صحيفة المثقف

باثولوجيا الحداثة.. كيف تُعتّقَل المجتمعات؟

سامي عبد العالكما أفرزت "الحداثة الغربية" فكرة الاستعمار (فيما يسميه كلود ليفي شتراوس اشباع مركزية أوروبا تجاه ذاتها القابلة للاتساع)، انتجت أيضاً على نحو متأخرٍ مفارقة الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين. فالقوى الكبرى مثل الحيوانات العملاقة تحتاج كميةً ضخمةً من الطعام الحي لتعيش. وهكذا ظلت خريطة الشرق هي الإمكان المحتمل لعلاج اتساق الامبراطوريات الاستعمارية إذا أصابتها لعنة التناقض الحضاري مع مبادئها (اضمحلال الغرب: أزوالد شبنجلر وأزمة العلوم الأوروبية: هوسيرل). بمعنى أنَّ أوربا خلقت المسألة اليهودية (القتل والاضطهاد والإبادة الجماعية لليهود كأزمة إنسانية - أخلاقية)، ثم أفرغت وأزاحت كلَّ ذلك خارجها في فلسطين كتعويض تاريخي وكنوع من علاج أوروبا لأمراضها الحداثية.

وتباعاً أغفلت أوروبا جرائم اسرائيل بشكل مقصودٍ، لأنَّ فاعلاً للمسألة لن يضحي بالابن الضال (دولة اسرائيل) حتى لا ينكشف أمره، وأنها (أي أوروبا) تاريخياً بمثابة (السبب والنتيجة) معاً. وعليه فلن تنتهي مشكلة فلسطين بين يوم وليلةٍ، لأن التاريخ يحتاج إلى قانون من جنسه حتى يتغير. أي على العرب أنْ يدخلوا التاريخ الكوني صانعين وجودهم السياسي والحضاري بقوةٍ، حتى يغيروا المعادلة.

ليس لأنَّه" لا يفل الحديد إلاَّ الحديد" بمنطق الأعراب الأقحاح لإشعال الصراع، بل لكون الحضارة الإنسانية هي التي تدعونا لحلحلة كافة المشكلات وتمكننا من الظهور على خريطة الأحداث وإدارتها. فمثل هذا الفعل يحدونا أولاً وأخيراً إلى صناعة الحياة لأنفسنا وللآخرين. ورغم أنه شرط واسع المجال بما لا يُحد لقضايانا الإقليمية، إلاَّ أنه يجعلنا مصدر حماية وحرية إنسانية أقوي من الحروب، وفي النهاية يؤدي الغرض نفسه سواء أكان لفلسطين أم لغيرها من مناطق وجودنا في العالم.

 هذا البُعد للمسألة يجري انتاجه في علاقة الإسرائيليين والفلسطينيين وجودياً، ويفسر الوجه المظلم من الحداثة الغربية ولماذا تحول إسرائيل خريطة فلسطين إلى (مستنقع عنف دائم الوحل). وليس هذا فقط، بل تترتب عليه كافةُ الأصعدة الأخرى، فعلى (الصعيد السياسي العام) بين مجتمعي الاحتلال (اسرائيل) والمُحتَّل (فلسطين)، ليس العنف ممارسةً إزاء مواقف عابرةٍ، ولا هو وليد تجربة احتكاك بين أطرافٍ ترفض التعايش المشترك. لكنه محصلة ممارسات وتجارب وحقائق تتراكم جوانبها بمقدار ما تعيش المجتمعات إحساساً بالقهر والعجز عن دفع حياتها إلى الأمام. مما يُولِّد ضُغوطاً وردود أفعال أكثر إثارةً لغرائز العدوانية والكراهية وانتهاك الخصوصيات والعلاقة السوية بين الأفراد.

عندئذ يتحول أفراد المجتمع المُحتَّل (الفلسطينيون) من نظام إنساني مستقل- أو هكذا يُفترض- إلى قُمقم مظلمٍ لا أمل بالخروج منه، شاعرين أنهم تحت رحمة الآخر وتحت وسائل قمعه المتواصل، وأنَّه لا خلاص سوى بالاستجابة العنيفة لحركة تروس تلك الآلة الجهنمية على صعيد السياسة والظواهر العامة والحركة نحو الغد.

هذا بالضبط ما فعلته وتفعله دولة إسرائيل يومياً (وتاريخياً كآلة احتلال حداثية) إزاء الفلسطينيين. مما يثر أسئلة كثيرة: ما مدى شرعية ممارسة العنف غير المباشر على مجتمع بأكمله؟ هل يجوز لدولة تزعم أنَّها دولة (بالمواصفات السياسية الحداثية) أنْ تعتقل مجتمعاً فارضة علاقاته بالعالم الخارجي وفقاً لرؤيتها؟! كيف ستظهر دولة الاحتلال بآليات عنيفة أمام مؤسسات العالم المتحضر؟ أليس ما تمارسه إسرائيل تأكيداً لمستنقع عنفٍ لن تكون بمنأى عنه في يوم من الأيام؟ هل تصدير العنف سيكون سلعة رائجة بالداخل عائدة مرة أخرى إلى موطنها الأصلي؟!

 إنَّ تأسيس إسرائيل بأدواتها العنيفة ليس صدفة هبطت من المجهول. لكن اتساقاً مع ما سبق، جاءت اسرائيل (مسمار جحا الإقليمي) في بيت العرب المتهالك والثري، لقد غدت مفتاحاً للتحكم في المنطقة العربية وهي الطريق الملكي لثروات العرب بالتطبيع مرةً وبالشركات الخفية المتجاوزة للحدود مرةً وبالخدمات الإقليمية لمراقبة الأوضاع مرات أخرى، كأن اسرائيل مسبار لجس نبض الأوضاع واستطلاع الأحداث المحتملة. وهي في غير حالةٍ ورشة سياسية عابرة للجغرافيا لأية خطط تجاه العرب ورسم الاستراتيجيات المحتملة.

فلم تحدث حروب بالمنطقة كحربي الخليج الأولى والثانية مثلاً والتحالفات الإقليمية المصاحبة لهما إلاَّ وكان لإسرائيل دور فيها. وهو ما حدث بالمثل في أحداث الربيع العربي والعمليات العسكرية على الأرض هنا أو هناك. لعلَّنا نلاحظ أيضاً أنَّ دولة الاحتلال بمثابة تفريغ عولمي للعنف في منطقتنا العربية بما يخدم مصالح القُوى الغربية. ولندقق أكثر أن المصالح تؤدي في النهاية أدواراً ترسمها تلك القوى. حتى أن العنف الأبيض (الناعم) الذي تمارسه دولة إسرائيل كجهاز قمع بمثابة البديل لما يجعل لها وجوداً فعلياً في المنطقة. كل ما يحدث أنَّ إسرائيل تلتهم ببطء وعلى نحو تاريخي كل ما ينتمي إلى فلسطين!!

العنف الأبيض (الناعم) white violence ليس معناه عنف بلا ضحايا ولا أنياب. لكنه يتم استراتيجياً بتكتم شديد ويجري طوال الوقت دون مبارحةٍ ويسدد أهدافه بالاعتياد والسرية. إذ يظل الإسرائيليون يترصدون الفلسطينيين: ليلاً ونهاراً، مساءً وصباحاً، نوماً ويقظة، شباباً وأطفالاً، رجالاً ونساءً، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً. ولو تمكنت إسرائيل– وهذا ليس مستبعداً- من اختراع آليات وتقنيات لمراقبة مشاعر الفلسطينيين وحواسهم وخيالهم لفعلت على الفور. حتى تضمن التحكم في هذه "الكائنات المطبوعة بالمقاومة الصلبة التي لم تستطع إسرائيل وضع برنامج بيولوجي سياسي للحد من توجهاتها وتطلعاتها المشروعة فوق أراضيهم.

 والعنف الأبيض أيضاً يتم بلا آثار كبيرة على الأرض كأنه جريمة بلا آثار تذكر وإن كانت نتائجه التاريخية البعيدة مدمرة ومجنونة، لأنه يعوق مجتمعاً فلسطينياً عاماً بكامله، شعباً بتراثه ومستقبله من أن يبني ذاته ويعيش حُراً. وقد صمم العنف من هذا النوع على استنزاف قدرات وبيولوجيا الفلسطينيين. بمعنى أن هناك تكريساً للأزمات والأمراض والاحتقان المتواصل والتضييق الخفي والاحتجاز المباشر لعناصر الشعب. والقصد بهذا هو التحكم عن بعد في طاقات الشعب الفلسطيني وأن يكون التحكم على مساحة أكبر من الجغرافيا والتاريخ.

 والأدق أن العنف الناعم يصمم ذاته بطريقة تتوقف على مقاومة الضحايا له وأن يمسي مشابهاً لوسائل حياتهم. فالتململ والتمرد والوعي من قبل الفلسطينيين أشياء ستُلاقى بمزيد من الإحساس بالقهر. ووضع العراقيل ولتوصيل فكرة العجز وترسيخها لدى الطرف المقابل، حتى يشعر المقاومون أنَّ الموضوع ليس بعيداً عن أعين الآلة العنيفة التي تترقبهم. كما أن ذلك العنف يحول قدرات المقاومين لصالح الجلادين الصهاينة. فإذا كان المقاوم لديه مساحة من الحرية والتحرك كانت تلك المساحة معطاة ومقننة للضحايا على ألاَّ يتجاوز ما أُعطي له وشريطة أن يضع ما لديه من طفرات تحت مراصد سياسية تتنبأ بالمستقبل.

 والأكثر دهاءً أنَّ عنفاً إسرائيلياً ناعماً يحول الفلسطينيين إلى موضوع، مفعول به. أي لن يكونوا إلاَّ ردود أفعل تحتاجها إسرائيل لإظهار دمويتها واعتدائها. فلو ألقى المقاوم حجراً، حصاةً لأخذتها وروجتها وسائل إعلام صهيونية بوصفهاً حرباً ضروساً على شعب الرب الأعزل (شعب بني اسرائيل). والموضوع (الفلسطينيون) دوماً تحت ضغوط لا تغادره لكونه خاضعاً لآليات وشروط من خارج ذاته. عليه أنْ يبقى متأثراً ومحدوداً ولا يبدي أيَّ تغيُر دون قبول من القوة العنيفة المهيمنة.

في هذا الإطار تأتي القوى الخارجية (أمريكا وأوروبا) لغسل العنف الإسرائيلي. حيث تعلن صباحاً ومساءً أن دولة الرب تدافع عن نفسها، بل لها الحق كل الحق في أية ممارسات لإشعار مواطنيها بالأمن. وفجأة تتقيح الحالة اليهودية في أوروبا مرة أخرى- بعدما ظلت هادئة كبركان خامد - طافحة في أرض فلسطين. وبالتالي تتنادى الهيئات والمنظمات الدولة في تأييد إسرائيل واعتبارها تجسيداً لنعمة إلهية نالها الشعب اليهودي بعد المذابح وأعمال النبذ والإهانة التي ارتكبت بحقه في أوروبا.

لكن ما علاقة ذلك بالموت البطيء للفلسطينيين؟ هل تحقيق الكرامة لشعب إسرائيل أنْ يُدمر شعب آخر لا يقل إنسانية عنه؟ ما علاقة النكبات التاريخية لليهود بالشعب الفلسطيني؟ ما هي مسؤولية الفلسطينيين تجاه قضايا اليهود بأوروبا؟ وكيف يتجمل المجتمع الفلسطيني (رهن الاعتقال) مسئولية أوروباً عن أفران الهولوكوست؟ هل القانون والأعراف الدولية تقول بوضع مجتمع بأكمله في فرن إسرائيل عوضاً عن أفران الغاز بأوروبا؟! ولماذا يحول تأسيس دولة لشعب الرب دون دولة للفلسطينيين فوق تراثهم وذاكرتهم وحول أجسادهم العامة؟ لما يباح قتل الفلسطينيين وإمراضهم بينما تطبب إنسانية أوروبا إرهاق اليهود ومشكلاتهم يومياً؟ كيف تتوازن المعايير التي تتعامل بها أوروبا إزاء شعبين (قاهر، عنيف هم اسرائيل) ومقهور ومقموع (الفلسطينيين)؟!

 هنا أكدت سياسات الغرب الأوروبي والأمريكي على ما يلي:

أولاً: تمديد حالة العنف الإسرائيلي بواسطة تعليق البت في قضايا الشعب الفلسطيني. وربما من المرات البارزة التي تناقض فيها مبادئ الحداثة الغربية ذاتها وتعلن أنها محجوزة سلفاً لصالح ذيول القوى العظمى (إسرائيل)، وأنَّ الحداثة كما أنتجت الاستعمار ونهب الثروات وإستحمار الشعوب الشرقية تواصل المسيرة الغربية في قهر الشعب الفلسطيني وإذلاله كآخر حالة استعمارية مستعصية. وهذا التباطؤ مقصود لأن المشكلة في قارةٍ (مشكلة اليهود والحداثة التي أفرزتها) والحل في قارة أخرى (ابتلاع فلسطين ) بينما يحتاج الحل الاستعماري الجديد إلى جرائم متواصلة تتغافل عنها أوروبا لتقوم بها إسرائيل. إن الحل نفسه هو عملية التأجيل القاتل لمشكلة الشعب الفلسطيني حتى يمكننا التنبؤ بأنه مشكلة لن تنتهي بالقريب الآجل على أفضل تقدير. لأن صانعي المشكلة ( الغرب + اسرائيل) هم القضاة والجلادين والمهيمنين ولن يكون دور فلسطين سوى تمرير كارثة الحداثة الغربية تاريخياً.

 مجتمع فلسطين هو الضحية الأكبر بالنسبة لأوروبا والغرب، وأنَّ مفارقة الحداثة المشار إليها مفارقةٌ يقوم عليها النظام العالمي بأدواته الاقتصادية والسياسية والاستعمارية حتى اللحظة. في ضوئها نُهبت قارات خارج أوروبا وخربت مجتمعات وأعيدت بناء عليها حدود الدول وصناعة الإرهاب لخدمة مآرب كبرى في الدوائر العولمية لكوكب الأرض. بعد هذا التاريخ الأسود، كيف ستُحل مشكلة فلسطين إذن؟ إنها مشكلة ثقافية وحضارية تحمل ميراثاً ضخماً أكبر من محيطها؟

ثانياً: باستمرار لا تكف دول الغرب الأوروبي والأمريكي عن مسح آثار الجرائم الإسرائيلية، لكونها تدرك أنَّ إدانتها هي إدانة لتاريخ الغرب ذاته ولتاريخ أسطورة الحداثة. التاريخ الذي ظل طوال مسيرته يخلق مستنقعات من العنف كي يُطهر مجتمعاته وكي يجد موضوعات لهيئاته ومنظماته الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان والقوانين التي لن تعالج شيئاً. إن إسرائيل "نموذج جيو سياسي" لعملية تطهر ملوثة بكافة الجرائم التي ارتكبها الغرب الاستعماري الحداثي. والمدهش أن اليهود اقتنعوا بتلك الأكروبات التاريخية وبتلك العملية الشاملة التي تتخلص من نفايات الحداثة في شكل مجتمعات معتقلة خارج أوروبا.

 وكلما ارتكبت إسرائيل (ابنة الحداثة الأوروبية) جرائم حرب، تنهض المنظمات والهيئات الدولية (ابنة الحداثة ذاتها) إلى تبرئة الابنة الأولى بمنطق الابنة الثانية. وليس ثمة تناقض من أي نوع بين الابنتين الشقيقتين لأب واحد. ولذلك فإن أية صراخ قانوني وحقوقي داخل منظمات القانون الدولي هو صراخ في الأذن الخطأ، وفي الوقت الخطأ وفي التاريخ الخطأ ولن تسمع سياسات الغرب شيئاً إطلاقاً لأن الفاعل لن يرحم المفعول وإلا لفقد وظائفه وآثاره. هناك إرادة غير واعية لكنها مقصودة لتكريس حالة العنف وتصب فيه جميع كناسة النفايات الدولية وتنزح إلية المياه الراكدة حتى يصبح بؤرة لخطط وألاعيب وحيل عولمية قابلة للاستعمال.

 من تلك الجهة تعتبر حالة المجتمع الفلسطيني والإسرائيلي حالة قابلة للتكرار بأدوات أخرى. وقد لجأت إليها أمريكا في بعض الدول العربية من خلق (مستنقعات عنف) على مستوى أخف قليلاً. لكنه كاف لانتهاك سيادة الدول وامتصاص دمائه الحيوية من النفط والثروات والعقول والقدرات والطاقات الطبيعية مثلما جرى في العراق وسوريا وليبيا.

 من جانبها فهمت إسرائيل هذه الوضعية كأحد إشكال الحداثة مع ذاتها، فكانت تظهر عندما تريد العنف الأسود، أي القتل المدروس والانتهاك الممنهج حتى يقتنع الفلسطينيون بالعنف الأبيض المشار إليه. فإسرائيل تقول لهم عليكم بقبول الاعتقال الراهن لحياتكم، لمصيركم، لقضاياكم، لأفكاركم، لأجسادكم، لمقدراتكم، لخيالكم، لأحلامكم بشكل ناعم ووثير وإلاَّ لتحول الاعتقال إلى اللون الأسود. فيصبح الاحتلال تدميراً لكل ذلك مباشرة وأنه لا حلَّ لكم إلاَّ بالرضوخ إلى الأمر الواقع. والاختيار إسرائيلي معروف تاريخياً ومدعوم من كل قوى العولمة والغرب الاستعماري في جوانبه الحداثية الشرسة كما نوهت.

 ولذلك تحرص إسرائيل من حين لآخر على ضخ كمية لا بأس بها من العنف الوافر (فائض العنف) حتى تحافظ على مياه المستنقع ثابتة وقادرة على إغراق الحقائق وتضييع الحقوق وحفر الأرض تحت الأقدام. وطالما أن الأوضاع تحت السيطرة الدولية والإقليمية، فإن المتضرر في طريقه إلى الانكماش التدريجي ليس بالنسبة إلى الفلسطينيين فقط بل من الخليج إلى المحيط!!

 

سامي عبد العال

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم