صحيفة المثقف

موضوعات فلسفية: تحليل نقدي (3)

علي محمد اليوسف(1) العلم / الوعي والادراك

"الى أي مدى يمكننا قبول مقولة  كانط " إكتساب المعرفة ينحصر على نطاق حدسي حسّي وبدون الاحساسات تبقى مقولات العقل الصادرة عن الحواس فارغة " بضوء الأخذ بنظر الإعتبار أن الحواس تضليل للعقل، والحدس يقبل المراوغة التي تفرضها مخاتلة وقصور ملازمة الفكر واللغة في التعبير عن ما ندركه، هل هو صورة ذلك الشيء المدرك أم هي حقيقته كاملة؟.. ثمة تعريفات وردت على لسان كبار الفلاسفة الغربيين ربما تكون مشاعل إستدلال لنا منها:

- ينكر ديفيد هيوم اية قيمة موضوعية للقوانين العامة والعالم الحقيقي لا يقوم إلا على الاعتقاد. ليس غريبا هذا على هيوم الذي ينكر ثلاثة ثوابت قارّة بالفلسفة لا يمكن القفز من فوقها بسهولة هي بتعبير هيوم :لا يوجد عالم مادي خارج مدركاتنا الحسيّة وما ندركه موجود وما لا ندركه غير موجود، ثانيا لا وجود لنظام سببي يحكم ظواهر ووقائع الحياة سبب ونتيجة ، ثالثا لا يوجد ما يعرف بالعقل خارج ماهيته التفكيرية التجريدية فقط العقل هو تصوراتنا عن الاشياء وعالمنا الخارجي.

- الحقيقة الفلسفية بحسب لايبنتيز هي ما يمكننا تحديده بالكامل، ويقصد لايبنتيز بالحقيقة الواقعية المدركة وليس مطلق الحقيقة. كيف نمرر مقولة لايبنتيز بضوء نسبية كل شيء بالعالم الطبيعي والكوني؟ تحديد كامل الحقيقة شيء متعذّر تحققه. أما أن يقصد لايبنتيز الحقيقة الكاملة هي تجربة علمية وليست إدراكا عقليا أخذ تعبير الفكر واللغة عنه فقط فهي وجهة نظر تفرض مقبوليتها قدرات التجربة العلمية وليس قدرات تفكير العقل المجرد.

- المذهب الثنائي الديكارتي يقوم على وجود جوهرين فقط هما العقل وماهيته التفكير، والمادة وماهيتها الإمتداد والحركة. وهذا تعبير يدخل مجال فيزياء العلم  وفيزياء المعرفة الفلسفية على السواء. وما يترتب على هذا المعنى أن إحساساتنا الإدراكية ليس بمقدورها الفصل بين حقيقة الشيء في وجوده المادي عن حقيقة الشيء في تصوره التجريدي الذهني.

- كل وعي إدراكي بحسب سيلارز شأن بدايته اللغة. هنا يقصد سيلارز بالوعي العقلي للمادة تفكيرا إستبطانيا داخل منظومة العقل الإدراكية، واللغة تعبير صوتي عن موجودات المادة خارجيا، وتفكير اللغة وعيا إدراكيا لاصوتيا صامتا داخليا. صحيح جدا الوعي هو تفكير عقلي لكنه في مجال الفلسفة يكون الوعي قريبا من علم النفس السلوكي أكثر منه قربا من تجريد الفلسفة كمنطق لغوي.

- ينكر وليم جيمس أنه يوجد شيء حقيقي يسمّى (الوعي) على صورة مادة أو جوهر، موضّحا الواقع الوحيد الذي نعتمده هو التجربة في سياقها يكون كل شيء، وكل الذوات العارفة صاحبة الوعي والموضوعات المعروفة. الحقيقة الصادقة عند وليم جيمس"أنها ما يمّثل لدينا الأفضل لإعتقادنا، وليس التمثيل الدقيق للواقع" وصاغ وليم جيمس عميد الفلسفة البراجماتية نظريته بالصدق مفادها أن صدق التصور ليس سكونيا، فالتصّور لا يمتلك صدقه في ذاته. بل صدقه تحدده التجربة التطبيقية في تحقيق المنفعة، ومعنى ذلك المعرفة ليست جاهزة صحيحة في مقبوليتها بل هي إبنة التجربة التي أنجبتها. كما والصدق عند وليم جيمس هو صدق التصور أو الفكرة التي حمولتها منفعة في التطبيق، فكل نافع حق وصادق وكل ما هو غير صادق وزائف هو الذي لاينفعنا بالحياة.

(2) الفكر والحركة

يتفرّد هوبز فيلسوف عصر النهضة الاوربية بتعريفه الفكر هو حركة الجسم، بمعنى الفكر هو سلوك عقلي، وليس نتاج عقلي مجردا من واقعه المادي. والفكر هو توليد عقلي في معرفة موجود أو معرفة موضوع. الفكر ربما يكون إمتدادا لفكر سابق عليه، وربما يكون فكر ثالث يليهما وهكذا، لكن العبرة ليست في تناسلية الفكر اللاحق عن السابق بل الأهمية القصوى أن الفكر تكون مرجعيته المادة والوجود المادي حتى قبل إدراك العقل له وتعبير اللغة عنه. وهذا لا ينفي أن خاصّية العقل الجوهرية الاولى هي توليده الافكار التي ليست مجردة عن تفسير الواقع المادي لكنها ليست جزءا ماديا غير تجريدي في التعبير عنه.  الفكر يمتاز بالخصائص التالية:

- الفكر تعبير عن إدراك شيء مادي أوتعبير عن شيء خيالي، وسيلة تعبير الفكر عن نفسه خارجيا هو اللغة الصوتية المسموعة حوارا أو المكتوبة  قراءة. وتعبير الفكر عن نفسه ذهنيا هو لغة تصوّرية مركوزة بالذاكرة التي تعي موضوع الفكر الذي تختزنه فيها.

- الفكر توليد عقلي بمعنى الفكر يعبّر عن وعي قصدي يتمّثل هذا الوعي بسلوك الانسان ضمن مجتمع يحتويه. وميزة الفكر المستمدة من العقل أنه تعبير عن شيء مادي أو موضوع خيالي والفكر لا يخلق تعبيره اللغوي من فراغ ولا يعبّر عن لا معنى له. والفكر شأنه شأن اللغة تعبير عن تجريد لشيء مادي أو موضوع من الذاكرة..

- الفكر حلقة مهمة في سلسلة حلقات المنظومة الإدراكية للعقل لكنه لا ينوب في تمثيله عن حلقات أخرى داخل هذه المنظومة الإدراكية العقلية. فالفكر ليس هو الذهن، كما أن الفكر ليس هو الوعي، كما أن الفكر ليس هو الذاكرة، وأخيرا الفكر هو لغة غير مفصحة عن نفسها.

- الفكر يلازم اللغة الصوتية ولغة أبجدية القراءة إدراكا تصوريّا ولا سبيل للفكر التعبير عن نفسه إلا بواسطة اللغة. إختلاف الفكر عن اللغة رغم تلازمهما الذي لا إنفكاك له هو أن الفكر تفكير عقلي صامت واللغة تفكير عقلي ناطق يلازمه الصوت الذي يفتقده الفكر الذي هو تفكير لغوي بلا صوت حينما لا تعبّر اللغة عنه إفصاحا عن شيء.

- تعبير الفكر التواصيلي وسيلته الوحيدة هي اللغة. فالفكر لغة عقلية. وتعبير الفكر عن شيء أو موضوع بلا معنى هو إستحالة إدراكية يرفضها العقل قبل رفض الفكر لها. فأللامعنى بالفكر يعنى اللامعنى في تفكير العقل.

- الشيء الموجود المادي أو الموضوع الخيالي يكونان ملزمين بتعبير اللغة عنهما، والإدراك المادي للشيء وإن كان سابقا تعبير اللغة إلا أنه في جوهره تصوّر لغوي أخرس صامت، الإدراك إحساسات لغوية فاقدة لنظام تعبيراللغة التي يصدرها العقل وليس ألتي يستمّدها الإدراك عن الاحساسات. الإدراك من غير مرجعية العقل واللغة لا قيمة حقيقية له.

- شرط الفكر الاول هو إمتلاكه معنى وتعبير لغة عن هذا المعنى، وإلا أصبح الفكر هلوسة لامعنى لها ولا تمتلك لغة تواصلية مفهومة. واللغة لا تمتلك حقيقتها المضمونية بدون فكر يلازمها يحمل معه حمولة معناه عن شيء أو موضوع.

الشيء والمعنى:

بحسب امبرتو ايكو الشيء الصحيح هو الذي لا يمكننا شرحه، ومعنى العبارة تحمل تاويلين الاول أن الشيء الذي لا يحتاج شرحا هو الشيء البديهي في الادراك مثل أي شيء برتقالة قلم كتاب وهكذا. أو أن الشيء الذي لا يحتاج شرحه هو الشيء أو الموضوع الذي وصل حد الإشباع في عدم إمكانية إضافة فائض معنى لغوي عليه يمكن يستقبله. تطابق المفردة التعبيرية عن شيء مادي هو يديهة لا تحتاج برهان التحقق منها.. الموضوع الذي تقف اللغة عاجزة عن إكتمال المعنى في تعبيرها عنه هو ثابتا نسبيا ومطلقا متغّيرا.

السؤال الذي يتبادر للذهن لمن الأسبقية في الإنقياد وليس الأسبقية الموجودية الانطولوجية الموضوع أم لغة التعبير عنه؟ من ناحية الوجود فموضوع الفكر الإدراكي في وجوده المادي يكون أسبق على تعبير اللغة عنه، أما من ناحية الانقياد فاللغة تقود الفكر الإدراكي ولها الإسبقية.

الفكر الإدراكي للاشياء سيرورة من التغيرات والتطورات المتجددة على الدوام، ويكون متجددا في الوجود غير المتحقق المعّبر عنه لغويا، بمعنى الفكر المادي يتطوّر أسرع من لغة التعبير عنه التي تلاحقه على الدوام. لذا الفكر يختلف عن اللغة بأنه لا يمتلك خصائص هوياتية ثابتة بخلاف اللغة التي تكون هويتها في مجمل قواعدها ونظمها النحوية الخاصة بها كلغة تحكمها بها..

(3) النص وفائض المعنى

نص التاويل في حفريات اللغة لا يمكن أن يكون له هوية لغوية بملامح ثابتة، ولا يمكن للنص أن يكون لغة محايدة لدى المتلقي. كما ولا ألفهم الإجتزائي يكون تعويضا عن مدّخرات اللغة في حمولة التاويل المتعددة غير المحدودة.

التأويل اللغوي اللامحدود يعبّر عنه توردوف " مؤلف النص كاتبه يأتي بالكلمات ليأتي القراء بعده بالمعنى " بمعنى تاويل النص هو عملية تشظ متتالية تنعدم فيها المركزية في مرجعية النص، فالمركز التاويلي هو إمتداد الفهم التفكيكي عند دريدا في الغائه المركزية المرجعية التي يدور في فلكها الهدم والتقويض وعند بول ريكور في ملاحقة فائض المعنى في التأويل، عليه تكون بصرف النظر عن الأخذ الحرفي بإسترتيجية التفكيك ومدى إمكانيتها تحقيق نجاحها ولا تاويلية بول ريكو ومدى نجاحها ولا حتى التحليلية ومدى نجاحها، فهذه التيارات الفلسفية تشتغل على مركزية النص في فلسفة اللغة. وتقوم على ملاحقة حقيقة النص من جهة وعلى حقيقة ملاحقة فائض المعنى اللغوي الذي يحتويه من جهة أخرى. لذا تكون التعددية الدلالية المتعالية بالفهم التاويلي والتفكيكي والتحليلي لا تجمعها ما يطلق عليه امبرتو ايكو كليّة التاويل المركزية التي تستنفد طاقة التاويل في تقويض النص والبحث عن فائض معنى لغوي لم يعد يتقبله ولا يمتلكه النص في تعدد القراءات التذويتية له.. ويعبّر عن هذه الاستراتيجية التاويلية اللغوية ايكو قوله " خلاصة القول التاويل غير محدود في محاولة الوصول الى دلالة أو دلالات نهائية لا يترتب عليها إنزلاقات ومتاهات لغوية لا حصر لها".

علاقة اللغة بالعقل في معنى الخطاب (اللوغوس) عند افلاطون هو الملكة الموّلدة للافكار، وهي عند ارسطو العقل الجوهر الذي به نستدل التعرف على جواهر الاشياء. وعلى النقيض من ذلك نجد ايكو قائلا " النوس بمعنى العقل خطابا في القرن الثاني الميلادي هو ملكة للحدس الصوفي والاشراق اللاعقلاني. ويصبح بعدئذ ملكة الرؤية المباشرة والعفوية ولا يعود الكلام والنقاش والحجاج من الامور الضرورية ".

لم يكن افلاطون مجانبا الصواب إعتباره العقل موّلدا الافكار، وفي مقاربة لديكارت من رؤية افلاطون يصف ديكارت العقل جوهر ماهيته التفكير. ولم يكن ارسطو مخطئا في تعبيره العقل وسيلة معرفة جواهر الاشياء. هنا يتوجب توضيح اشكالية مفهومية عالقة :

- ارسطو في إسناده مهمة العقل تعريفنا الجواهر وليس الوجود بما هو موجود أخرج مثالية افلاطون المتعالية من مطلق توليد الافكار الى مجال توظيف العقل معرفيا ابستمولوجيا، أي أنه أخرج الماهية الجوهرية للعقل من الافكار المجردة الى معرفة الواقع كما هو موجود في مدركاتنا الحسية.

- الاختلاف الثاني هل كان افلاطون يدرك أن معرفة جواهر الاشياء بدلالة العقل مبحث ميتافيزيقي لا يمكن التحقق منه من حيث أن جواهر الاشياء ليست محسومة لصالح البحث عنها حقائق تلازم الموجودات والاشياء في الطبيعة.

- من المفارقة حقا أن نجد ارسطو المادي يسقط في المثالية في السعي وراء معرفة الجواهر المشكوك بأمرها كموجودات يدركها العقل بدلالة وجودها. علما أن سبينوزا في مذهب وحدة الوجود قال الوجود يمكن معرفته بدلالة الجوهر يعني هو عكس التعبير الفلسفي الدارج أننا ندرك الجوهر بدلالة وجوده في شيء مادي. ، بل نعرف الوجود بدلالة الجوهر في وقت إستقتل فيه اسبينوزا إثبات أن الموجودات تمتلك جواهر مستمدة من جوهر واحد هو الله الذي لا يدرك. كما وأن هذه الجواهر لا يمكن ادراكها من حيث الجوهر خالق للوجود وليس مخلوقا منه.

- الإشكال الاخير هو ليس كل معارفنا كما يرغب ارسطو نستمدها من معرفتنا جواهر الاشياء في حين ذهبت في وقت غير متأخر كلا من الوجودية والماركسية والبنيوية في خوض غمار حجاج فلسفي حاد بينهم يرتكز على أن ما يدركه العقل من صفات تغني البحث عما وراءها لمعرفة الجوهر غير الموثوق يقينا في وجوده في تكوينات الاشياء.

نخلص من هذه العروض الى أن مستويات التفكير العقلي تحدده الغايات القصدية التي من المتاح تحققها. ومن غير الصحيح أو الذي لا يمكن إثبات صحته تحميل العقل وظيفة ابستمولوجية واحدة، فالعقل طاقة الانسان المتمركزة به. وتعدد وجهات النظر المتباينة والمختلفة لا يلزم عنها بالضرورة تشتيت وإلغاء القصديات التي يرغب العقل تحقيقها. قصدية الهدف لا يلزم عنه قولبة المنهج في بعد قصدي معرفي واحد. ونختم عن موضوع التاويل المتشّظي لا يحمل مركزية ولا هوية ثابتة، فالتاويل سيرورة يلزمها على الدوام لغة مسايرة لها تستوعبها وتحتويها. وهذه السيرورة نصل ذو حدين فهو لا يمنع الضياع في متاهات وإنزلاقات غير محسوبة نتيجة إمتلاك إستراتيج التفلسف التاويلي فضاءات واسعة، فالتاويل اللغوي لا يحمل تلك اليقينية التي تعجز عنها اللغة وتتوقف عن إضافة معنى متجدد من القراءات التي لايمكن إيقافها عند حد.

(4) العقل والوجود

دعونا نرجيء قليلا عرض بعض الفقرات الفلسفية لرائد فلسفة العقل الانجليزي جلبرت رايل 1900- 1976. حين كانت مقولة ديكارت راسخة منذ القرن السابع عشرمفادها العقل جوهر غير فيزيائي ماهيته الجوهرية التفكير. والعقل جوهر لا مادي ليس له معايير تحققه غير الفيزيائي كجوهر مستقل ميزته الخلود بعد فناء الجسم... اما تعريف العقل في الفلسفة الحديثة فهو متشّعب من حيث هو إستعداد للسلوك كما يعبر عنه فيلسوف العقل الانجليزي جلبرت رايل، والعقل ميزة خصائصية يمتلكها عقل الانسان فقط على أنه سلوك ذكي غير بهيمي، يدرك ذاته ويدرك موضوعه ولا يكون موضوعا إدراكيا لغير حامله. والعقل جوهر موجود لا فيزيائي خالد بعد فناء الجسم.

لنا التوضيحات التعقيبية التالية :

- العقل بالمصطلح العلمي في علم وظائف الاعضاء حين يكون ماديا فيزيائيا وعضوا يحتويه الجسم فهو بهذا المعنى لا يكون جوهرا خالدا بل موجودا فانيا بملازمته فناء الجسم عضويا.

- العقل خصيصته الماهوية التفكير هو تجريد ذكي مستقل يسعى بلوغ الخلود، وبهذا المعنى يكون العقل أقرب الى النفس منه الى الجسم، لتلازمهما العقل والنفس صفتي الذكاء التوليدي للافكار ، وصفة عدم فناء العقل كنفس تلازم فناء الجسم.

- لا يمكن صناعة عقل آلي يزاحم إزاحة العقل البشري لعدة اسباب منها فقدان قابلية التوليد الابتكاري الذكي في الآلة، وكذلك عدم امتلاك العقل الآلي النفس العاطفية أو الروح. وقدرة العقل الصناعي على الحوار يكون محدودا بجملة من التعبيرات التي يكون في مجاوزتها لها يعني انعدام النظام في السلسلة التنظيمية بالتفكيرالعقلي.

- العقل بالمفهوم الفلسفي إشكالية تختلط بها فيزيائية تكوين العقل كأحد أعضاء جسم الانسان وبين لافيزيائية العقل التجريدية كفكرولغة تعبيرية. ولما كانت ميزة العقل هي الوعي الذي هو جوهر غير فيزيائي، فكيف يدرك العقل اللافيزيائي عالم المادة والموجودات في الطبيعة وحوله ؟ وقد أطلق الفيلسوف الاميركي جوزيف ليفني على هذه الإشكالية مصطلح (الفجوة التفسيرية).

- أنكر فيلسوف العقل المعاصر جلبرت رايل1900- 1976 في كتابه الموسوم (مفهوم العقل) مقولتي ديكارت الراسختين لثلاثة قرون وهما: اولا العقل جوهر غير فيزيائي ماهيته توليد الافكار، والثانية أن العقل هو المصدر الوحيد في تزويدنا بالمعارف التي نحتاجها.

من المهم التنبيه الى أن الباحث الفلسفي الاكاديمي المصري صلاح اسماعيل أشار نقلا عن فيلسوف العقل الانجليزي  جلبرت رايل أن هذا الاخير انكروجود العقل – وهذه مقولة سبق لديفيد هيوم أن قالها في أنكاره العقل – سواء أكان العقل جوهرا فيزيائيا أو جوهرا لا فيزيائيا. كما أن رايل أدان بحجته أن وظيفة العقل مصدرنا الوحيد في إكتسابنا المعارف قائلا : في الوقت الذي يكون العقل مصدر توليد الافكار وتطوير اللغة وهما أسمى خاصيتين يمتاز بهما إلا أن العقل ليس جوهرا قائما بذاته منفصلا عن الجسم كما يقول ديكارت. بل هو إستعداد للسلوك الذي تديره فلسفة العقل في توجيها تعبير اللغة الحفاظ على هذا السلوك الانساني المنتظم. وسخر رايل من إعتقاد الفلاسفة الراسخ المستمد من ديكارت أن العقل هو مصدر معارفنا الابستمولوجية التي أضاعت قرونا طويلة من تاريخ الفلسفة بالركض وراء سراب خادع لاقيمة له. وأعطى رايل البديل المنطقي الفلسفي أن العقل بضوء فلسفة اللغة والتحول اللغوي ونظرية المعنى، اصبحت معها وظيفة العقل الفلسفي هي تزويدنا بالمعنى اللغوي الذي هو سلوك بشري بالحياة.

(5) ماهو العقل؟

ربما تكون مفاجئة مدهشة لنا تثبيت قول جلبرت رايل (العقل لاشيء ابدا).

منطلق مقولة رايل هذه هو نتيجة ازدهار فلسفة اللغة والتحول اللغوي ونظرية المعنى أنها  أصبحت الفلسفة الاولى في النصف الثاني من القرن العشرين وتراجعت أمامها معظم مباحث الفلسفة التي دامت قرونا طويلة تكرر الدوران غير المجدي وراء مبحث الابستمولوجيا في اعتباره الفلسفة الاولى. وأصبح رايل الانجليزي في مقدمة الفلاسفة الاميركان الذين أخذوا عنه تطور اللغة والتنقيب فيها عن فائض المعنى هو نظام سلوكي بالحياة مصدره الوحيد اللغة وسيلة العقل الادراكية. من هذا التوضيح السريع نستنتج :

- العقل جوهر لا فيزيائي يمّثل ملكة توليده الافكار واللغة.

-  العقل سلوك معرفي وليس معرفة ابستمولوجية.

- العقل جوهر لا يرتبط بالنفس وليسا خالدين بعد فناء الجسم.

خاتمة

نرى إنتاجية العقل للمعنى في مركزية فلسفة اللغة، تجعل من جوهرالعقل مشروع حضور زائل حتميا غير خالد ولا مفارق لفناء موت الجسم. والعقل جوهر لغوي لا يتسّم بالثبات ولا بالخلود. وفي تعبير كواين "السلوك اللغوي هو فهم المثير كسبب، والاستجابة اللغوية نتيجة ذلك السبب." وأن نظرية المعنى في فلسفة اللغة هي الفلسفة الاولى، ولم تعد فلسفة الابستمولوجيا مبحثا اساسيا في مباحث الفلسفة المعاصرة الغربية.

يتبع لاحقا ج4

 

علي محمد اليوسف /الموصل

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم