صحيفة المثقف

الموت كوسيلة للتحرر.. قراءة في كتاب جديد

حاتم حميد محسنان جوهر الحياة الروحية لا يمكن العثور عليه في النيرفانا او في العالم الآخر وانما في الاعتراف المتبادل بان هذه الحياة هي هدفنا النهائي. من بين جميع الأديان، تتمتع البوذية بالاحترام الأكبر والشعبية العالية بين اولئك الباحثين عن انموذج "للحياة الروحية" يتجاوز الدين التقليدي. حتى الملحد البارز سام هاريس لجأ الى التمارين التأملية للبوذية في كتابه الذائع الشهرة "إستيقظ: مرشد للروحانية بدون دين". هذا يمكن فهمه، عندما يصبح بالإمكان استخدام التأملات البوذية وبتأثير أكبر لغايات علمانية. وعلى نحو خاص، كانت هناك نجاحات في تبنّي مختلف أشكال التقنيات التأملية للعلاج بالمعرفة بالاضافة الى الأشكال العملية للتدريب الرقيق. اذا كنت تتعلم أساليب التأملات البوذية لمثل هذه الأغراض العلاجية – او ببساطة لأجل امتلاك المزيد من القوة والطاقة – عندئذ انت تتبنّى تلك الأساليب لمشروع علماني.

حينذاك ستكون منخرطا في ممارسات تأملية كوسيلة للوصول الى الهدف في تعميق القدرات للاهتمام بالآخرين وتحسين نوعية الحياة الخاصة. ان الهدف من الخلاص في البوذية، هو لكي نتحرر من الحياة المحدودة ذاتها. فكرة الخلاص هذه تتكرر في الأديان العالمية، لكن في العديد من التيارات البوذية هناك مصداقية عالية بشأن مضامين الخلاص. بدلا من الوعد بان حياتك سوف تستمر، او انك سوف ترى من تُحب مرة اخرى، فان خلاص النيرفانا ينطوي على الانقراض. الهدف ليس لكي تقود حياة حرة، مصحوبة بألم ومعاناة، وانما لكي تصل الى "فهم" بأن المسؤولية الذاتية هي وهم سيذوب في أبدية النيرفانا. ما يهم في النهاية هو تحقيق حالة من الوعي لم يعد فيها يهم أي شيء، وبذلك يمكن للمرء الرقود في سلام.

إستنتاج البوذي ربما يبدو متطرفا عندما يُعلن عنه بمثل هذه الطريقة، ولكن في الحقيقة هو يجعل ما هو ضمني صريحا في جميع افكار الخلاص الأبدي. وبعيدا عن جعل حياتنا هادفة، فان الخلود سيجعلها بلا معنى، طالما لن يكون لأفعالنا أي هدف. هذه المشكلة يمكن تعقّبها حتى ضمن الاديان التقليدية التي تعتنق الايمان في الحياة الخالدة. في مقالة صدرت عن مجلة الكنيسة الكاثوليكية الامريكية كتبها احد المتدينين: تسأل: هل "النعيم الأبدي: سيكون مزعجا؟ المقال يجيب كلا، لأن الأرواح تُستعاد في السماء "ليس لراحة أبدية وانما لفعالية أبدية – إهتمام اجتماعي أبدي". غير ان هذا الجواب فقط يؤكد المشكلة لأنه لا شيء هناك في عالم النعيم يستحوذ على الاهتمام .

2315 الموت كوسيلة للتحررالاهتمام يفترض سلفا ان شيئا ما قد يذهب خطأ او يُفتقد، والاّ سوف لن نهتم. الفعالية الأبدية – تماما بنفس مقدار الراحة الأبدية – هي ليست من اهتمام اي احد، طالما لايمكن ايقافها ولا تتطلب المحافظة عليها من جانب اي كان. المشكلة هي ليست ان الفعالية الأبدية ستكون "مزعجة" وانما هي سوف لن تكون مفهومة كفعالية . اي فعالية (بما في ذلك الفعالية المزعجة) تتطلب المحافظة عليها. في الفعالية الأبدية، لا وجود لفرد منزعج لأن الفعالية الأبدية لا تعتمد على منْ يحافظ عليها .

لذلك فان الخلاص الأبدي ليس فقط لايمكن الحصول عليه وانما ايضا غير مرغوب لأنه يلغي الرعاية والعاطفة التي تنعش حياتنا. ما نعمل وما نحب يهمنا فقط لأننا نفهم انفسنا كاناس لنا حياة فانية. ذلك الفهم الذاتي كامن في كل أفضلياتنا والتزاماتنا العملية. السؤال حول ما يجب فعله في وقتنا – وهو السؤال الذي يشكل قضية في كل ما نعمله من اشياء – يفترض سلفا اننا نفهم زماننا باعتباره متناهيا.

ولهذا، فان الموت هو شرط المسؤولية والحرية. لكي تكون حرا لايعني ان تكون ذو سيادة او متحررا من كل القيود. وانما، نحن احرار لأننا قادرين على ان نسأل انفسنا ما ينبغي القيام به تجاه زماننا. كل اشكال الحرية – حرية التصرف، الكلام، الحب – هي مفهومة كحرية فقط بمقدار ما نكون متحررين في الانخراط بالسؤال حول ما يجب فعله في وقتنا. لو نحن اُعطينا ما يجب ان نفعل، وما يجب ان نقول، ومنْ نحب – باختصار، لو اُعطينا ما يجب فعله في وقتنا – سوف لن نكون متحررين.

ان المقدرة على طرح سؤال حول ما يجب فعله في وقتنا هو الشرط الاساسي لما نسميه الحرية الروحية. لكي أقود حياة روحية حرة (بدلا من حياة مقررة فقط بالغرائز الطبيعية)، يجب ان أكون مسؤولا عما أعمل. هذا لا يعني القول انا متحرر من القيود الطبيعية والاجتماعية. انا لم اختر الولادة مع المحدوديات والقدرات التي معي. كذلك، انا ليست لدي السيطرة على من يقدّم الرعاية لي، ماذا فعلوا لي ولأجلي. عائلتي – والسياق التاريخي الأكبر الذي وُلدت فيه – هما اللذان صاغا حياتي قبل ان أتمكن من فعل أي شيء تجاهها.

وكذلك بالنسبة للأعراف الاجتماعية تستمر في الإبلاغ عن منْ تكون شخصيتي وما يجب عليّ فعله تجاه حياتي. تلك الاعراف الاجتماعية لم اخترعها انا وهي التي تحدد شكل العالم الذي أجد فيه نفسي، بدونها سوف لن يكون لدي فهم حول منْ أكون وماذا أفعل.

مع ذلك، انا مسؤول عن التمسك او التحدي او نقل هذه الأعراف. انا لست مقررا بالصدفة من جانب الطبيعة او الاعراف وانما أتصرف في ضوء الاعراف التي استطيع تحدّيها ونقلها. وحتى لو كان ذلك على حساب بقائي البايولوجي، او رفاهيتي المادية او موقفي الاجتماعي، انا استطيع ان اعطي حياتي لأجل مبدأ اعتنقه بنفسي او لأجل سبب انا اعتقد به. هذا المعنى هو الذي يقود الحياة الروحية. يجب دائما ان نعيش في علاقة مع فنائنا الحتمي – والاّ لن تكون هناك أية خسارة في تكريس حياتنا لأي شيء.

لذلك، فان أي شكل من الحياة الروحية يجب ان يتحفز بالقلق من الفناء، حتى في أعمق انجازات طموحاتنا. قلقنا قبل الموت لا يُختزل لظرف سايكولوجي يمكن او يجب التغلب عليه. بل، القلق هو ظرف للوضوح او الفهم لأجل قيادة حياة حرة وكوننا ملتزمين بحماس. بما ان حياتنا تهمنا، نحن يجب ان نتحفز بالقلق من ان زماننا متناهي، لأن البديل سيكون عدم وجود إلحاح للقيام بأي شيء او ان نكون أي كان.

حتى لو كانت الخطة ان نقود حياتنا بدون قلق سايكولوجي قبل الموت – على سبيل المثال عبر التأمل البوذي – تلك الخطة تكون واضحة فقط في اكتمال الخلود، لا سؤال هناك حول مايجب علينا فعله في حياتنا. نحن سنكون غارقين في النعيم الى الابد ولهذا سنكون محرومين من أية مسؤولية ممكنة. بدلا من امتلاك علاقة حرة مع ما نعمل وما نحب، سنكون مضطرين بالضرورة للتمتع بذلك.

بالمقابل، نحن يجب ان نعترف اننا يجب ان نكون عرضة للتأثر – يجب ان يطبعنا طابع المعاناة من الألم، الحزن على الخسارة، القلق قبل الموت – لكي نقود حياتنا ونهتم بالاخرين. بهذه الطريقة يمكننا الاعتراف بان حياتنا هي هدفنا النهائي. ما نفتقده ليس النعيم الابدي وانما الاشكال الاجتماعية والمؤسسية التي تمكّننا من ممارسة حياة مزدهرة. هذا يفسر لماذا يجب ان يرافق نقد الدين نقدا للاشكال القائمة لحياتنا كلها. لو انتقدنا فقط الافكار الدينية بشأن الخلاص – بدون السعي للتغلب على أشكال اللاعدالة الاجتماعية التي يستجيب لها الدين – سيكون النقد فارغا ومسيئا للآخر. المهمة هي تحويل ظروفنا الاجتماعية بطريقة يمكننا فيها التخلي عن الوعد بالخلاص ونعترف ان كل شيء يعتمد على تعاملنا مع زماننا المحدود. جوهر الحياة الروحية هو ليس الطمأنينة والهدوء الفارغ للسلام الأبدي وانما الاعتراف المتبادل بضعفنا وحريتنا.

 

حاتم حميد محسن

.........................

المصدر: صحيفة نيويورك تايمز عدد مارس 11، 2019(opinion, why mortality makes us free). مارتن هوغلاند اكاديمي سويدي وبروفيسور في الادب المقارن والانسانيات في جامعة يال في الولايات المتحدة. كتابه (هذه الحياة: الايمان العلماني والحرية الروحية) صدر عن دار panthon في 5 مارس 2019 في 464 صفحة.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم