صحيفة المثقف

دراسة في عوالم سرديات لطفية الدليمي

حيدر عبدالرضاوقفة مبحثية مع نص (ليلة العنقاء) نموذجا.. الواقع الحكائي بين الوجود السردي والحضور النصي

الفصل الثالث ـ المبحث (4)


توطئة:

لقد ذهب الناظم الأوحد السردي في عوالم سرديات الأستاذة لطفية الدليمي في مسافة مقرونة بين الوجود السردي والحضور النصي، وذلك في مسافة جملة خروجات وتعالقات دلالية مبرهنة في حضورها النصي، فيما يبقى وجودها السردي كعلامة فاعلة في مدار تماثلات الفاعل الذاتي المنبثق من فضاء المحاور الشخوصية في نص (ليلة العنقاء) وهذا النص ما هو إلا خطاطة توكيدية جديدة تبرهن على وجود الأنثى الوحيدة ومضطهدة عبر مسلمات من غاية ثنائية المنقسم ما بين (الراوي / الشخصية المشاركة) امتدادا نحو ذلك الاستثمار في مظاهر حكاية النص التبئيرية في كل علاماتها السردية المنجزة .

ـ الواقع السردي وغياهب الأنموذج الأنثوي

اعتمدت معالجات (لطفية الدليمي) في واقع حكاية نصها ـ ليلة العنقاء ـ على الغوص نحو الداخل الأنثوي ومحاولة كشف ما يترتب على هذا الأنموذج الأنثوي من تابوهات ضغوطية خاصة من قبل أفراد العائلة والعادات والأعراف السائدة في ظل زعامة القرية من قبل المشايخ . لذا فأن الفعل المشخص في علاقة محاور دلالات النص بجملتها تنصب في دائرة تحقير الجانب الأنثوي من جهة سلطة الذكورية القامعة والمتشددة في طرائق نظراتها وتعاملاتها إزاء حياة الوليمة الضائعة في مركب شخصية المحور الأنثوي في النص: (تحدق بالباب وترى خيط الضوء البلوري أماما .. يعتريها احساس ما لا تعرف أسمه، تتلمس جلد ذراعها، تجدها خشنة محببة مثل وجه رغيف خبز بالسمسم .. تحب خبز السمسم . بل تكرره لأن الشيخ عبد الدايم يطلبه على مدى الأيام . أهو البرد .. أم أنها لسعات هوام الليل ؟ . / ص145) اللافت إلى النظر في مقتطفات هذه الوحدات السردية، إلى أن الذات الأنثوية خاضعة إلى عوائق وأصفاد عديدة من أحتمالات الذات الخارجة والداخلة في طقوس وطواطم السلطة الذكورية المتمثلة بدءا بالشيخ عبد الدايم، وانتهاء بهموم وإشكاليات أهل القرية مع رجالات الدعاية الانتخابية المتمثلة ب (مدحت الكهلاني) الذي فاز بصفة نائبا في المجلس(:قال الأولون: ننتخب مدحت الكهلاني: فهو الذي أقام مشروع تصفية المياه وتبرع بكل تكاليفه / وبعد أيام جاء الكهلاني يتفقد مشروع المياه وأمر بجلب مزيد من الرمل والحصى وطلب من العمال أن يزيدوا في عمق الحوض .. وكرر الزيارة بعد أسبوع ووعدهم بمشاريع جديدة أخرى . / ص150) وبعد أن تم فوز الكهلاني (و نشرت الصحف صورته وهو يصافح الوصي على العرش / ص150) تخبرنا الأحداث السردية عن أهوال ذلك الحوض العملاق وكيفية تحول هذا المشروع الانساني إلى حفرة آسنة تضم في أوصالها أطنانا من النفايات وابتلاع أطفال القرية أمواتا بين نباتات قصب البردي والطحالب اللزجة، وذلك بعد أن غادرها فريق العمل المكلف بصيانة هذا المشروع، ولكن الأمر أصبح على العكس تماما بمجرد حيلولة نيل الكهلاني حظوة ذلك المنصب: (و بعد أشهر، قال أبو بدور لزوجته، سيجتمع اليوم أهل القرية جميعا لردم الحوض، مات فيه أبن موسى الأعرج وأبتلع النزيز أبنتة عزيز الكردي، وبالأمس سقط أبو سعد الأعمى وكادت أم حليمة الضريرة أن تقضي عندما سقطت فيه وأنقذها الرجال .. من يدري قد يبتلع الحوض بشرا آخرين . / ص150) من الواضح أن رمزية الحوض تشكل بذاتها معادلا نصيا على مظهر وصورة الحكومات . فالكاتبة الدليمي كان مقصودها المدلولي واضحا، ولكن انشغال هذه النوعية من المعادل، لم تنتشل الدليمي من فحوى ثيماتها الخاصة حول مظلومية المرأة وسط أجواء واقع مجتمعي قروي، من شأنه الحط من مكانة المرأة والفتاة في دلالاته الرعوية السائدة .

1ـ من الطفلة المنعزلة إلى الفتاة المكبلة:

أن تدوين الروائية لطفية الدليمي في دفاترها الذاكراتية أعمق أعماق خصوصية مراحل الجنس الأنثوي في أجلى خصوصياته المقهورة، ما راح يرسم لنا مواقع حياة الأنثى واختلاط مشاعرها بالألم والمزيد من مفارقة ذلك الاحساس المصاحب لها بالنقص والمغلوبية دائما في أمرها . ذلك ما حاولت الروائية اظهاره لنا في مثل هذه المقتطفات من النص: (ـ أذهبي يا أبنتي، لدي عمل كثير، ولا أحد يعينني، لو كنت صبيا يا بدور لساعدتني في تسلم بطاقات التموين وتوزيع الشاي والسكر: ـ أستطيع مساعدتك يا أبي .. خذني إلى السوق:ـ كلا .. أذهبي مع أمك .. أن أخذتك سيسخر مني الرجال ويشمت بي الشامتون. / ص151) ان طبيعة سلطوية الذكر في المجتمع القروي والشرقي إجمالا، تعد فعلا لا يقابله أي فعل من أفعال الأنثى، حتى وأن كانت هذه الأنثى صاحبة مهارات ومواهب خاصة، فهذا الأمر في عالم السلطة الذكورية خاصة وفي مجتمع القرى لا يعادله أي كفاءة مقارنة بمكانة الذكر فيها حتى وأن كان هذا الذكر ناقصا وبليدا في مظهره الخلقي والسلوكي . وهذا الأمر ما جعلنا نطالع فداحة مستوى مفارقة الأحداث الشخوصية في القرية وكيفية وصول المواقف الذكورية فيها إلى المزيد من الحط والقهر بمكانة الأنثى: (حملت الأم الديكين الأسودين وزجاجة العسل الذي أحضره عزيز من الجبل لزوجها، والأرغفة العشرة بالسمسم وسلة الرمان / وسارتا نحو المقبرة إلى مرقد الولي الشبلاني بخطى مسرعة .. سألتها بدور: لماذا لم تأجلي الذهاب إلى الشيخ حتى مساء الغد فيرافقك والدي إلى هناك ؟ قالت لها: أصمتي، هيا ألا تريدين أخا ؟ .. لم تدر بدور مقدار لهفة أمها لمباركة الشيخ عبد الدايم لها علها تنجب ولدا تسعد به زوجها وتضمن عدم انصرافه لامرأة أخرى . / ص152) وتخبرنا الأحداث الأخرى في النص عن وصول بدور وأمها إلى المقبرة ومشاهدة موجة حاملي الفؤوس والأسلحة الأخرى تربصا بقدوم سيارة ذلك الرجل الذي (انتخبوه نائبا ورأوا صورته يصافح الوصي على العرش)  .

2ـ الأنثى وطقوس عبادة الأحلام بالطين:

أن عملية اماطة اللثام عن أفعال الأنثى وأحلامها البسيطة، ما راح يشكل حقيقة وهوية الممكن من انطلاقات الشخصية بدور في مرآة ذاتها . فالشخصية بدور القروية ما تنفك بالتوحد مع فؤادها داخل حفنات من الطين لتمرخ بها جسدها العاري طلبا لذلك الحبيب ـ مالك ـ بيد أن أضغاث هذه الطقوس السرية في بناء الشخصية الأنثوية، ما أخذت تركز على بلاغة العلاقة الخرافية ـ الشعبية ـ الطوطمية، في مسار مكونات جملة أسباب ودوافع الشخصية ذاتها وباقي شخوص النص، اقترانا بذلك الحجم من ضيق أفق تأدية هذه الأفعال الفطرية الواهمة، بالإضافة إلى وقوع الشخصية ذاتها ـ بدور ـ في أسر وزنزانة حجرها، ضنا من مشايخ القرية بأنها واقعة في حالة من حالات التلبس من قبل هوام الجن: (سمعت بدور خفقا مثل وجيب القلب والشهقات، ورأت القبور الكبيرة والصغيرة تئن وتزحف من حولها الأشواك وكتل العوسج / لطخت أظافر يدها اليسرى بالوحل ورسمت أشكالا مثل تلك التي تحدثها الحناء على الجلد، ثم رسمت خطا طويلا بدأته من أعلى عنقها وهبطت مارة بمنتصف صدرها حتى سرتها الصغيرة وعانتها، ثم لطخت ثدييها وجبينها وبعد قليل أحست به يتجمد على جلدها / فزعت بدور وقالت للوجه الذي أمامها: ـ خذني إلى مالك، أنه ينتظرني تحت أشجار التين، قرب عين الماء، تحت ظل الجبل البعيد .. / ص153 . ص154) .

ـ تعليق القراءة:

بأختصار شديد أن حكاية نص (ليلة العنقاء) تدشن آفاق المعتقد والأعراف والأبعاد الطوطمية العسيرة من انتاج صيغة المعنى الدلالي الموظف بالبعد الطقوسي لأحوال وقائع حياة أنثى رازحة في ظل زوايا وقواعد وأصول أرباب ومشايخ الطريقة . والحكاية السردية في هذا المدلول أخذت تسلك دربا غريبا من الواقعية السردية الموجودة واللاموجود في ظواهر حضورية أعتبارات وتمثلات حياة الأنثى في نصوصية مجال الترهين للتبئير الحكائي المنعقد بملامح الوجود والحضور الشخوصي المتميز في كشوفات ومخطوطة عالم النساء الوحيدات .

 

حيدر عبد الرضا

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم