صحيفة المثقف

السلاحف

صالح الرزوقموريا دايان كوديش

ترجمة: صالح الرزوق


 نعم، يا إلهي. نعم يا إلهي.

في وسط الحقل، ليس بعيدا عن حدود غزة، كان غاي، الملتاع والثائر، يحترق من أعماقه. ووقف قربه المنسق الأمني الذي يمثل الجيش، وسيارة جيب عسكرية، وسيارة إسعاف خرج منها مسعف وطبيبة شابة، ومعهم سكرتير الموشاف. وبدأ المسعف، وهو رجل أرثوذوكسي بحوالي الثلاثين من العمر، باستلام زمام النقاش.

قال:”أنت يا بني. نرغب أن ترافقنا لإجراء اختبارات والتأكد أن كل شيء على ما يرام”.

كان غاي مستلقيا على الأرض. يتقلب على التراب وينوح مناجيا ربه، لكنه لم يرد على المسعف. قال له:”عليك أن ترافقنا ياصاحبي. الصاروخ سقط للتو ويجب أن نتأكد أنه لم يضرك بشظية، لا سمح الله”. لم يرد غاي أيضا.

اقتربت الطبيبة الشابة من غاي، وشعرها يتدلى بشكل ذيل حصان طويل، ولمسته برفق، وسألته:”هل كل شيء على ما يرام؟”. نظر غاي إليها، وعيناه يغشاهما الصور الباهتة. وفمه يبتلع التراب. ثم ألقى نظرة عميقة على الجميع قبل أن يدفنها بالأرض مجددا.

قالت الطبيبة للمسعف:”لا بد أنه يعاني من رضة وقلق ما بعد الهجوم. وهو بحاجة لرعاية فورية. الدقائق التالية لأي حادث هي المعول عليها”.

2290 موريا دايانولم يعجب المسعف أن يتلقى التعليمات من الطبيبة الشابة التي لا تزيد بعمرها عن عشرين عاما. ثم هي لا تضيف لمعلوماته شيئا. لم يكن متحمسا منذ البداية للقيام بهذه المهمة، وجاء رغما عنه، ودون أي معلومات عن الحالة. كان بوسعه أن يعالج الجروح الجسدية، ولكن هذا الصبي يعاني من مشاكل نفسية خطيرة أيضا. واتسعت الحلقة حول غاي وتحولت لأنشوطة تخنقه. بالإضافة لهيفتز صاحب الحقل، هناك سكان الموشاف، وطاقم الإعلام، وسيارات الشرطة وطبيبة الصحة الذهنية في المدرسة والتي استدعيت من بيتها الكائن في محلة مجاورة. ثم والد غاي، لسوء الحظ.

اقترب وبطنه تهتز أمامه وهو يصيح:”غاي، غاي. ماذا أصابك يا غاي؟. ماذا تفعل؟ انهض يا بني”.

و لم يقف غاي على قدميه ولم يصرف أنظاره. ولم يرد على كلام والده، ولا حتى حين هدهده بعناية فائقة، ولا عندما هزه بنوبة من الخوف كما لو أنه يشاهد عفريتا، ولا عندما رافق الأب الشرطة والإسعاف بعيدا عن الحشد وهو يلوح بذراعيه بعنف ويصيح:”سوف أقاضيكم! سوف أقاضيكم، أيها المرضى الحمقى. كيف يمكنكم أن تجروني بعيدا! كرامة لله، الا ترون أن ابني جن!”.

كان المسعف يبدو مصدوما وهو ينظر من الزاوية بانتظار شخص آخر ليمسك بالزمام. وقرر ناتان، أحد ضباط الشرطة، أن يفرض سطوته. فقال للمسعف:”ما هي المشكلة؟ لماذا لا يصعد الولد إلى الإسعاف”.

رد:”ألا ترى أنه يتكلم مع اللــه”.

سخر ناتان قائلا:”ألا يمكنه أن يتكلم معه وهو في الطريق إلى المستشفى؟. هيا بنا نرفعه إلى السيارة”. وتابع بلغة متسلطة:”سأباشر العد. حينما أبلغ رقم ثلاثة، سنرفعه معا. كل واحد منا يجره من ساق”.

واتخذ ناتان والمسعف وضعا قرب رأس غاي، ووقف هيفيتز وضابط شرطة آخر عند قدميه. ولكن تابع غاي تأتأته المتلعثمة.

صاح ناتان:”واحد، اثنان، و.... ثلاثة!”. ومد الرجال الأربعة أيديهم نحو أطراف الصبي. ولبث غاي جامدا أول الأمر. ولكن ما أن فارق الأرض، حتى أطلق صيحة تجمد الدم وأفلت هيفيتز الساق التي قبض عليها.

صاح ناتان:” أمسكه! هيا أمسكه! ولنتابع نحو سيارة الإسعاف”.

وحاول هيفتز أن يقبض على ساق غاي، وكانت ترتفع وتنخفض بسرعة البرق. واقترب ثلاثة آخرون ليشتركوا في جر غاي. ومع ذلك واصل زئير متوحش بالاندلاع من جوفه، واكتساح الأرض المحروثة.

وجه المصور الفوتوغرافي من واينيت نيوز عدسته على المشهد. فصاحت دافنا طبية المدرسة النفسية:”الصور ممنوعة! التصوير ممنوع”. وثبت غاي المصور بنظرة جليدية وتوقف عن التلويح بيديه وساقيه.

وقال عوضا عن ذلك بنبرة معدنية في صوته:”صور. صور. فهنا شيء كبير يجري”. وأضاف موجها كلامه لمن يجره:”وأنتم، أفلتوني فورا”. ضغط المصور على زر الكاميرا. وكانت الشمس تنفجر أمامهم. ودب النشاط في الشرطي ناتان وقال:”هيا إلى الإسعاف. إلى سيارة الإسعاف!”.

ولكن قاومه غاي وقال:”أفلتني. لدي شيء يجب أن أخبركم به”.

وصاحت دافنا:”أفلته. أفلته. لنستمع لما لديه. كفانا ما حصل، يكفينا هذا العنف. أنتم تسببون له المزيد من الألم فقط”.

ومرت في ذاكرة دافنا موجة مستمرة تستعرض المناسبات التي زارها بها غاي في مكتبها. إما بصفة متهم بفعل شائن، أو بسلوك غير مقبول، أو للتحقيق، أو للتجميد والطرد من المدرسة. وشعرت بشيء غير مريح في حنجرتها. إنها مسؤولة عن سلامته العاطفية، وهي المكلفة باستلام زمام صحته وعافيته. نعم. لقد نصحت والديه أكثر من مرة أو مرتين أن يفكروا بتوفير العلاج النفسي الشامل له، ولكن اقتراحها لاقى الرفض بكثير من الامتعاض. وهذا لا يخفف من المسؤولية التي تتحملها. كانت خائفة من الصبي. وكانت دائما تخاف منه. له نظرات متوحشة تلمع في عينيه. وشخصيته شجاعة. وحولت رعبها نحو المصور. قالت له:”عليك أن تنفذ الأوامر! أغلق الكاميرا. ألا تفهم؟”.

وصاح غاي:”بل صور. وأنتم: أفلتوني”.

وتململ الرجال الذين كانوا حول غاي. الشرطي ناتان، والذي كان يبذل كل قواه ليجبر الولد على الدخول في السيارة. والمرأة التي كانت تولول ليطلقوا سراحه. والمصور مع دليل الإثبات الذي بين يده والموجه إليهم. والتعب المخزي الذي تعاني منه الحلقة الأخطبوطية. وأخيرا الولد.. صوته. وجسمه الملتهب.

قال مجددا:”أفلتوني”.

وأفلتوه. فاستلقى غاي على الأرض. وهو منهك من الشعور بالإعياء والحنين.  فاقتربت منه دافنا وقالت:”غاي. أنت بحاجة للعناية والرعاية. ولكن لا نريد أن نحملك للمصحة عنوة. قلت لديك شيء لتخبرنا به. ماذا أردت أن تقول لنا؟”.

حسن غاي من وضعيته المستلقية، وجلس على الأرض، ويداه تعبثان بالتراب كما لو أنه يلهو بمسبحة. والتقط أنفاسه. ونظر الحشد بانتباه إليه. وانفجرت الكاميرا بومضة ساطعة.

وجاء صوت غاي يقول:”أنا غاي ابن سفيتلانا، رسول أتيت لشفاء أرواحكم”.

***

............................

* الترجمة من العبرية: ستيفن كوهين. Steven Cohen. وهو مترجم يعمل مع مجلة “الأدب العالمي اليوم”.

* موريا دايان كوديش  Moria Dayan Codish كاتبة ومحررة. صدرت أولى أعمالها بعنوان “السلاحف” عام 2018 عن دار كنيريت زمورا دفير.

  

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم