صحيفة المثقف

احمد الحاج: لا تكن في السياسة ملكيا أكثر من الملك!!

قبل عشر سنين تقريبا إن لم تخن الذاكرة تلقيت دعوة من أحد السياسيين الراغبين بالترشح لخوض الانتخابات المقبلة وما اكثرهم وكل ظني يومها بأن الموما اليه في نيته اصدار صحيفة اسبوعية، نصف اسبوعية، أو مجلة شهرية، أو اطلاق وكالة انباء يومية يريد التباحث بشأنها من باب الاستشارة الاعلامية ليس الا، ولربما يريد أن يستشيرني بشأن حملته الانتخابية المرتقبة من الناحية الاعلامية كذلك وكنت سأرفض قطعا لو كان العرض الأخير سبب الدعوة لأنني وببساطة والحق يقال ولا داعي للف والدوران وهذا رأيي الشخصي" لا اؤمن بالديمقراطية البرلمانية لأنها في الشرق المسمى بالاوسط عبارة عن هربجي وفوضى عارمة لا اكثر ..وبشكل اقل في النظام الرئاسي، والا فالملكية الدستورية هي الحل الاسلم لبلد كالعراق والمنطقة - بلا نظام جمهوري، بلا برلماني، بلا وجع راس - وهذه هي وجهة نظري الشخصية ولا أود نقاشها ولا فرضها ولا تسويقها ولا الجدال بشأنها مطلقا مع اي كان لا سلبا ولا ايجابا "، كنت قد أعددت مسبقا لائحة بأخلاقيات العمل الصحفي وضوابط تحرير الصحف والمجلات ووكالات الأنباء مهنيا من غير تحيز ولا تعصب ولا إنفعال ولا تملق،فهذه كلها من مفسدات الصحافة وجائحاتها الفتاكة التي تصيبها بمقتل - اقول العمل مهنيا ولا أقول حياديا - لأن ليس في الصحافة حيادية مطلقا ..خذها مني رأس مال،ولكن والجميع يعلم ذلك أن هناك فرقا شاسعا بين انحياز عقلاني وآخر صبياني، تماما كالفرق بين حيادية وأخرى،فهناك حيادية منصفة وحيادية متخاذلة، ولعل من ابرز الاخلاقيات المهنية ان لاتكون الوسيلة الاعلامية اياها بوقا لأحد - لأن الكل في هوى السياسة سواء -، وان تكون عراقية ووطنية، وان لاتثير الفتن الطائفية والعرقية والدينية ولا تقلب المواجع - ذاك ان العراق ليس بحاجة الى مشاكل جديدة وما من الفتن والكوارث والمحن يكفيه وزيادة، وان تهتم بمشاكل المواطنين بالدرجة الاساس من زاخو الى الفاو،وان تركز على وحدة العراق ارضا وشعبا، وتواظب في الدعوة على تحسين معيشة العراقيين، وبناء مستقبلهم، تحسين تعليمهم، صحتهم، خدماتهم، صناعتهم، زراعتهم، تجارتهم،آثارهم، ثقافتهم، وان تهتم بالطبقات المهمشة وذوي الدخل المحدود والمرضى والمسنين وسكنة العشوائيات، وما شاكل، وبالفعل فقد تم اللقاء وبعد مرور عشر دقائق كلها عبارة عن مجاملات - سخيفة ...شلونك عيني شلونك، شمحلي على عيونك، اي بعد شلونك ..وترن ترن حيث استكانات الشاي ..وشكو ماكو ...الخ " واذا به يفاجئني بأن الدعوة لاعلاقة لها لا بصحيفة ولا بمجلة ولا بوكالة انباء ولا بحملة انتخابية وجل ما في الامر انه منزعج من جهة سياسية ما يخشى منافستها له في الانتخابات المقبلة ويريد تحشيد الصحفيين لصالحه ضدها .. وابوك الله يرحمه ..الحقيقة لقد صدمت لا لأن ظني قد خاب بالدعوة جملة وتفصيلا فحسب لالالا ..وانما لأنه قد أخطأ بالعنوان أولا، ولأن الجهة السياسية التي كان يحشد ضدها اعلاميا هي من نفس قوميته، ومن ذات طائفته، وتسكن في عين مناطقه، ومن نفس ملته، بل ومن مدرسته الفكرية كذلك، وتعمل وتفكر وتسير في ذات توجهه وعلى نفس منهجه، فحاولت ان أحرف الموضوع قليلا لأستفزه تماما كما استفزني بهذا الطلب العجيب والغريب كليا وبخلاف جميع التوقعات وقلت " طيب وماذا عن غرمائك التقليديين ممن تخالفهم سياسيا وطائفيا وقوميا و عشائريا وفكريا ومناطقيا وايدولوجيا ..هل هؤلاء قد تكفلت بهم كلهم لتتفرغ فقط الى حلفائك وملتك وقوميتك وطائفتك ؟ قال " لابالعكس هؤلاء أرقى ناس وأحلى ناس والطف ناس وشرهم مأمون ! قلت حسبك، دعني افكر وأرد لك الجواب لاحقا، فخرجت منزعجا أيما إنزعاج مازال يتجدد كلما تداعت الى ذاكرتي الحبلى تفاصيل ذلكم اللقاء المشؤوم، ولم أرجع اليه البتة " الا ان قناعة ترسخت لدي لحظتها بأن " المعلن في الاعلام شيء، وما وراء الكواليس شيء آخر تماما،فمن تظنهم اعداء في الظاهر قد يكونوا حلفاء في الباطن، ومن تعتقد بانهم حلفاء في العلن لربما هم اعداء في السر، وعلى قول الرصافي :

لا يخدَعنْك هِتاف القوم بالوطن..فالقوم في السر غير القوم في العَلَن

ونصيحة اخوية اقدمها للجميع،يتوجب على الصحفي ان لايحشر نفسه في خلافاتهم ولا في مصالحاتهم فكلاهما - فالصو - وقد تتبدل خارطتها كليا بجرة قلم " فلا صداقات ولا عداوات دائمة في السياسة، وانما مصالح دائمة" كما تقول الحكمة،واضيف لها من باب المقبلات "وأوامر من دول عظمى ..دائمة !" .

فمن يتابع ما يحدث حول العالم ومنذ ترشيح بايدن للرئاسة الاميركية والى يومنا مدى تغير خارطة التحالفات في العالم وبشكل عصي على الفهم، حتما سيصاب بالذهول فاغرا فاه، ضاربا اخماسا بأسداس، لاسيما في المحيطين العربي والاقليمي، فبعض هذه التحالفات والخصومات قد انقلب رأسا على عقب، فصار العدو في زمن ترامب صديقا في زمن بايدن، وصار الصديق في زمن ابو كذيلة،عدوا في زمن بايدن ولم يخرج من المولد بلا حمص سوى الصحفيين والنشطاء والمحللين - وشلون محللين عدنه، يتفلسون على التمن - ممن كانوا ملكيين اكثر من الملك كما تقول الحكمة ..!

فمن كان يحشر نفسه - عاطفيا وليس عقلانيا ولا تحليليا ولا منطقيا ولامهنيا - بين البصلة وقشرتها في ليبيا فقد خرج مذموما مدحورا لم ينبه سوى ريحتها كما يقول المصريون في امثالهم الدارجة، وذلك بعد الاتفاق الاخير بين جميع الاطراف وازاحة كل القوى السابقة من المشهد برمته حيث لا سراج ولا حفتر -فقد اغلق الكتاب وبيض الدفتر -، من دس انفه بين البصلة وقشرتها - عاطفيا - في الخصام الخليجي وصار يعادي السعودية ويؤيد قطر، او يؤيد قطر ويعادي السعودية طيلة اربع سنين متتالية، فقد خرج من المعادلة مذموما مخذولا بعد الصلح بينهما وعلى أعلى المستويات والله يديم المحبة والاخوة والصلح بينهما ..من كان يصطف مع تركيا ضد مصر، او مع مصر ضد تركيا، فقد خرج من المعادلة مذموما مخذولا بعد التقارب بينهما، وهكذا دواليك في من حشر نفسه في الملف اليمني، والملف السوري، والملف الصومالي، والملف السوداني، والملف اللبناني، والملف التونسي، والملف المغربي - الجزائري،عاطفيا وصبيانيا وليس عقلانيا ولامهنيا، وقس على ذلك ما شئت، الخلل هنا يكمن في العواطف الصبيانية الجياشة التي تحركها وسائل الاعلام النافذة والذباب والبعوض والقراد الالكتروني كيفما تشاء ووقتما تشاء وفي اي مكان تشاء، وتبريدها الى درجة الانجماد، بعد تسخينها الى درجة الغليان بصافرة واحدة من الحكم معلنا فيها نهاية المباراة، متى تشاء ايضا، سيقول القطريون اسوة بالسعوديين " نحن اشقاء اولا لأننا خلايجة، وثانيا لأننا عرب، وثالثا لأننا مسلمون، و رابعا لأننا سنة، وخامسا لأننا ملكيون ولسنا جمهوريين، وسادسا بصفتنا ابناء عمومة وبيننا انساب واحساب ومصاهرات ووشائج قربى، وسابعا بصفتنا اعضاء مؤسسين وفاعلين ودائمين في مجلس التعاون الخليجي، وثامنا لأننا جيران، ووو " وبذلك لن يجدوا صعوبة في تبرير الصلح بينهما ابدا لأنه الاقرب للعقل والمنطق والعرف منه الى الخصام، ولكن قلي بربك ماهو موقف من كان يمعمع ويجعجع كثيرا من وراء الحدود وما وراء البحار ليلا ونهارا ولامصلحة ترتجى له في ذلك لتغذية هذا الصراع والاصطفاف مع هذا الطرف او ذاك وبطريقة أقل ما يقال عنها بأنها ساذجة وأحيانا غبية ؟ هذا هو الوحيد الذي خرج من المعادلة برمتها - بسخام الوجه - ليس الا، لأن الكل سيقول له " انا واخي على ابن عمي، وانا وابن عمي على الغريب، انت شنبصك بالنص، وياغريب كن اديب ؟ !

و خلاصة النصيحة وافهمومها يرحمكم الله تعالى " حين يختلف نظامان حاكمان فلا تحاول ان تصير بوقا لأحدهما ضد الآخر بتاتا،ولكن قل الحق ولو كان مرا، قل الحق ولو على نفسك، قل الحق بالانصاف من غير افراط ولا تفريط، فلا تحاول ان تتملق احدهما وتمدحه ليلا ونهارا محولا اياه الى ولي أو قديس، والى - شريف روما - في ذات الوقت الذي تهجو فيه الآخر هجاءا فاحشا وتخرجه من الملة محولا اياه الى شيطان رجيم، هذا تطرف في المدح وافراط في الذم غير محمود ولا مهني، فلا مدحك صحيح ولا ذمك كذلك وكلاهما يجانب الصواب ويتقاطع مع الحقائق على ارض الواقع، والنتيجة النهائية هي ان النظامين سيتصالحان وانت فقط لاغير الخارج من المولد بلاحمص وهكذا عشرات المقالات التي كتبتها في هذا المجال ستذهب ادراج الرياح ..عشرات التقارير الاذاعية والتلفزيونية التي عملتها في هذا الاطار ستذهب الى مكبات النفايات ..عشرات التحقيقات الصحفية التي تعبت فيها في ذات المنحى ستذهب الى الثرامة ..عشرات التبريرات التي سقتها لجمهورك سيتم التعامل معها بشفت ودليت ..إن آثرت الصمت بعدها فسيلومنك متابعوك لسكوتك المطبق المفاجئ بعد جعجعات طويلة، وان واصلت الثرثرة بذات الاسلوب فسيخرسونك ويلجمونك، والحل في ان تكون منصفا في طروحاتك وتحليلاتك وأن لا تنجر الى الزاوية الميتة التي ينوون جرك اليها، وان لاتنساق عاطفيا وراء ما يروجون هم، بل ان تقول وتكتب ماتراه من وجهة نظرك أنت وان كان لايصب أحيانا في صالح من تحب وتدعم منهم، وان لا تتحول الى ملكي اكثر من الملك في أي صراع سياسي بين نظامين حاكمين، ودولتين متنافستين مطلقا - والله يخليك ويطول بعمرك، لاتحاول تقديس احدهما واضفاء صفات الولاية والزهد والورع والتقى عليه ..ارجوك لأن في السياسة الحالية وفي أرجاء المعمورة ليس هناك ساسة اولياء، ولا قيادات احزاب انقياء، ولا زعماء اتقياء الا ما رحم ربك، ارجوك افهم هذه الحقائق، ولأن البراغماتية والقداسوية لايتواءمان بتاتا، واكرر " لاعدوات في السياسة ولاصداقات دائمة، بل مصالح واوامر دول عظمى لتغيير البوصلة وفي اية لحظة ..دائمة " .

فكن منصفا كي لا تعض اصابع الندم، ولكي لا تندم فتكون الخاسر الوحيد في اللعبة، والمهزوم الاوحد في سباق الرهانات ذاك ليدوس عليك الجميع بعدها ويجلسونك على الخازوق بتهمة التحريض وصب الزيت على نار الخلافات بينهما وليحتفلا بخوزقتك سوية ويطلقان الالعاب النارية ابتهاجا بالمناسبة السعيدة، وبقية التفاصيل والقياسات والامثلة والنماذج متروكة لكم لتقييمها على ذات المنوال .

 

احمد الحاج

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم