق الحسي إلى مصاف العشق العرفاني، مستعيناً على أمسي البعيد بحاضر يومي، وعلى يومي بطماح غدي، متخذاً من التبتل هديلاً لحمامة قلبي، ومن البصيرة قنديلاً لبصري". ولنقرأ تطبيقاً غزلياً شعرياً لهذه الروح اليَحياويَّة السَّماويَّة العشقية التوافقية، وكيف يعقد صفقةً أُلفة من الابتهالات العرفانية التّحرُّرية تشير موحياتها الآيروتيكية إلى منزلة المعشوق الحسِّي وتماهي روح عشقهِ مع روحِ العاشقِ:

تَمَنَّعِي عَلَى هَوَاجِسِي ..

أزِيْحِي عَنْ خَرِيْفِي بُرْدَةَ الرَّبِيْعِ..

غُضِّي الفّهْمَ عَنْ صَمْتِي

وَعَنْ تَبَتُّلِي فِي خِدْرِكِ الأَمِيْنِ

وَابَتَعِدِي

أبْعَدَ مِنْ قَلْبِي عَنْ يَدِي

وَمِنْ سَمَاوَةِ الأَحْبَابِ فِي الغُرْبَةِ

عَنْ عُيُوْنِي

فالأفعال الأمريَّة الطلبية الأربعة: (تَمنَّعي، أزيحي، غُضِّي، ابتعدي) التي وظَّفها السَّماوي في بدايات سطور هذه الدفقة المقطعية النونية الشعورية المنسابة كانسياب ماء النهر الجاري فيها من القداسة والجلالة الروحيَّة التحرُّرية على المشاركة للمعشوقة الحسيَّة ما يدلُّ على التنحي والابتعاد عن كل ما يشينُ روحية العاشق ويُدَّنس صفتها الصوفية العرفانية،وفيها من تجليات الجمالية وصدق الوفاء المكاني والزماني في الانتماء للوطن والأرض والمنبت الأول الذي حالت ظروف التغريب والتهجير القسري في الابتعاد عنه في وطن ثانٍ مستعارٍ في لغته وثقافته،وهويته الإثنية، وعاداته وتقاليدة، وقيم شكله وروحه.

وتتلُّون قيم الآيروتيك الحسِّي عند السَّماوي بألوان العشق القدسي ومجامره الروحية الساخنة. فثيمة القصيدة العشقية عنده في فضائها النصِّي لا تقف عند حدود المألوف من صورالمعتاد العرفي للشعر، بل تتشكَّل تمظهراتها الصورية (الصوتية والحركية والمرئية) تشكُّلاً فنياً إبداعياً جديداً تتشابك فيه تمثلاتها النصية بنوعيها (المحسوسة والملموسة)، حتَّى يغدو رِتْمُ إيقاعها الأسلوبي المميز تسبيحةَ عاشقٍ صوفيٍّ ينسج الشَّاعر من خيوط محرابها الشعوري القُدسي صورةً فنيةً ابتهالية يأتلف فيها المرغوب بالممنوع، ويختلف فيها المسموح بالمقموع الفكري والدلالي، فيتراءى لكَ أنَّ الشاعر يُحرِّك الساكن، ويُسكِّن المُتحرِّك، فيستحيل الثابت متحوِّلاً، والمتحوِّل ثابتاً بلغةٍ أنيقةٍ سحريةٍ جماليةٍ ماتعةٍ تتخلَّق بنيتها النصيَّة الدلالية والتركيبية والإيقاعية الصوتية تحت أفياء خيمة العشق الصوفي المشعة بظلالها العرفانية المشرقة، والتي يرى فيها الشاعر انعكاساً حقيقياً لسيماء مرآة روحه التحرُّرية في قلبِ الصورة النسقية:

وَلْتَمْنَعِي بَحْرَكِ عَنْ

سَفِيْنِي

ومن موحيات عقشيات هذه الترنيمة التسبيحية القدسية التأملية بدلالة ألفاظها الحسية الآيروتيكية البعيدة والقريبة، يتصاعد لحن الشاعر الصوفي فيضاً روحياً عرفانياً متآلفاً من التمكُّنات الحسيَّة الموقَّعة بأوتار عناصر الطبيعة الأُمّ ومدخلاتها السكونية والمتحركة، فيعزف لنا من رحمها الجمالي الهاطل نشيداً صوفياً روحياً متساوقاً في مقطوعةٍ ابتهاليةِ آيروتيكيةِ أخرى، حرص بأهمية فنيَّةٍ بالغةِ التأثير على تدفق تمثُّلات موسيقاها الداخلية، وتناسق قافيتها الحرفية المشبعة بحركتها التماثلية الموحَّدة على هذا النسق الرباعي الاسمي التعبيري المضاف إلى الذات الشاعرية من خلال ياء المتكلِّم التي يستجدي بها قائلاً: (نَهري، جَمري، صَبري، صَخري)،والَّتي من خلالها انحرف بانزياحاته البلاغية متماهياً بتمكُّناته الحسيَّة في غلبةِ (الناعورِ على النهرِ)، و (التنوَّرِ على الجمرِ)، و (الأوهامِ على الصبرِ)، و (الأنداءِ على الصخرِ) . فكل هذه التراتيل العشقية الباذخة بتساميها، والتي وهبها إلى المعشوقة الآيروتيكية لا تساوي في معادلها اللُّغوي الموضوعي إلَّا نزراً قليلاً من التمكُّن العرفاني الذي يُعيد له توازنه الروحي الجمالي المفقود بهذا الكم الحَرْفِي من التبعيضات الموازية لدلالاتها اللَّفظية التي عقدَ أُلفتَهَا مع معشوقته الحسيَّة:

مَكَّنْتُ نَاعُورَكِ مِنْ نَهْرِي ..

وَتَنُّوْرَكِ مِنْ جَمْرِي ..

وَأَوْهَامَكِ مِنْ صَبْرِي ..

وَأَنْدَاءَكِ مِنْ صَخْرِي ..

فِمَكِّنِيْنِي

عَلَى لَظَى حَنِيْنَي

ما أسمى لغةَ الشَّاعرِ الشعوريِّة؟ وما أبينَ صوره البلاغية حين تَجُوسُ أحاسيس مشاعره الصادقة خلالَ أرض بساتين اللَّذة النفسية وموائد الشراب الروحي ؟ فَتُؤَنْسِنُ موحياتُ بلاغة لغته الاستعارية _بتآلفٍ وانسجامٍ ٍتام ٍ _ فاعلية (التَّرَجّلُّ) لديمومة حركة الواقعة الشعرية الجمالية (ترجَّلتْ كؤوسُ لَذَاتِي)، وتمنحها انحرافاته الانزياحياته (الدلاليةوالتركيبية) حياةً حركيَّةً جديدةً نابضةً بالحيوية والجمال الصوري. وفي الوقت نفسه تختلف هذه الصورة الانزياحية معها لا تَأتلِفُ، فَتُعَطِّل الموائد ذات الحركة السكونية الثابتة عن معانقة واحتضان كؤوس اللَّذة الحركية، لتمنح بقايا حثالة الأيام المنصرمة بِقِلَّةِ الانتشاء نصراً كبيراً مؤزَّراً على قارورة رافد الارتواء الرُّوحي لنشوة السنين، لقناعته في التحرُّر من رغائبه الذاتية:

تَرَجَّلَتْ كُؤُوسُ لَذَّاتِي عَنْ مَائِدَتِي

فَمَكِّنِي حُثَالَةَ الأيَامَ مِنْ قَارُورَةِ

السِّنِيْنِ

حينَ تُمعِنُ النظرَ في شاعرية السَّماوي وتَقْرَؤُهُ جيِّداً تجدهُ كتاباً معرفياً مفتوحَ النهايات في خواتيم قراءته الفلسفية وفي بيانه الشعري الحسِّي، يبدو أثره الإنساني الإبداعي كنخيل بساتين السَّماوة الباسقة، لا يألو شأواً، ولا يأبه خجلاً بصراحته الذاتية واعترافاته الثقافية المعلنة، تعبيراً عن سمت تواضعه الصوفيِّ؛ لذلك يكشف حال لسانه الشعري عن خبايا مكنوناته الذاتية، وعن أنساق مضمراته ومعلناته الروحية. فلا يخشى البوح عن مجون شبابه الماضي الذي تلاشى وانحسر مع تعاقب الدهر قبل أنْ تكون حبيبته المعشوقة السومريَّة زيتونَ زاد ماعونه الرُّوحي، وطعامَ رغيبته الحسِّي المشبع لجوعه العرفاني، وتستحيل خمراً لزيتون رحيق شرابه المُعَتَّق المُسكِر. والسَّماوي في هذه المفارقة العشقية الصوفية بين ثنائية الجوع للزيتون، والشرب لخمرالتِّينِ كَمَنْ يعقدُ مفاضلةً روحيةً صادقةً يُطبِّقُ إجراءها العرفاني بين صفتي (الشوق والاشتياق) على ذاته الشعرية المتسامية،كون الشوق إلى المعشوق يُعدُّ مثيراً روحياً نسبياً متغيِّراً لا يثبت أثره الروحي مع مرور الزمن،وينتهي زمنه بلقاء المحبوب الحسِّي، في حين أنَّ الاشتياق مثيرٌ روحيٌّ كبيرٌ يزداد زمنه ويمتدُّ أثره بلقاء الحبيب المعشوق كما ينظر أهل العرفان وفقهاء اللُّغة إلى هذه النظرة الجمالية العميقة. ويبدو أنَّ يحيى السَّماوي كان قارئاً جيَّداً لفلسقة العرفانيين ومُدركاً لمفاهيم تراثهم الروحي المضيء لقلوبهم المترعة بالعشق الروحي الكبير المطلق، فجاءت اشتغالاته الآيروتيكية الروحية العشقية حزينةُ بهذه التورية المعنوية الجمالية (خمرَ تِينِ) الدالة على مضمونها الدلالي القريب رحيق (خمر التِّيْنِ) الحقيقي المعتَّق، والمعنى الدلالي البعيد (خَمرتَيْنِ) مثنى نوعين من مُدام الخمور المسكرة، ولعلَّها كانت تعويضاً عن عشبة فرحه المفقود الذي سرقة الطواغيت والجائرون من الحكَّام:

مِنْ قَبْلَ أَنْ تَكُوْنِي

زَيْتُونَ مَاعُونِي إذَا جِعْتُ

وَإنْ عَطَشْتُ لِلرَّحِيْقِ

خَمْرَ تِينِ

هكذا يبدو المشهد الصوري الحسِّي عند السَّماوي مترعاً بقوافل الجمال الروحي لا يعرف النضوب الإبداعي طريقاً له عنه، ولا ترى للقلق أو الجفاف أو قلَّة الخيال مكاناً مطلقاً للركود في بيتِ قَصيدهِ الشعري . فالشاعر به هوسٌ كبيرٌ لممارسة المحسوس الآيروتيكي من الشعر العشقي،وطمع أثير لكتابته، يصل به حدَّ الثمالة والانتشاء الروحي. والسَّماوي ذلك الطفل النقي الذي به حبُّ جمٌّ كثير لتنفس تراتيل الشعر وتدوين كتابته روحاً يُعَمِّدُ به جسده من نهره الجاري. وكثيراً ما كان يُصرِّح في بيان سيرته الشعرية ورسائله الإخوانية لي بخصوص قَلَقِهِ الإبداعي الإيجابي من نكوص الخيال فيقول:" أشعر ببكاءٍ خفيٍ حينَ تمرُّ أيامٌ عديدةٌ أو بضعةُ أسابيعَ دونَ أنْ تَصطادُ فِخاخي غزالةَ قصيدةٍ أو ظبيةَ نصٍّ نثريٍّ":

فَإِنَّنِي شَفِيْتُ مِنْ دَاءِ تَهَيُّمِي

وَمِنْ جُنُوِني

وِمِنْ ظُنُوْنٍ كَبَّلَتْ بِقَيْدِهَا

يَقِيْنِي

لقد اقتحم السَّماوي بآيروتيكته الشعرية الصوفية المحسوسة ما ليس مألوفاً معتاداً من ميادين الشعر الحسِّي، كما يقتحم أهل التصوُّف الديني ورجالات العرفان الروحي ما ليس منظوراً معتاداً من الآراء والمواقف الفلسفية والجمالية، وما بين السّماوي شاعر (الآيروتيك الحسِّي الجمالي)، وهؤلاء العرفانيين والصوفيين خيطٌ رفيعٌ من الجمال الروحي العرفاني يريد الإمساك به وبتلابيبه القشيبة من الوسط، وتلك والله هي محنته الشعرية التي انجذب إليها في خطاب معجمه الشعري الصوفي، وهي منزلة رفيعة من الجمال الفلسفي لا يبلغ مداها الروحي التألهي الرَّباني الإنساني إلَّا الشعراء العارفون بعرفانيتها الكبيرة المقدَّسة، والمبحرون بأشرعتهم الروحية المطلقة في يم ِ سفائنها،ولنقرأ شاهداً لما تبثُّه عرفانيته الروحية:

لَا شَغَفاً

لِرُؤْيَةِ الغِلْمَانِ مِنْ حَوْلِي يَدُوْرُوْنَ

بِأَكْؤُسٍ مِنْ الفِضَّةِ وَالتِّبْرِ

وَلَا جُوْعَاً فُحُوْلِيَّاً لِحُوْرِ عِيْنِ

لَكِنَّنِي

خَشِيْتَ أَنْ يَمْنَعَنِي مِنْ وَجْهِهِ

مَعْشُوْقَيَ المُطْلَقُ

لَوْ أَتَيْتَهُ يَوْمَ اللَّقَاءِ الحَتْمِ

ضِلِّيْلَاً بِدُوْنَ دِيْنِ

وتصل ذروة المخيال العشقي الحسِّي، ونشوته الروحية عند السّماوي في تماهيه،وتدفقات تعابيره الشعورية إلى صورة (الحَياء) النفسي الرُّوحي الذي يَتَمَلَّكُ الإنسانَ ويتغشَّاهُ لحظة وقوع الواقعة الحدثية الجمالية، فيتلاعب الشاعر بألفاظه اللَّمسيَّة أعضاء الجسد (اليَد)، ويحوِّل دلالتها الحركية غير العقلية إلى مدلولات شعورية آدمية عقلية إنسانية، فيهبها من روحه القدسية صفة الاستحياء الخجلي الشعوري الذي يمنحها قوةً انزياحيةً روحيةً بلاغيةً مذهلةً،تُلقي بتأثيرها اللُّغوي الدلالي،وظلالها النفسي علامات الدهشة والمفاجأة والامتاع الروحي الجمالي عليه من تلك المعشوقة التي تُحرِّكُ فيه جماليات المسكوت اللَّفظي:

فَتَسْتَحِي مِنِّي

وَمِنْ كِتَابِهَا يَمِيْنِي

الشاعر السومريُّ يحيى غارقٌ في متاهته العشقية، ثَملٌ بخمرته الروحية إلى حدِّ التِّيهِ القلبي، لكنَّه _عقلياً_واعٍ لكهوف اللَّذة الحسيَّة السوداء في ممالك العشق ودهاليز الضياع. لم يكن إلَّا فلَّاحاً شعريَّاً مثابراً في حرث بساتين العشق الحسِّي، ولا يتراءى لك في نشوته الشعرية وتماهيه إلَّا مزارعاً شعوريَّاً روحياً مملوءاً بالحسِّ المرهف اليانع في حصد ثمار سنابل السنين الملأى، فلا تسمع له هاتفَ صوتِ رَحىً لجعجعةٍ من غير حصادٍ،ولا حصادَ سنابلَ من غير رَحىً يُفضي إلى ناتج روحي من طحين القلب،وإلى رماد خبز تنوره الجمري الذي لا تنطفئ جذوته الروحية في القلوب العامرة بتسابيح الإيمان:

كُوْنِي رَحَى سَنَابُلِي ..

مَا حَاجَةُ السُّنْبُلِ لَا يُفْضِي إِلَى

طَحِيْنِ؟

وحين تكون المحبة الروحية عنواناً وصدى لهذا العشق، تكون القصيدة الآيروتيكية اليَحياويَّة سجادةَ صلاةٍ صوفية لديمومة هذا الحبِّ الجمالي التبتلي المضيء المشرق بنصوصه وقصائده وخطاب معجمه.

 

د. جبّاَر مَاجد البَهادليُّ

........................

للاطلاع

 

لم يبقَ لي مني سواكِ / يحيى السماوي

 

 

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم