صحيفة المثقف

السلطة وحدود الجسد

سامي عبد العالتمثل السلطة فائضَ قوة ذات بدائل متعددة لملءْ الفراغ  بين الواقع والخيال. بكلماتٍ واضحةٍ تحاول كلُّ سلطةٍ إشعار ممارسيها ومتلقيها بعدم وجود أي فراغ من الأساس. فهي ضد أيَّة فجوة تراها خطراً على كيانها العام. ولذلك فقد تغمض السلطة عينيها بعض الأحيان عما يتحرك في محيطها الافتراضي، ولكنها لا تغفل إطلاقاً قدرتها إزاء الذوات، وربما لا يهمها سوى تلك الفاعلية دون اعتراضٍ من قُوى أخرى. وبهذا المضمون، ستحمل السلطة امكانيات بالقوة أكثر منها بالفعل، لأنها تضع أقدامها الخفية فيما هو متوقع وممكن داخل الأفراد والجماعات.

أمَّا الجسد فهو طاقات إنسانية تتجلى في معانٍ وأفعال، وهذا ما يجعل السلطة تتحسّب له لإعادة انتظام وجوده بحسب أهدافها. وإذا كان ذلك صحيحاً في مجالٍّ معين، فلعلَّه أقرب إلى الصحة في المجال السياسي، وبخاصة مع دلالات الجسد كمقولة ثقافية نشطّة على صعيد اجتماعي. لأنَّ السياسة صنف من هندسة السلطة التي توزع الأجساد وفقاً لممارسة الأدوار ضمن خريطة المجتمعات. هي ترسم كيفية الفعل وماذا ينبغي على الاجساد أن تتلقاه إزاء الآخرين وإزاء الكيانات المعنوية في المجتمع.

ولذلك على مستوى الفعل، لم يهدأ الصراعُ بين الجسد والسلطة، رغم اتفاقهما في كثيرٍ من الوجُوه. فكلاهما يتعلق بأفكارٍ مثل: (الوسيط، التحول، السر، العلامة، الذاكرة، الفعل، الوشم، الرمز، الصورة، الشعار، السريان، الشبح، الظل)، فالسلطة وسيط وأسرار في ذاتها، سر تؤثر به على نطاق أكبر من الحقيقي. ولعلَّ ذلك قد ورثته من تاريخ الأساطير والسرديات الشعبية، لأن الجانب غير المحدد فيها أكبر من الواضح. وكذلك الجسد في حالات الممارسة الاجتماعية يُكّون ذاكرة وعلامة وحركة كما أن فكرة الأشباح تعطيه وجوداً مضاعفاً مع عمليات الخيال ... إلى أخر تلك المعاني.

بهذه الأفكار يزاحِم الجسد والسلطة أحدهما الآخر داخل ثقافةٍ تحدد إلى أي مدى سيمارس الإنسان حياته ووظائفه. وهذا هو "مَوطِّئُ الأثر" لأيَّةِ علاقاتٍ بينهما، ويؤكد معاني حضورهما المتبادل (أي قد يصبح الجسد سلطة والسلطة جسد)، إذ اعتبره الاثنان صِراعاً قاسياً إلى الداخلinterior  منهما. إذن يبدو السؤال متاحاً: أيهما يقنن الآخر ويرسم حدود عالمه؟! لأن رسم المسافة بينهما تتطلب معرفة ماذا يجري وبأية أوضاع يكون الجسد وبالتالي تكون السلطة والعكس.

في هذا الإطار يعدُّ "تاريخُ الجسد هو ذاته تاريخ السلطة " نزاعاً حول فضاءٍ لن يتقهقر خلفاً، هو فضاء الحرية. جاءت نتيجته تطورات سياسية نحو استقلال كيان الإنسان، ولذلك كانت الحرية تعني وجود الفعل الأنثروبولوجي للإنسان عبر التاريخ. فمع توتر العلاقة بين ما هو "جسدي وسلطوي"، ثمة إنسانٌ يُقاوم إفرَاغ كيانه من الحياة. يخشى إزاحةَ وجوده الهش دون أنْ يلامس شيئاً، لأنَّ السلطة كامنةٌ في خفاءِ المجتمعات إلى حدِّ القبول الساذج بلا وعي. إذ تمارس السلطة احتواءً ناعماً soft تجاه أي جسدٍ متمردٍ (عام أو خاص)، تنحو إلى تشتيت وحدتَّه واستنزاف طاقاته(= القمع بصوره الثقافية). بالمقابل قد يُحدِث الجسدُ داخل هيكل السلطة اضطراباً، فوضى(=الحراك السياسي)، فغرائز الكتل البشرية وتطلعاتها لا تخضع لمنطق واضح ويصعب التحكم فيها. ودوماً في حالة الثورات السياسية يكون الجسد هو المؤشر للتأثير في الواقع كما في المظاهرات والحشود الثورية.

وفردياً في الأنظمة السياسية، قد يتوَّحد الجسد بالسلطة في هيئة حاكم ديكتاتور يري نفسه بحجم العالم، ويجعلها حِزاماً رخواً من شهواتٍ تستنفد مجالها العام. لأن الجسد عندئذ يقف داخل قوى السلطة ولا يسمح بأي انفصال بينهما. أيضاً قد تتصف السلطة بأوصاف عضويةٍ حسية: تجُوع، وتفتك، وتلتهم وتزأر وتفترس (= حيوان الثقافة)، بالتوازي يتسلَّط الجسد ويضربُ ويُعنِّف، ويتحرش، ويزاحم، ويتعقب، ويراقب، ويقرع أجراسَ الترهيب للآخرين.

أساس المشكلة

تاريخياً، يتولَّد هكذا استفهامٌ فلسفي مزدوجٌ:

أولاً، هل استطاعت السلطةُ كقوةٍ مهيمنة تشكيل جسدٍ إنساني ما، صادفَ الزمنُ أنَّه موجود بوضعٍ معينٍ ( تبعاً للاهوت والأسطورة والتراث الثقافي والأنثروبولوجيا)؟ ومن ثمَّ سينتج الجسدُ معالمها (أي القوة) في فضاءاته، حيث تتعين السلطة بوسائل مؤثرةٍ اجتماعياً، أي السؤال دوماً عن تعامل السلطة مع الجسد، وبأي معنى تنحت صورته وفقاً لقوالبها الجاهزة كما يحدث في الايديولوجيات الدينية والسياسية.

ثانياً، عكس ذلك، هل تُوجد للجسد سلطةٌ في ذاته انفكاكاً من القيود؟ وبالتالي- كما سنوضِّح - لماذا تبدو ثمة فجوة (بين السؤالين الآنفين)؟ وبأية صيغةٍ هي فجوة تُلخص طبيعة الجسد وتحولاته وقدرتنا على تغيير دلالاته؟!

المشكلةُ من ثمَّ ليست في تحديد هوية الجسد ( ذكراً أم أنثى أم خنثى أم صاحب توجه جنسي sexual orientation) وليست كذلك في ابراز التأثيرات الجانبية للسلطة، لأنَّ تشكيل الجسد في ذاته هو البصمة الوراثية السابقة على هذا. إنَّ جيناتَه الثقافية genes cultural الراجعة إلى تحديد أنطولوجي تعدُّ أكثر جذرية. حيث كان هناك  تراث لاهوتي- وجودي كوَّن السلطةَ ولم يُفلتها عبر الأبنية الاجتماعية. وبلغ الوضع أنْ استحوذ تراث كهذا على الكيان البشري منتزعاً وجوده في العالم. ولأنَّ الجسد الإنساني هو أخص شعور حي للفرد التصاقاً بأناه، فلم تتركه أية سلطة وشأنه. وعندما أرادت السلطة التعامل مع الأنا، كان عليها إمساك مساراته الجسدية بحكم الخلفية الثقافية التي تفتحها.

وبخاصة أنَّ الأسئلة المذكورة ترتبط بماهية الجسد (لا هويته الجنسية)، وستأتي تحولاته في حياتنا المعاصرة على صعيدها تحديداً. أي غدا الجسد الآن مسرحاً لانعكاس تقنيات طبية وعلمية وفنية اسهمت في تشكيله، مثل الهندسة الوراثية وكذلك السينما والأجساد الافتراضية. الأمر الذي سيحد من قوة السلطة على فرض هيمنتها بسهولة. وهو ما سيجعل الأنوثة والذكورة على سبيل المثال مع " الجسد الافتراضي" ثنائية غير مهمةٍ، وأنَّها قد تكون مفتعلة أحياناً، أهميتها كامنة في كونِّها أداة عنف ثقافي لوأد المرأة في رداء اجتماعي. بينما الجسد الراهن- كما بالواقع الرقميdigital reality مثلاً - سيطرح تكويناً فائق الغرابة من الجنس الأنطولوجي للمشكلة نفسها. فمبررات التصنيف لثنائية الذكورة والأنوثة مجرد قشرة للجسد واستعمالاته، لكن انفجار طبيعة الجسد ذاته(افتراضياً- عضوياً) يحتم انفجاراً لأية قشور، ويؤدي إلى ترتيب جديد لأوضاع الجسد ومحمولاته الثقافية.

لقد أبقت ممارسات السلطة على البعد البيولوجي للإنسان ولم تعبأ بتحولاته الثقافية، ومن ثمَّ فإنَّ إخماد فاعليته (مثلما تفعل الأنظمة السياسية) لا يتم بمجاراته ثقافياً، إنما بالتعامل البيولوجي معه ككائن يحمل نقيض حياته (غريزة الموت). وهي غريزة اشتغلت عليها السلطة لإيجاد مضاد ثقافي لما هو بيولوجي، أي نشر ثقافة التخويف والعنف والقمع والمراقبة والترهيب. لكنها تناست أنَّ جسد الإنسان (بيولوجيّاً) دخلت عليه تغيرات من جنس الثقافة والمعارف المتقدمة، لدرجة تأكيد اندماجهما (البيولوجيا والثقافة) لدى العوالم الإلكترونية والوسائط الديجيتال. وبينما تعمل مفاهيم السلطة على خلفية "الجسم" لا الجسد، فقد أظهرت تطورات الذكاء الاصطناعي استحالة ارجاع الجسد إلى خانة الجسم مرة أخرى.

تُراث الجسد

وردت خلفية المشكلة في تاريخ الإنسانية عبر فكرة التَّوحُد بالطبيعة- كما في الثقافات الشرقية القديمة- لالتماس القوة واعتبارها الملجأ الذي يزود اجسامنا بالأسرار والإمكانات المطلوبة لمواصلة الحياة. ووردت أيضاً بشأن القوى الخارقة للأجسام حيث عبرت الأساطير عن وجود آلهة بأنصاف بشرية وبرؤوس حيوانية (الحضارتان الفرعونية واليونانية).

إنَّ الرسوم الجدارية في معابد الفراعنة تحمل صوراً تخلط بين البشري والحيواني. وربما كانت الفكرة غريبة بالنسبة إلى المشاهد، لكن الحياة بينهما متصلة من زاوية أبعد. لأنَّ القوة المقدسة تحمل الجانبين طبقاً للخيال البشري، وهو خيال حسي أكثر التصاقاً بالجسد وتداعياته. وبالتالي سيكون الشكل الهجين للآلهة من جنس العمل مباشرة.

ثمَّ مع تطور مسيرة البشرية، ارتبطت الفكرة راهناً بصور النجوم العابرة للثقافات والجغرافيا: مثل رجال السياسة والاعلام وقادة الحروب ورموز الفنون ونجوم الرياضة والمودة والأزياء. حيث اختفى "المسخ الأسطوري" للجسد ليحل معنى العبقرية والإتيان بشيء فائق الوصف وتسجيل الأرقام القياسية. والآن أصبح الجسد كرَّاساً عولمياً للأرقام القياسية (كموسوعة جينيس للأرقام القياسية) لتدوين طاقات وألعاب وأفعال فوق المألوف.

لكن في ضوء ازدواج السلطة والجسد، أليس هذا يفترض مصدراً متعالياً (إله – طبيعة – مثال- تطور- نمط حُكم) وراء القضية؟ ... وإذا كان الأمرُ كذلك، كيف تكون للجسد سلطةٌ ما؟ وإذا لم يكُّن كذلك، فبأي معنى تُعطى أهمية للجسد بحد ذاته؟ كيف ينتج الجسد معانيه عبر الممارسات الإنسانية؟ وما هو مصادر الثراء في تجاربه الحرة على مستوى السياسة والاجتماع؟ والأهم: هل ذلك يستوجب ترويضه في أنظمة ثقافية تستوعب طفراته أم أنَّه فوضوي، ثائر، خارج التوقُع؟

علماً بأنَّ ثمة دلالةً للسلطة لا تأخُذها إلاَّ في حدود الممارسات الثقافة، وهي دلالة التأثير الرمزي الذي يصلح لانتظام موضوعاتها وفقا لنسقٍ ما يخدم أغراضها، بينما الجسد الأن هو "التكملة المتخيلة" لما هو بيولوجي (الجسم) عبر الثقافة. أي أنَّ (السلطة + الجسد) يؤديان دوريهما ضمن الحياة الإنسانية احاليَّاً أحدهما إلى الآخر. وهاجس اللغة كما يشير رولان بارت لا يغيِّب المعنى اللغوي الوجودي، فالجسد آتٍ من التَّجسد، وهو الأثر الباحث عن سواه وهو أيضاً المتأثر إذ يمارس عملاً يعكس نمطَ العيش. إنَّه استعارة وجودية existential metaphor تملأ الفجوة بين الواقع والمأمول، ويصير الجسد وسيطاً يقف وراء الإحساس بامتلاء مجالات الحياة.

الفكرة أنَّ احتكار السلطة بواسطة اللاهوت والأساطير (وأحفادهما) كان يعقبه احتكار (واحتقار) عمومي للأجساد، إذ يطلب منها القيام بأعمال معينةٍ بحكم الخضوع لإملاءات خاصة. وأنَّ تحرر السلطة من عنف الأسماء المفارقة كان تحرراً للجسد أيضاً بواسطة حرية الأفراد وتوافر فرص الحياة الكريمة واختيار ما يليق بالإنسان وزيادة الوعي. فجسدي الحر هو الشرط الرمزي لوجودي الاجتماعي والسياسي، وله كامل الأنشطة التي تحقق خيالاً اعيش واتصرف به. وسأجد الصدى مواتياً فيما عليَّ نيله من حقوق داخل حدود المجال العام وممارساته بدءاً بالفرد وانتهاء بالدولة.

إنَّ الجسد ككيان ذكي يستشعر وجود السلطة ومراقبتها، وكانت الثقافة امتداداً لتك الفكرة. وهو ما اتاح للثقافة أن تعتبر الجسد منتمياً إليها أكثر من أي مجال آخر، فما نخاف منه ونراه إكراهاً تمَّ الاعتراف بكونه حدوداً يجب ألاَّ تعترض الإنسان. فالخوف أساسه الألم والإيذاء الذي يلحق بنا والتضييق على حرية الاجساد، لكنه أخذ اشكالاً غير جسدية مثل القوانين التي تمنع الاعتقال التعسفي ومنع التعذيب بالنسبة للدولة الراهنة. ولذلك يتشوف كل جسد لاكتساب قدرات خاصة يحد من سطوة السلطة وملاحقتها، أو يرسل إشارات إلى أنه لا يمتثل للنمط السائد من الهيمنة سواء أكانت هيمنة اجتماعية أم ايديولوجية.  وإذا كان الجسد يتمرد في مساحات قريبة من حركته الخاصة، فإنها يظل يخاطب السلطة العامة بطرف خفي لأنها لم تنساه. كما أن الجسد ثقافيا يمثل مصفاة لكل شوائبها التي لن تخطئه بحال. فكل قوانين الدول وممارساتها السلطوية تفترض جسداً بشكل أو بآخر، فطالما تظل الأخلاقيات قابعة في القوانين سيكون الإنسان متجسداً في هيئة معينة تستحق المتابعة ثواباً وعقاباً.

 

سامي عبد العال

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم