صحيفة المثقف

تشيخوف في الصين

ضياء نافعالكتابة عن تشيخوف في الصين تعني الكتابة عن تاريخ ترجمات نتاجاته الى اللغة الصينية، ومن ثمّ، كيف تقبّلها القارئ الصيني بشكل عام وكيف تناولها النقد الادبي الصيني بالذات، وهل هناك انعكاسات او تأثير- ما لتلك الترجمات على مسيرة الادب الصيني نفسه، ومن نافل القول، ان الحديث الشامل عن كل هذه الجوانب الواسعة والمتنوعة يتطلب عملا كبيرا لمجموعة من المتخصصين في الادب الروسي والصيني معا، ولا يمكن طبعا لمقالتنا هذه ان تتناول كل هذه الجوانب المتنوعة، الا اننا نظن، ان التوقف عند هذا الموضوع ولو بشكل وجيز جدا، او حتى الاشارة الى معالمه الاساسية ربما يكون ممتعا وطريفا للقارئ العربي، وذلك لأن الموضوع جديد بكل معنى الكلمة لهذا القارئ، وهذا اولا، ومن المحتمل ان يكون مفيدا ايضا له، وهذا ثانيا، لأن هذا القارئ يهتم بالادب العالمي وعلم الادب المقارن، وهذا يعني طبعا، الاهتمام بموقع اعلام الادب الروسي خارج روسيا، وتفاصيل هذه العملية الابداعية ...

الخطوة الاولى لمسيرة تشيخوف (1860 – 1904) في الصين ابتدأت بترجمة لاحدى نتاجاته عام 1907 (اي بعد وفاته بثلاث سنوات) وعن اللغة اليابانية، ولكن الغريب بالامر، ان اول نتاج مترجم له الى الصينية هي القصة الطويلة – (الراهب الاسود)، وتشغل هذه القصة مكانة خاصة جدا في ابداع تشيخوف، و تعدّ عملا فنيّا متميّزا جدا في تاريخ نتاجاته الادبية، وقد كتبها تشيخوف عام 1893، ويتمحور مضمونها حول (مرض الروح الانسانية) كما اشار الكثير من الباحثين الروس آنذاك، ولا زالت هذه القصة الطويلة لحد اليوم تثيرمختلف النقاشات حولها، اذ لم يتم الاتفاق حتى على تحديد جنسها الادبي، اذ يسميها البعض (رواية قصيرة) (بوفست بالروسية)، ويسميها البعض الآخر (قصة)(رسكاز بالروسية)، ونحن نميل الى تسميتها (قصة طويلة)، اذ انها تقع في حوالي 30 صفحة بطبعتها الاولى، وفي كل الاحوال وبغض النظر عن كل هذه النقاشات والتباينات حول (الراهب الاسود)، فانه لا يمكن بتاتا اعتبار هذه القصة نموذجا ساطعا لادب تشيخوف كما يراه العالم ويتقبله في الوقت الحاضر، اذ لا يمكن ان نجد هناك تلك الاجواء التشيخوفية (ان صحّ التعبير)، التي اشتهرت في قصصه او مسرحياته بشكل عام، ولا نعرف السبب، الذي جعل المترجم الصيني هذا آنذاك ان يختار هذه القصة بالذات ويقدمها الى القارئ الصيني، الذي لم يكن يعرف عندها اصلا من هوهذا الكاتب الروسي تشيخوف، وربما يمكن توضيح ذلك السبب بالاجتهاد الشخصي لهذا المترجم واعجابه الذاتي ليس الا، اذ ان هذه القصة ذات طابع فلسفي، وتتداخل فيها عناصر الحقيقة مع الخيال، وتمتزج في صياغتها اجواء الرمزية مع الواقعية ...

وهكذا ابتدأت مسيرة تشيخوف في الصين، وقطعت خمسة مراحل باكملها كما يشير الباحثون في هذا الموضوع كافة . ترتبط هذه المراحل طبعا بتاريخ الصين نفسه منذ بدايات القرن العشرين، مرورا بحركات التحرر من السيطرة اليابانية، ثم انتصار الثورة واعلان جمهورية الصين الشعبية (1949) ومسيرتها واحداثها المتنوعة (لنتذكر فقط الثورة الثقافية وكتاب ماوتسي تونغ الاحمر، الذي طبعوا منه أكثر من 800 مليون نسخة !!!)، وصولا الى حركات الاصلاح الجذرية، والتي أدّت الى ان تشغل الصين الان هذا الموقع المتقدم عالميا وفي الميادين المختلفة كافة . كل هذه المراحل جعلت من تشيخوف في نهاية المطاف واحدا من أكثر الادباء الروس (وليس فقط الروس) انتشارا وشهرة بالصين في الوقت الحاضر، وترتبط هذه المراحل (كما حدث ذلك في عالمنا العربي) بلغات وسيطة عديدة قام المترجمون الصينيون بترجمة نتاجات تشيخوف عنها في بداية هذه المسيرة الطويلة، منها اليابانية والانكليزية، الى ان وصلوا بعدئذ الى لغة تشيخوف نفسها، اي الروسية، وأخذوا يترجمون نتاجاته الى اللغة الصينية عن الروسية مباشرة، ومن قبل المتخصصين الصينيين أنفسهم، الذين درسوا اللغة الروسية وآدابها (في عقر دارها!)، وأبدعوا في دراستهم (وقد شاهدتهم شخصيا اثناء دراستي هناك وأشهد على ذلك)، ونتيجة لتفوقهم هذا، جاءت الثمار باهرة جدا في اغناء الحركة الادبية بالصين، وحصل تشيخوف على واحدة من (حصص الاسد!) في بستان هذه الثمار، اذ توجد الان المؤلفات الكاملة لتشيخوف باللغة الصينية في (27) مجلدا (وهذا شئ لم يحدث حتى في اكثر الدول ازدهارا في العالم ولحد الان !!!)، اضافة الى عشرات الكتب الصينية الاخرى لقصصه ومسرحياته، والتي صدرت قبل مجموعة المؤلفات الكاملة وبعدها ايضا، والى العديد من الكتب النقدية باللغة الصينية، التي كتبها المتخصصون الصينيون انفسهم، او التي ترجموها الى الصينية، وكلها تتناول دراسة ابداع تشيخوف وخصائصه الفنية.

لقد سألوا مرة فنانة صينية كانت تؤدي دورا في مسرحية (بستان الكرز) لتشيخوف باحدى مسارح بكين – من هو تشيخوف بالنسبة لها ؟ فاجابت رأسا - انه المعلّم، الذي بقول لنا دائما - (... في الانسان كل شئ يجب ان يكون رائعا – والوجه، والملابس، والروح، والافكار...)، ولهذا، فاننا نقول له دائما – شكرا يا انطون بافلوفيتش ....

 

أ. د. ضياء نافع

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم