صحيفة المثقف

في المنفى.. هل نعرف الحب؟!!

يسري عبد الغنيعندما نفي أحمد شوقي إلى أسبانيا، منفاه الاختياري، طلب أن يصاحبه في نفيه ولديه (حسين ) و(علي)، ولم يطلب اصطحاب السيدة زوجته معه إلى أرض الغربة والنفي .

وقد نفي شوقي قبل سعد زغلول، وكلاهما متعاصران في مجتمع واحد، له تقاليد وعادات وأعراف واحدة، وكلاهما تزوج زواجًا تقليديًا، بلا حب، أو هيام، أو غرام، أو عشق، ولكن الطباع تختلف، والرؤى كذلك .

كذلك نفي الوزير والشاعر، ورب السيف والقلم، وباعث الشعر العربي من مرقده في العصر الحديث / محمود سامي البارودي، بعد فشل الثورة العرابية سنة 1882 م، ودخول الإنجليز القاهرة، ومحاكمته مع رفاقه العرابيين، محاكمة ظالمة، نفي إلى جزيرة (سيلان) أو (سرنديب) أو(سيرلانكا)، ولكنه هو الآخر لم يصطحب معه زوجته، ولكن لم يكن ذلك بحر إرادته، بل بإرادة الاستعمار الإنجليزي الذي لم يسمح له بذلك .

مكث البارودي، أول من أطلق عليه لقب أمير الشعراء في أدبنا العربي، والذي أطلق هذا اللقب عليه الأمير المناضل / شكيب أرسلان ـ أمير البيان، مكث في منفاه الإجباري سبعة عشر عامًا، قال البارودي فيها أروع قصائده، يبثها شكواه وحنينه إلى الوطن الأم، ويصف كل ما حوله من مظاهر الحياة والطبيعة، ويراسل الأدباء، ويرثي من مات من الأهل والأصدقاء والمعارف، كما أنه تعلم اللغة الإنجليزية في منفاه، وهي لغة أهل سرنديب المستعمرة الإنجليزية في تلك الآونة، وقد ساعده ذلك على قراءة الأدب الإنجليزي، والصحف الإنجليزية التي كانت تصل إلى الجزيرة .

نفس الأمر بالنسبة لشوقي، حيث كان يتردد على المكتبات الأسبانية، ويعب عبًا من التراث الأندلسي، ويزور الآثار الأندلسية، وقد انعكس ذلك على شعره بعد عودته من المنفى .

ولكن البارودي، مع طول النفي، أورثه النفي السقام والعلل، فكف بصره، وضعف سمعه، ووهن جسمه، ونضح شعره بالعذاب والألم، واشتد على البارودي وطأة المحنة حين خطف الموت ابنته (سميرة)، وزوجته، والعديد من أصحابه، ثم زوت في كيانه الزاوي رجفة أو قل خفقة روح حين صدرت الأوامر بالعفو عن العرابيين المنفيين , فرجع إلى مصر المحروسة، سنة 1900 م، ولكن المنية لم تمهله طويلاً، فأسلم الروح راضيًا مرضيًا عند ربه، في شهر شوال سنة 1322 هـ = شهر ديسمبر سنة 1904 م، ولكن البارودي كتب عن وفاة زوجته، ووفاة ابنته، أعذب الألحان، وأجملها .

وقد جدد البارودي كذلك في غزله الشعري، فلم تعد المرأة مجرد دمية يلهو بها، ويتفنن في وصف جمالها الحسي، كما لم يعد الحب عند البارودي مجرد متعة جسدية يصورها في عري وابتذال، بل سمت نظرته إليها، والتمس فيها متعة الروح، ونعيم القلب، ومجد معنوي جعل الحب السحري النقي الصافي يهذب النفس ويصقلها، ويصل بها إلى أجواز الفضاء .

كما فطن البارودي إلى الجمال المعنوي وراء الظاهر المادي المبتذل، وعندما توفيت السيدة / زوجته، وهو في منفاه، فرثاها بصدق شديد، ويبدو من دراسة حياة البارودي أنه كان له زوجة ثانية، أ, أنه تزوجها بعد عودته من منفاه في سرنديب، لأن هذه الزوجة الثانية قامت بطبع ديوانه الشعري بعد وفاته، إلى أن وصلت إلى قافية حرف (الميم)، وكان رب السيف والقلم قد تفرغ لضبط أشعاره، وتبويبها، وشرح ألفاظها الصعبة، أو الغريبة، حتى تكون معدة للنشر، إلا أن الأجل لم يوافيه حتى يطبعه، فتولت السيدة / زوجته طباعته على نفقتها الخاصة .

إلا أن وزارة المعارف العمومية المصرية (التربية والتعليم الآن) تولت بعد ذلك طبع ديوان البارودي كاملاً، بمقدمة مهمة مفيدة، كتبها الدكتور / محمد حسين هيكل باشا، والتي من قبلها بسنوات كتب مقدمة ديوان أمير الشعراء / أحمد شوقي (الشوقيات)، والتي أرى أنه يجب أن تكون هي المعتمد في أي دراسة نقوم بها عن أمير الشعراء، مع كل الاحترام و التقدير و التوقير للطبعات التي جاءت بعد ذلك ولأصحابها .

 

بقلم: د. يسري عبد الغني

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم