صحيفة المثقف

مدينة أُور العراقية المقدسة.. قبلة المسيحية الغربية!

محمود محمد عليعندما كتب مقالي عن مدينة أخميم في الأيام الماضية لفت نظري أستاذي الدكتور علي القاسمي، في تعليقه علي المقالة فقال: "إن مدينة أخميم بمكانتها المرموقة هذه في أروقة التاريخ، تذكرني بمدينة أُور المقدسة جنوبي العراق التي حج إليها قداسة البابا في الأيام الماضية. فأور هي التي أنجبت سيدنا إبراهيم الخليل (عليه السلام)، وكانت مركز صناعة النسيج، وتصدر الملابس التي تنتجها مصانعُها إلى جميع أنحاد بلاد ما بين النهرين. وفي أور اختُرع الصابون الذي يستخدم في تخليص صوف الأغنام من شحوم جلودها، طبقاً لباحث أمريكي معاصر، ترجمتُ مقاله " مَن اخترع الصابون؟"، ونشرتُه في " صحيفة المثقف"..

ويستطرد الدكتور القاسمي فيقول: ".. الثابت لدى علماء السومريات أن سيدنا ابراهيم الخليل ولد في أُور وهاجر منها، ومنهم العالم الروسي الامريكي نوح كريمر صاحب كتاب (التاريخ يبدا من سومر) . وهذا البابا فرانسيس قال ذلك في خطبته في اور . كما أن البابا الذي قبله أعلن سنة 2000 عن رغبته في الحج الى أور. لكن المرض منعه.

ولقد صدق الدكتور القاسمي في كل ما قاله؛ حيث إنه خلال الأيام الماضية وجدنا  العراق البلد الذي يحتضن أقدم الكنائس المسيحية في الشرق والعالم، والبلد المتعدد الطوائف المسيحية، من كلدان، وأشوريين، وسريان، وغيرهم، يتطلع لزيارة البابا فرنسيس، زيارة الحبر الأعظم التي تشهد سهل أُور، واربيل، والموصل، والنجف، يراهن عليه لدعم قيم التسامح والتعايش في عراق متعدد الديانات والمذاهب والقوميات، فما أهمية زيارة البابا فرانسيس إلي العراق؟، وما الرسائل التي تحملها لتعزيز قيم التسامح والتعايش؟، وكيف أصبحت أوضاع مسيحيي العراق وباقي الأقليات الدينية التي عانت من اضطهاد تنظيم داعش؟ .

وما يمهنا هنا هو زيارة البابا لمدينة أُور المقدسة، فهل يقال أن زقورة أور تضاء بالكهرباء للمرة الأولي في تاريخها احتفاءً بزيارة البابا فرنسيس للعراق!، فالمقصود هو تاريخ يمتد نحو أربعة آلاف عام!، ذقورة أور أو الجبل الشامخ التي لا تزال بعمارتها وتفاصيلها المتقنة هو تاريخ يمتد نحو أربعة آلاف عام!! .

ولأُور قيمة خاصة في الأديان كافة، إذ يًعتقد كما ذكر الدكتور القاسمي أن سيدنا  إبراهيم (عليه السلام) ولد فيها، وزيارة البابا إلي أُور وأدائه صلاة مشتركة بين الأديان بعنوان " صلاة من أجل أبناء وبنات إبراهيم " مع مسيحيين، ومسلمين، وصابئة، وإيزيديين، وأقليات دينية اخري في العراق في موقع قريب لما يعتقد أنه بيت النبي إبراهبم (عليه السلام)، لا شك تكُسب هذه المدينة مكانة إضافية في نفوس العراقيين والعالم، فهذه الصلاة التي تُرفع لأجل السلام والتعايش تأتي بعد سنوات عجاف عاشها العراقيون منذ إعلان داعش سيطرتها علي مساحات واسعة من أراضيهم، بلاد هُجر فيها مسيحيين وقتل ايزيديون وشتت مسلموهم من قوم داعش، كُثر ممن شارك في الصلاة أو شاهدوها تردد وراء الحبر الأعظم أمين .. لعلها كلمة تختصر أمانيهم لأن تكون هذه الزيارة نوراً في آخر نفق قوي ومظلم عاشتها حضارات ما بين النهرين ..

وأُور هي واحدة من أهم المدن في الشرق الأدنى القديم، والتي حكمت العراق لمدة حوالي مائة عام قبل الميلاد، وتأتي أهمية زيارة الحبر الأعظم  لها لكونها تأتي أهميتها من كونها العاصمة السياسية والاقتصادية؛ فقيل ألفي عام مائة من تاريخ الميلاد، وفي بلاد الرافدين، ولدت حضارة أُور في أرض العراق، كعاصمة للسوماريين علي شكل مدينة بيضاوية في مصب نهر الفرات القديم، لتكون واحدة من أقدم الحضارات المعروفة في تاريخ العالم، ومهد سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام، الذي ولد فيها قبل ألفي عاماً من الميلاد .

ومدينة أُور العراقية تقع في أقصي جنوبي العراق بالقرب من مدينة الناصرية الحديثة، وقديماً كانت تقع علي مصب نهري دجلة والفرات في الخليج العربي، ما جعل منها مركزاً تجارياً بارزاً .. أما في أيامنا هذه فهي واقعة في منطقة نائية بعيدة عن المياه بسبب تغير مجري النهر علي مر الزمن ..

كانت أُور عاصمة للدولة السومارية عام 2100 ق.م، وقد اكتشف المدينة عالم الآثار البريطاني" تشارلز ديناردولي" الذي كان يدير فريق علماءه .. أجري أعمال تنقيب في مدينة أُور في عشرينات وثلاثينيات القرن العشرين ..

بدأ تاريخ حضارة أُور كمدينة مسكونة منذ فترة العبيد، حيث كانت القري عبارة عن مستوطنات زراعية، ولكنها أصبحت مستوطنات كبيرة، مع حاجة هذه المدن إلي مستوي أعلي، من حيث السيطرة علي الري في أوقات الجفاف والصناعات المتقدمة، وذلك قبل الميلاد بحوالي ألفين وستمائة عام، وخلال حكم السلالة  الثالثة ازدهرت أور من جديد، وأصبحت المدينة المقدسة للأسطورة "منايانا"، وفي النهاية سيطر ملوك مملكة أُور علي الدولة السومارية.

كانت مساحتها مائتي وأربعين فداناُ ويسكنها حوالي 34 ألف نسمة، ومن أهم آثارها : سور وجدار يحيط بمجموعة المعابد القديمة والذاقورات العظيمة، ومعني الذاقورات الجبال المقدسة، وهي علي شكل أهرامات ترتفع في هيئة مدرجات تناقص، ويحيط بها منحدرات تُوصل إلي قمتها .

سكن المدينة سكان مجهولون الهوية سبقوا السوماريين والساميين، وهم من أوائل من استوطن جنوب بلاد الرافدين ومناطق الفرات الأوسط، يُطلق عليهم اسم "الفراتيين" الأوائل، وكان يُعتقد أنهم من الجبابرة لشدة بنيانهم وقوتهم  ونُسب لهم أسماء عدداً من المدن، منها : " أدب، لجش، اور، الوركاء، لارسا "،

نهضت حضارة أُور كعاصمة للمملكة السومارية قبل الميلاد بألفين ومائة وعشرين عاما، عندما بادر "أوتوغال" ملك حضارة الوركاء، لإعلان أول عصيان واسع النطاق علي الحكام القبليين (الجوتاين)، وقد ساعده في ذلك حكام سومر ومن بينهم أور نمو الذي حرر سومر وأسس الثلاثة الثالثة في مدينة أور (أسرة أور الثالثة) ليبدأ العصر السوماري الحديث .

ازدهرت مدينة أُور في عهد أسرة أُور الثالثة في الفترة الممتدة من عام ألفين ومائة وأحد عشر، إلي عام ألفين وثلاثة قبل الميلاد، حيث تعاقب علي عرش أسرة أُور الثالثة خمسة ملوك عظام، كان أولهم المؤسس " أور نامو" وآخرهم "أبين سوشين "، وهو الملك الخامس والأخير في أسرة أُور الثالثة حيث حكم من خلال الفترة الممتدة من عام ألفين وسبعة وعشرين إلي عام ألفين وثلاثة قبل الميلاد .

كانت المعابد أماكن مشتركة للأوثان والكهنة معاً، في حين كان الكهنة بمثابة خدمة لتلك الأوثان يؤدون لهم الطقوس والشعائر ويوفرون لهم ولتماثيلهم جميع المتطلبات التي كانوا يحتاجون إليها، وفي تلك الفترة تم إنجاز العديد من البرامج الطموحة من قبل ملوكها الخمس، تركت آثارها في المدن علي شكل معابد وذاقورات وقصور، وهيمن برج المعبد المدرج علي السهل المحيط بأور الذي وصل ارتفاعها لسبعين قدماً .

وتعد ذاقورة أور التي قام ببنائها الملك أور نامو من أشهر الذاقورات في البلاد وذلك قبل ألفين ومائة عام قبل الميلاد، فقد تم تخصيصها لعبادة أوثان القمر "إينايانا  " وهي من أثر الذاقورات شهرة والأكثر مقاومة وصمودا أمام الزمان وآثاره القيمة، وما زالت شامخة إلي يومنا هذا .

تحتوي هذه الحضارة الغامضة علي ست عشرة مقبرة ملكية، شُيدت من الطوب واللبان، ولكل مقبرة بنيان يعلوه قبة، كانت مدينة أُور مركزا تجارياً هاماً، فقد اثبتت الحفريات الأثرية في وقت مبكر، أن أور تمتلك ثروة كبيرة، وأن المواطنين كانوا يتمتعون بمستوي من الراحة غير مسبوق .

تم التنقيب عن هذه المدينة بعد الحرب العالمية الأولي من قبل المتحف البريطاني، وقد تم تشكيل بعثة مشتركة من قبل المتحف البريطاني، وجامعة بنسلفانيا، والتي كانت تقوم بأعمال التنقيب، تحت إدارة "ليونارد وولي" عام ألف وتسعمائة وأربعة وثلاثين من الميلاد، ولكن ما تم اكتشافه كان لغزاً معقداً أكثر من لغز حضارة أُور، فقد أُكتشف قبر الموت العظيم، وهو مجموعة من القبور والمقابر الملكية، وقد كانت هذه القبور ذات أحجام هائلة، ولكنها بقيت لغزاً من ألغاز حضارة أُور .

يعتقد بعض الباحثين أن سر هذه المقبرة العظيمة جاء بعد ملحمة "جلجامش"، فبعد موت صديق الملك " أنكيدو"، أراد الملك البحث عن فلسفة الوجود وعُشبة الخلود، ولكن عُشبة سامة أدت إلي موت جماعي، ولكن العلماء الأنثربولوجيين والمؤرخين والأدباء رفضوا هذه النظرية، وفشلوا في فهم خطوط الشفرة المكتوبة  باللغة الأكادية القديمة ليحتفظ التاريخ بسر حضارة أور كلؤلؤة  نفسية مدفونة في بحر الظلام .

الكثير من قد يعتقد  أن الحرب علي العراق بسبب الأسلحة والإرهاب، أو أي شئ مثل هذا الهراء، ومن يؤمن بهذا فهو لا يعيش علي الأرض مطلقاً .. الحرب علي العراق كان هدفه  سرقة مخطوطات وآثار العهد الأول من الأرض يحتوي علي كنوز ومعارف وعلوم لم نسمع بها من قبل، وهذه  أسرار تتنافس عليها دول العالم اليوم .

عاشت الأمم وحضارات عدة في بلاد ما بين النهرين، كالسومريين، والأشوريين، والكلدان، والبابليين، هذه الحضارات اندثرت، لكن آثارها ما زالت باقية، فبينما نتدافع نحن العرب في القتال الطائفي والمذهبي من جهة، واختيار أجمل صوت في برامج المخدرات الرقمية للعقول من جهة ثانية، تتدافع دول العالم العظمي لفهم آثار وحضارات بلادنا العربية ونقل علومها الخفية ومخطوطاتها الأثرية لبلادهم والوصول إلي حضارات تقنية عالية .

قدرت هيئة الاثار العالمية القيمة المادية لآثار العراق بأضعاف ما يمتلكه العالم من أموال، بينما تقدر القيمة العلمية والمخطوطات السرية برقم لا يمكن الوصول إليه مطلقاً، والجزء الآخر للدمار في ظل انشغال عربي بالبرامج الترفيهية والحفلات الموسيقية، فعندما يري الطامعون أننا في ثبات إلي يوم غير معلوم، لم يتوقف الأمر في العراق فقط، وهذا ما حدث من قبل لفلسطين، ومن بعد لسوريا واليمن .

 

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط 

........................

1-  هبو، أحمد، تاريخ الشرق القديم (2) بلاد ما بين النهرين (العراق)، صنعاء، 1996.

2-مارغرون، جان كلود، السكان القدماء لبلاد ما بين النهرين وسورية الشمالية، ترجمة سالم سليمان العيسى، دمشق، 1999.

3-لويد، سيتون، اثار بلاد الرافدين من العصر الحجري القديم حتى الغزو الفارسي، ترجمة محمد طلب، دمشق، 1993.

4-شاروني، صبحي، فن النحت في مصر القديمة وبلاد ما بين النهرين دراسة مقارنة، بيروت 1993.

5-مدينة أور المخفية من التاريخ، القصة العجيبة ولغز مقبرة الملوك الخمس الخفية بالعراق.. يوتيوب..

6- مدينة أور المخفية من التاريخ، القصة العجيبة ولغز مقبرة الملوك الخمس الخفية بالعراق.. يوتيوب..

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم