صحيفة المثقف

قراءة في كتاب "هكذا تكلم زرادشت" لنيتشه (3)

محمود محمد عليحاول زرادشت اقناع الجمهور امامه بتجاهل التعاليم القديمة، ومحاولة إيجاد معني جديد للأرض والحياة، وقوة الجسد حسب رأيه تأتي من الغرائز الطبيعية لتتسامي بهذا الروح لتتجاوز الإنسان نفسه.. وهو بالطبع الرجل الخارق (28).

وبعد أن أكمل زرادشت كلامه اعتقد الجمهور أنه البهلوني الذي كان كانوا في انتظاره، فضحكوا وقال بعضهم، والآن سمعنا البهلواني.. حان الوقت لكي نري حركاته، لكن البهلواني الحقيقي سمع هذا الكلام، فاعتقد أن الوقت قد حان ليعرض فاعليته، بينما الجمهور بدأ ينظر إلي أعلي (29).

حاول زرادشت إكمال كلامه مستعينا بالبهلواني وحبله لعرض فكرته المجازية ما الإنسان سوي حبل بين الرجل الخارق والحيوان ما هو إلا حبل مشدود فوق العدم.. إن السير علي حبل مشدود هو رياضة خطيرة، ولذلك وحسب نيتشه إذا كان للإنسان أن يرتقي عليه أن يعيش حياة الخطر، وعليه ألا يبقي في حالة ركود بل عليه أن يسعي إلي أن يرتقي بنفسه (30).

وأكمل زرادشت إن الذين يعيشون حياة الخطر هم يملثون بداية الرجل الخارق.. أحب الذين يشبهون قطرات المطر الثقيلة المعلقة علي رؤوس البشر والتي تهبط من الغيوم السوداء هم يمثلون النذير ويتنبؤون بقُدوم البرق.. أنظروا إليه أنا أول هذه القطرات.. أقول لكم إن البرق قد قادم هذا البرق هو الرجل الخارق (31) .

بعد أن أنهي زرادشت كلامه انفجر الجميع بضحك هيستيري مرة أخري.. تفاجئ من ردة الفعل هذه.. لذلك قرر أن يغير أسلوبه.. أراد أن يبين لهم أن القيم القديمة بدأت تذبل وأن الحضارة البشرية تتوجه إلي الرجل الأخير.. الشخصية الأكثر مقتاً من كل الشخصيات وهو نقيض الرجل الخارق.. حان الوقا للإنسان أن يعدل أهدافه.. حان الوقت للإنسان أن يزرع بذور آماله العليا فالأرض ما زالت خصبة لكنها لن تبقي كذلك إلي الأبد . أقولها لكم . الإنسان بحاجة إلي الفوضي في أدخله لكي يظل نجمة متوهجة . أقولها لكم: ما زالت هناك فوضي في داخلكم . يا حسرة فالموعد بدأ يقترب، عندما لا يتمكن الإنسان من أن يلد نجوماً . ها أنا ذا أريكم الرجل الأخير (32) .

الرجل الأخير هو الذي يتخصص ليس في الابداع بل في الاستهلاك بإرضائه لغرائزه يعتقد الرجل الأخير أنه وصل إلي سعادة قصوي.. هذه الحالة تسوء يوما بعد يوم مع التقدم التكنولوجي والتوجه المستمر نحو المادية . لكنه بهذه المتع الحسية يحاول أن يغطي علي شعوره بالفراغ والتعاسة وبدون هدف حقيقي في حياته لا يستطيع الرجل الأخير أن يجد مبرراً للمعاناة التي يحتاجها الإنسان لكي يتجاوز نفسه ويرتقي بروحه.. هو لا يجرؤ علي الخروج من نطاق متعته لكنه لا يعلم أن المتعة هذه هي سبب تعاسته.. ولهذا السبب يجعل منه حاقداً علي الذين نجحوا في تطوير ذاتهم ويجعله كذلك يدعو إلي محاربة التميز بدعوي المساواة.. الرجل الأخير يريد لمجتمعه أن يكون متساوياً تماماً.. ليس من قبل حاكم أو نظاما مضطهد بل من داخل المجتمع حيث الحسد والغيرة والسخرية هي التي تحض من ارتقاء الآخرين.. لا يوجد راع وقطيع، بل الكل هو من القطيع . الكل يريدون نفس الشئ، والكل هم نفس الشئ . ومن يعتقد خلاف هذا، يساق إلي مستشفي المجانين (33) .

بعد أن أكمل زرداشت كلامه أجابه البعض بسخرية.. نريد أن نصبح ذلك الرجل الخير . واحتفظ بالرجل الخارق لنفسك " وها هم الآن ينظرون إلي ويضحكون وهم يكرهونني . هناك جمود في ضحكاتهم" (34).

أدرك زرداشت حينها أن الغالبية من البشر لا يستطيعون استيعاب كلماته.. بل ليس لهم الاستعداد لذلك.. لذلك غير خطته فبدل أن ينشر رسالته إلي الجميع.. قرر أن يخصصها للقلة المتميزين الذين هم أعلي من القطيع (35).

غادر زرادشت المدينة يغمره أمل من نوع جديد مرحباً في طريقة بكل من يريد أي يتعلم منه شيئا، لكنه وفي أثناء سيره في البرية رأي إشارة غريبة في السماء.. ففي وقت الظهيرة رأي نسرا وأفعي ملتفة حول عنقه ليس كفريسة بل كصديق.. هذه حالة غريبة فلطالما كان النسر تاريخيا يشير إلي الارتقاء بالعقل والروح وهو بذلك عكس الأفعي والتي تمثل الشر والغرائز الدونية..لذلك كانت هذه إشارة لزرادشت حول ما يلي: بقدر ما علينا أن نبحث عما يقوي عقولنا يجب كذلك أن نعرف بالنفس ونتعلم عيوبها وكما يقول زرادشت لاحقا في القصة الإنسان حاله كحال الأشجار كلما ارتفعت إلي السماء وحظيت بضوء أكثر كلما كانت جذورها أقوي وكلما اخترقت الظلام أكثر.. بالطبع ندرك جيدا أن ما جاء به نيتشه ليس فقط يخالف الأعراف القديمة بل كذلك يخالف المفكرين والفلاسفة الآخرين فهو متفرد في مواضيعه التي يطرحها لذلك نتساءل: ما الذي كان يقصده نيتشه بحياة الخطر؟.. وكيف نفهم رسالته الرقي في الروح بينما نتقبل النفس وشرورها (36)

ولعل من المفيد – بعد عرضتا لهذا الكتاب ومحتواه – أن نشير في عجالة إلي أهم التوجهات الضابطة في مسيرة نيتشه الفلسفية عبر فصول الكتاب العديدة .

وأبرز هذه التوجهات وهو ما ظهر له من أن دراسة كتاب: "هكذا تكلم زرادشت" يمثل كما قلنا من قبل،تجسيد لأفكار نيتشه انعكاس لعدائه الشديد للديمقراطية والاشتراكية والمسيحية، باعتبارها تمثل "أخلاق العبيد"، هدف نيتشه كان تعرية الغريزة البشرية في الأخلاق من أجل هدم الأخلاق البرجوازية وتعريتها على حقيقتها، مثلما حارب الأخلاق النفعية باعتبارها "فلسفة للخنازير"، حسب تعريفه، تقوم على الجشع وتتميز بالحرص الممزوج بالجبن لتحقيق المآرب والمنافع، وبهذا فالأخلاق عنده ليست سوى استراتيجية للدفاع عن مصالح محددة تمنع الفرد من إطلاق العنان لرغباته.

وثمة توجه آخر لنيتشه يتمثل في أن الكتاب يمثل تجسيد لفلسفته في الإنسان المتفوق؛ حيث تأثر نيتشه بنظرية التطور، فبنى نظرياته التي تهدف إلى هدم الدين -المسيحية خصوصاً- وبناء الإنسان المتفوق وكذلك نظريته في التكرار الأبدي على ما نصت عليه نظرية التطور، ففي سلسلة التطور، كل نوعٍ أوجد نوعاً جديداً متفوقاً عليه - إلا الإنسان- وكان تطور تلك الأنواع ناتجٌ عن الانتخاب الطبيعي، حتى وصلت حلقة التطور إلى نوع الإنسان، وهنا توقف التطور - بحسب نيتشه- ولا سبيل إلى إكمال مسيرته إلا عن طريق تطور الإنسان إلى نوعٍ جديد، هو الإنسان المتفوق ولكن هذا التطور، ولأنه متقدمٌ جداً في سلم الحياة يتطلب كلا نوعي الانتخاب الطبيعي والاصطناعي، ولأن الانتخاب الطبيعي قائمٌ أساساً على القوة و" البقاء للأصلح"، فلن يبقى إلا أقوى الأفكار وأقوى البشر، ومن هنا نتبين سبب تمسكه بأخلاق القوة وإرادة القوة التي بنى عليها نظرياته الأخلاقية.

أما التوجه الثالث فيتمثل في ربط نيتشه بموقفه من المرأة، فمن المعروف أن نيتشه ممن يزمون المرأة، رغم ترعرعه طيلة عمره مع أمه وأخته، حيث قضى أباه وهو بعمر الخامسة، والنتيجة كانت فلسفة مؤذية قليلاً للمرأة.. في كتابه نجده يحذر من اتخاذ المرأة صديقاً، فهي لا تصلح سوى للحب، وهي مجرد لعبة للرجل، ولا هدف منها ولا مهمة لها سوى الولادة، وهي لا تعرف الشرف ولا تدري ما هو. ثم إن هدف الزواج ينحصر في إنتاج "الانسان المتفوق"، لذا ينبغي أن يقام الزواج بأقصى قدرٍ ممكنٍ من الكمال، فيجب أن يسبق الزواج فترة يلتقي فيها المرأة والرجل ويتعايشان لينظرا هل بإمكانهما الاستمرار في زواجٍ يربطهما إلى الأبد.

علي أن هذه التوجهات قد صاحبها ثلاث نزعات للمؤلف: إحداها نفسية، والثانية أخلاقية، والثالثة عقلية . أما الأولي من هذه النزعات، فتتمثل في إفراط المؤلف في القول بأن:" الإرادة هي من تحدد اتجاهاتنا واتجاه الحياة نفسها، وهي من تقرر إذا ما كنا نفعل فضيلةً أم نفعل سواها. حسب نيتشه بإمكاننا تحويل الشهوة إلى فضيلة، عندما نضع فيها مقصداً سامياً. وكل ما كان -في الماضي- هو ما أرادته الإرادة أن يكون فعلاً، لذا لا حاجة بنا إلى ندب الماضي ولعنه، حسب نيتشه إنه ينبغي أن نفعل الفضيلة لذات الفضيلة، ولا ننتظر ثواباً عليها. لأن الفضيلة هي ثواب نفسها، فالوصول إليها هو ثوابها. ويقول أن أخطر الناس هم "أهل الصلاح والعدل"، لأنهم يحاكمون بكل إخلاص، ويقتلون بكل صلاح، ويكذبون بكل عدل، حسب قوله، وهم يعتقدون بأنهم يعرفون ما هو خيرٌ للبشر وما هو شرٌ عليهم، ومن هنا يمارسون وصايتهم الممقوتة. ولكن نيتشه يقرر لنا مخرجاً من أهل الصلاح هؤلاء بقوله: إن الخير والشر نسبيان، فما هو خير لك لا يعني بالضرورة خيرٌ لي، بل ربما يكون شر علي، فما تراه أنت خيراً أراه شراً في أحايين كثيرة. لذا فلكلٍ طريقه ولا توجد جادةٌ سليمة واحدةٌ يسير عليها العالمين. فالحكمة تقتضي على الإنسان أن يعرف خيره وشره, وأن يتكامل في خيره وشره. كما أن الشر الأعظم ضروري للخير الأعظم.

وأما التوجه الثاني فتتبدي لنا بجلاء في مواضع عديدة من الكتاب يؤكد فيها المؤلف علي إرادة القوة، التي كثيرا ما يقدسها ويعبدها نيتشه، فهو يرى -دوماً- بأن من حق الأقوى أن يحكم، والشعب الأقوى أحق بمقدرات الأضعف. فهو يرى أنه "لا مساواة" لكن "نعم للعدالة". وبدل العقل والعقلانية جعل الجسد هو العقل الأكبر، وأن اللاعقل هو المصدر الأصل، ففي كل مكان يكاد يكون الجنون هو الذي يفتح الطريق أمام الفكر الجديد، وعلى البشر أن يحققوا أهدافهم الكلية. والإنسان المتفوق هو الذي يستطيع تحقيق الأهداف والارتفاع إلى مستوى الحب القدري، وبهذا جعل نيتشه الإنسان "كمؤدب" للإنسان، ومن يستطيع تحقيق الأهداف عليه أن يعرف "أنه يحتاج إلى أسوأ ما فيه إذا أراد أن يصل إلى أفضل ما فيه". وهو بهذا لا ينادي بتحرير الغرائز بقدر ما يريد إضفاء الصبغة الروحية عليها وتحويل الطبيعة إلى عمل فني والعودة إلى الأبدي. يمثل نيتشه في الواقع نزعة عدمية بأحلك صورها، فهو يقول بأن الحقيقة والكذب يوظفان دوماً من أجل الكائن المتفرد، كما أن الحقيقة والوعي والعقل والموضوعية والاخلاق، وكل ما على الأرض في هذا الزمن، إنما يبرهن، خطوة فخطوة بكونه تدهوراً امام قرف الحياة. وأمام هذا العجز والإحباط ليس هناك من مخرج سوى "تحرر الأنا والدخول في الفناء" .

أما النزعة العقلية فتبدو لنا واضحة في الأسلوب المتبع في كتابة هذا الكتاب فيشار إليه على أنه عمل فلسفي من الخيال، والذي غالباً ما يقلد العهد الجديد والحوارات الافلاطونية؛ بالإضافة إلى الأعمال ما قبل السقراطية ويحقق نيتشه كل هذا من خلال شخصية زاراثوسترا في إشارة إلى النبي التقليدي للديانة الزرادشتية الذي يلقي خطابات حول مواضيع فلسفية، وبالانتقال الى النقَاد، فقد قام الناقد هارولد بنقد كتاب هكذا تكلم زرادشت واصفاً الكتاب بالكارثة الرائعة وغير قابل للقراءة..  بينما راي آخرون أن أسلوب فريدرك نيتشه هو أسلوب ساخر عن قصد وأسلوبه الغير تقليدي الذي لا يميز بين الفلسفة والأدب.. لقد عمد نيتشه في هذا الكتاب إلي الكتابة وفق الشذرات إنطلاقاً من كتابه إنساني مفرط في إنسانيته، الذي يعتبر نقطة تحول في فلسفته، وهو النص الذي يؤرخ عادة لما يسميه شارحوه " المرحلة الثانية " من فلسفته . لذلك يشهد الكل "بطرافة أسلوبه في الكتابة وغرابة بناء نصه . لكأنه يرغب في اختراق ما دأب عليه الفلاسفة من سنن في الكتابة الفلسفية . فكانت قراءته مستعصية نظراً لتعسر فهم ما يعنيه حيناً واحتجاب مقاصده حيناً آخر. إذ تمتنع "كلماته" عن الفهم عندما كانت معانيها متناثرة هنا وهناك بين شذرة وأخري" (36).

وفي نهاية عرضنا يمكن القول بأن كتاب "هكذا تكلم زرادشت" لنيتشه، سياحة عقلية خالية من أي تعصب، بعيدة عن أي إسفاف، مجردة من أي هوي، واعية متأنية في ذاكرة تاريخ الفلسفة الألمانية المعاصرة نقف من خلالها مع المؤلف علي أفول كل المقدسات / المتعاليات Transcendantale عبر مفهوم موت الإله Dieu est mort، فبموته سيموت ركن أساسي من أركان اللوغوس، ذلك أن نيتشه في فاتحة الكتاب الأول من هكذا تكلم زرداشت " في ديباجية زرادشت يدرج فكرة أفول الله وفنائه، وبالتالي فناء فكرة تقديس الصوت وتقديس " الكلمة"، يقول:"... لكن حالما وجد زرادشت نفسه وحيداً حدث قلبه بهذا الكلام: أيعقل هذا؟! هذا التقديس العجوز لم يسمع هنا في غابه بعد أن الله قد مات ! " (37).

وأخيراً وليس آخراً أقول إنني استمتعت بقراءة هذا الكتاب الجاد الذي جعل صاحبه يُنظر إليه علي أنه أهم وأشهر الفلاسفة المعاصرين الذين استطاعوا أن يجسدوا بطريقة عملية العلاقة بين الشعر والفلسفة، وذلك من خلال استخدامه اللغة الشعرية في تقديم الأفكار الفلسفية، حتي بدت فلسفته شعرا، وهذا ينم عن قدرته البالغة علي تطويع تلك اللغة الشعرية لتقديم الأفكار الفلسفية.. حقا لقد استطاع نيتشه في هذا الكتاب أن يأتي بمطرقه في يده ليحطم قيم التراث الغربي التي أضحت في رأيه بالية وعاجزة عن تقديم مضمون جديد،بل وامتدت أمنيته هذه إلي التراث الإنساني كله الذي رآه في حاجة ماسة إلي إعادة البناء علي أسس جديدة لا تتغير.. إن هذا الكتاب أثار سؤال من هو نيتشه؟.. فجاءت الإجابة أنه واحد من الفلاسفة الذين لا يدل أسمهم علي مجرد تراكم للنظريات أو إنتاج للمذاهب الفلسفية.. إن نيتشه لا يملك أن نحصر فكره وفلسفته ضمن تراتبية نسقية  تحيل علي انتظام للمواقف والأفكار والأطروحات، لأنه فيلسوف " اللانسق" أصلا.

 

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

..............

28- فريدريك نيتشه: هكذا تكلم زرداشت، ص 355-358.

29- نفس المصدر، ص 387-391.

30- نفس المصدر، ص 411-421.

31- نفس المصدر، ص 454-466,

32- نفس المصدر، ص 471-479.

33- نفس المصدر، ص 481-484,

34- نفس المصدر، ص 791-495.

35- نفس المصدر، ص 512-532.

36- فوزية ضيف االله: نيتشه من الفيلولوجيا إلى الفلسفة، مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، العدد 6، 2015، ص 263.

37- نيتشه: نفس المصدر، 15

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم