صحيفة المثقف

قراءة في قصيدة (بلورات) للشاعر الكبير محمود البريكان

حيدر عبدالرضاشعرية التشكيل وتمظهرات ميتافيزيقيا حساسية الدال الآخر

توطئة: أن اللغة الشعرية بطبيعتها الوظائفية في عوالم شعر محمود البريكان، دائما هي ذلك الاستخدام في ظل أجواء من شعرية (الرمز المتحول) والدلالة المخصوصة في أداة وامتيازية العلاقة الاستعارية المضمرة . عندما نطالع قصيدة (بلورات) توافينا هوية وحقيقة المواقف الاستعارية الموظفة في حدود واصلة لغة ذات احيازية إمكانية محاورة ومتجاوزة عبر وظيفة أنا الشاعر أو الأنا الشعرية .

ـ أسرار تقاويم الزمن وحلمية المد التشكيلي

تبدو لنا عتبة الاستهلال الشعري في بنية قصيدة (بلورات) وكأنها تستقدم زمنا ما بطريقة مجردة امتدادا نحو ما وراء معطوفية الزمن الأحوالي الغائب والحاضر في دائرة محددات الخطاب الشعري اللامحدد .

كساعة خفية، يدق قلب

 الصمت .

على هذا النحو من عتبة النص الشعرية، تقودنا العلاقة المقاربة ما بين دال (ساعة) ودال (خفية) وصولا نحو لحظة غريبة من المشابهة والاستبدال في حركية سكونية شاخصة من إثراء الحالة الإيحائية المبذولة في أوليات المد الدلالي، إذ أن الحالة تبدو وكأنها هاجسا خاصا ينتمي إلى موجهات إشارة رسومية ـ تشكيلية من جملة اللاحق: (يدق قلب الصمت) وبهذا الأمر تغدوا العلاقة العضوية ما بين دلالة (ساعة خفية) والجملة الأخيرة التي هي بمثابة اللحظة المعمقة من فضاء اشتغال محور ودلالة ثيمة المركز العنواني (بلورات) ليس لأن الأمر بادئا في عنونة المركز تحديدا، بل أن خصوصية العلاقة الاستعارية، جاءت تنوعا لتضم مقتنيات الإطار الزمني وحيواته الشاغلة في الحال المستخدم في جمل النص .

1ـ محاور العلاقة الأحوالية ومسميات الحال القصدي:

على نحو ما نتعرف على شكل تعاقبات قصيدة البريكان، وذلك ضمن موقعية خاصة من العلاقة التشكيلية الدالة والتي تتمثل في تصديرية هذه المقتطفات:

تنتظر الصخور في

سواحل قصية موعدها .

العلاقة هنا، أشبه ما تكون عليه حال مفردات الإحالة في شواهد توصيفية متقاطعة، أي أننا نعاين في مواقع هذه الدوال، ثمة اتجاهات ضيقة من عوالم اللوحة التشكيلية أولا، وثانيا نلاحظ بأن حدود المعنى جاء مقاربا لإمكانية خروج الموصوف إلى غاية خاصة من استجابة العلامة أو الرمز المتصور في محمول الموضوعة الشعرية، نظرا إلى أن حاجة الموضوعة في القصيدة، جاءتنا تفاوتا في مرسومية دليل الأحوال، وليس أمرها تابعا إلى كيفية خطية متتابعة في أغلب الأحيان:

ساحرة الأشجار

تفرز سماً غامضاً

بين جذور الغار

يمتد جذر العدم الأسود .

و تقودنا كينونة هذه الحساسية الموضوعية في ملفوظ وتلفظ الجمل، نحو علاقة المحاكاة والتناص ما بين دلالات لوحة هنري روسو (ساحرة الأفاعي) وبين حالات شعرية المؤسطر في دوال قصيدة البريكان . ويتجلى لنا واضحا حجم التفاعل والحميمية ما بين قصة (الصرخة) لمحمد خضير وذلك الفضاء المحاكاتي في قصيدة الشاعر، وصولا إلى فرصة التلاحق بين اللغة الشعرية وتقانة درجة الممكن الدلالي في مخارج ودواخل قصيدة الشاعر . عندما نمعن في مستوى تأسيس دلالات البريكان ما علاقة خطوط وألوان وهيئة الفضاء الانشائي في لوحة روسو، قد نعاين مدى فاعلية الأرتباط الحاصل ما بين الطرفين والموضوعين . فعلى سبيل المثال حاول الشاعر عبر استخدامه للزمن الاستبدالي في أفعال الدوال، خلق علاقة مؤسطرة وهوية حالات بعيدة عن مكامن لغة النص الشعري، وتبعا لهذا وجدنا جملة (ساحرة الأشجار) أو جملة (تغرز سما غامضا) تعبر عن علاقة تداخلية قائمة في ذاتها اقترانا مع سموم الثعابين في لوحة روسو، وليس في موضوعة ساحرة البريكان أية علاقة واردة في مستوى دال الثعابين إطلاقا . غير أننا ونحن نتابع جملة اللاحق (تغرز سما غامضا) نتذكر بأن الشيفرة ما بين الوضوعين دليلها الأكبر هو مجال الأداة وليس المضمون المدلولي، وهذا الأمر ما جعل الضد الموضوعي بين ساحرة روسو وساحرة البريكان، ولكن تبقى الثيمة الموضوعية في أغلب الأحيان متقاربة ومختلفة، خصوصا وأن البريكان في نصه، بات يؤشر إلى علاقة ثانية من مادة السموم ودال الثعابين:

تنطرح الحيّات

جميلة تحت مرايا

الشمس .

هنا تنفتح اللقطة التصويرية على معالم الأبعاد التشكيلية في النص، اقترانا بذلك المسعى المحاكاتي والتداخلي مع قراءات لوحة روسو، حيث الفضاء الغابة والأغصان الثعبانية المنطلقة من بين أذرع الساحرة، غير أننا نعاين بأن ثعابين البريكان تستدعى في دلالات مختلفة (تنطرح الحيّات جميلة تحت مرايا الشمس) ولا يخفى على القارىء بأن الجانب الشعري على مستوى من الاختلاف دائما بالمقابل من الأداة في خطاب اللوحة . لكننا عندما نبحر في زمن مشاهد دوال قصيدة (بلورات) نلاحظ مدى الاستجابة الكبيرة في شكل وصفات الموضوعين، نظرا لأن الأثنان يجسدان ذات الفاعل من الأنموذج التشكيلي والحركي والعلاماتي تماما . ويصور نموذج البريكان في دلالات نصه، ذلك المعطى الاستعاري المجرد في واقعة الملفوظ مع ممارسة تشكيلية جانبية، أخذت تحكي عن قصة العلاقة المتوازية ما بين فضاء المكان وخلفية التركيز التصويري لأدق وأعمق حالات الأشياء:

اتبعْ دبيب الهمس

في غابة الأصوات .

اقرأ ظلال اللون

تلك التي ليس لها لغة .

إذ تتمكن كاميرا الشاعر هنا من التقاط المشاهد والدلالات المخبوءة في معجم لغة الأحياء، امتدادا إلى مراهنة غياهب الأصوات، في حقيقة إيجادها من قبل (أنا الشاعر = فاعل وجوب ـ الفعل أنا / الأداة: الفعل وإرادة الفعل: أتبع دبيب الهمس ـ كينونة الأشياء الغائبة) .

ـ التفاعل الآنوي بين معالم الوجود والعدم الوجودي .

و يصور الانموذج الشعري في دوال قصيدة (بلورات) ذلك الجوهر الإمكاني من شيفرة الداخل الحسي، إذ أن أداة الشاعر نجدها استنطاقا سرانيا نحو جلب تصور حالات الذات، إلتحاما لها مع تلك الروح الدوالية الفاعلة والحاوية للعديد من صور وحراك إيقاعات الظلال وأفضية كثافات الفعل الوجودي في دخيلة الحالة القصدية: (اقرأ ظلال اللون، تلك التي ليس لها لغة) لا شك أن قراءة الشاعر لذاتية العدم الوجودي، هي حالة مفقودة في اللغة الظاهرة من خصوصية اللغات المضمرة، إذ تتطلب مثل هكذا شعرية، لغة تتعلق بقابلية تشكيلية خاصة من آليات التحاور وو صف مقادير السؤال والمساءلة والبحث . لذا فإننا نجد أن موصولات العلاقة في محاور النص شبه سيميائية، تستقطب حضورها وجوهرها من خلال مساحة علامية نادرة في إنتماءها وسيرتها: (اقرأ ظلال اللون ـ غواية النص / التي ليس لها لغة ـ حالة تحول في الإمكانية الإيحائية = بدائل الملفوظ = العلاقة المضمرة) وعلى هذا النحو تقابلنا برقيات الوجود المركز من العلاقة الحسية الواصلة في تشكلات حركية الكون المؤسلبة في أدق مساحة لأشتغالية الملفوظ:

في نقطة واحدة يشف

عمق الكون

تصادف الأحلام

تفسيرها في لحظة

اليقظة

تصادف اليقظة تفسيرها

في حلم تدفنه الذاكرة .

من هنا تتآلف وتتحاور جواهر كينونة المنتج الدلالي عبر مقتطفات النص، وصولا منها إلى مستوى حساسية المجرد بالصورة الشعرية التي أخذت تشع من وراءها روح دليل المعنى المضمر . فالشاعر البريكان كان يسعى من وراء جملة (في نقطة واحدة يشف عمق الكون) الإشارة إلى تلك العلاقة الميتافيزيقية ـ الغيرية الكامنان في مصاحبات جملة إحالات واضحة من حيز منتج الذات الغيرية الأخرى في أبعادها الكيفية . وتحقيق مثل هكذا علاقة غيرية، لا تتضح سماتها، إلا من خلال الغور في المشهد الآخر من الدال المركز، اقترانا بمسار روحية ذلك الدال الغيباني من فعل القصد الشعري، وهذا الدال هو بذاته ما راح يشكل محور الفعل المنفذ في رؤية النص (تصادف الأحلام تفسيرها في لحظة اليقظة ـ الدلالة مع انطباعية الصورة الذاتية / تصادف اليقظة تفسيرها في حلم تدفنه الذاكرة ـ علاقة واصلة بالحركة الزمنية = تحول الأداة من وجهة نظر الفاعل المنفذ) .

ـ الفاعل النصي في شرنقة الدلالة المضمرة .

في القسم الأخير من قصيدة (بلورات) يلعب الفاعل المنفذ ـ الراوي الشعري ـ دورا مركبا في تصعيد بنية الملفوظ إلى أقصى درجة من الصيغة والصياغة المجردة في العين الميتافيزيقيا الغيرية . بيد أننا ونحن نقرأ هذه المقتطفات من النص، تساورنا احتمالية أن يكون الفعل الشعري بحثا أزليا في معادل أوليات الوجود الخلقي للأنسان في مسيرة حياته المترابطة بجملة مسميات ذات علاقة نواتية في الكشف والأعداد والتنقيب الوجودي:

من يخرج الإنسان منها

هذه الدائرة؟

هناك أغنية

منسية، هيهات تُستعاد

في موجة الأغاني .

ربما ان البريكان في حالة مأزومة من الصراع مع تفاصيل وجودية غارقة بالبحث عن علاقات وثيقة مع فضاء الذات الأولى . وقد يتوازى الفعل الفردي لديه بما يوفر له حصيلة حسية نادرة من التقاط لغة وجود الأشياء المنسية، إذ تتمكن الكاميرا الإستفهامية لديه من إطلاق فواعل السؤال الوجودي عبر خلفية بلاغية لغوية وثيقة (من يخرج الإنسان منها هذه الدائرة؟) الحساسية الكيفية لدى الشاعر، تبلغ لها مستوى توصيف أنساق الملفوظ عبر مضاعفات شعورية منفصلة عن حيزها المدلولي في طبيعة منطقة الجملة الشعرية ظاهرا، ولكننا عندما نمعن في محتملات القصد الشعري، قد يرد لنا معنى الذات في حضورها الزمني والمكاني على رقعة صورة الوجود إحتمالا . غير أننا عندما نطالع جملة اللاحق (هناك أغنية منسية، هيهات تستعاد في موجة الأغاني) فحالات هذه المرسلات الشعرية ربما هي تعبر عن حالة تصويرية لافتقاد الشاعر لذلك الزمن القديم له، أي بمعنى ما إشكالية أن تستعاد اللحظات العمرية الجميلة في مرحلة زمنية معادة وحاصلة لزمن الشاعر الحاضر:

يمكن أن يُصنع تمثال من

الرماد !

هل تسقط الألفاظ أستاراً

على المعاني .

لا سحر للحياة

في النسخة الثانية .

أحبها عارية .

1ـ المحتمل الدلالي ومدى قابلية دلالة المعنى:

تضيف هذه اللقطات الأخيرة من النص بعدا مجردا في مساحة من سياق معادلة متهكمة للقول المضمر (يمكن أن يُصنع تمثال من الرماد !) لنفترض أن الشاعر في هذه الجمل من النص، كان يسعى إلى التقاط أصداء تماثلات الأثر الزمني في وجوده الذاتي والأشياء من حوله، عبر وساطة المسافة المترشحة من تفاعل ومأزومية، بيد أننا لاحظنا أن الذات من جهة أخرى تتحدث حول تجليات أحوالية خاصة نابعة من مظاهر حالات وصفات مجردة، غايتها التدليل على براهين أمثولية تتعلق بحيوات وجودية خاصة من حساب البرهان الاستدلال،ولكنها من جهة غاية في الأهمية عندما توظف بطرائق الواصلة الاستعارية الشعرية، قد نجدها وكأنها حلقات أمثولية مفرطة بصلاحية الإقرار الدلالي الوصفي . أيضا فإن جملة (لا سحر للحياة .. في النسخة الثانية .. أحبها عارية) بمثابة قابلية الخلوص والتطهر إلى جوهر الأشياء الحقيقية عبر مواطنها الأزلية والسرمدية، لذا فإن رفض أستار الحياة من قبل الشاعر، هي علامة دالة على خروجه من سحق الحياة وآنيتها الزائلة .

ـ تعليق القراءة:

لعل أهم ما تلتهب به دلالات قصيدة (بلورات) هو تفجيرها لثغرات الزمن الآني الموظف في عابرية الأشياء وحالاتها المحدودة في أفق طموحاتها الرسومية الزائلة، وبهذا الإشراق التصوفي ينفلت الشاعر البريكان من نفسه نحو صياغة الفضاء والمشهد الشعري بحساسية الدلالة الميتافيزيقيا والعزلة الأداتية في لغة التصوف ونزوعاتها اللحظوية العميقة:

لا مجد عند الموت

أعمقُ حلم ساكنٌ سكينةَ

الهاوية .

تحترق الدهور في ثانية .

تنصهر الروح ولا يصدر

عنها صوتْ .

أن هذه اللغة الفريدة تتكشف لنا من خلالها مدلولية الحياة (البلورية) للأشياء والصفات والأفعال الشعرية النازحة نحو عمق الانصهار بعلاقة دليل وواقع الموت وعلاماته المشحونة بسلطة العقلي والكلي والأبدي والمجرد الخارج عن مستوعبات اللحظة الآنية من قصيدة: شعرية التشكيل وتمظهرات ميتافيزيقيا حساسية الدال الآخر .

 

حيدر عبد الرضا

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم