صحيفة المثقف

يسري عبد الغني: التراث في منارة العلم والمعرفة

يسري عبد الغنيالتراث – ولاشك – هو الكنز الباقي عبر السنين، حتى ترسخت في عقولهم ووجداناتهم ثم أنتقلت إلى عقول من لحقهم على امتداد قرون الحضارة العربية الإسلامية. فهذه الكتابات والمخطوطات هي سجل عصرها ومرآة أحداثه وأفكاره يقف شاهداً على عظمة الأجداد وخيبة الأحفاد قال تعالى "فخلف من بعدهم خَلْف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه.. الآية" (سورة الأعراف آية 169) وأقصد بالتراث كل ما تركه العلماء السابقون من كتابات وكتب خطوها بأيديهم أو نسخها النُّسَّاخ، وحتى ما كان من أفكار طرحوها ودرسوها وقيمه، ومن هنا فهي أحد أهم المصادر التي لا غنى عنها لكل باحث يبحث في أي جانب من جوانب الحياة العلمية أو الاجتماعية أو غيرهما في ذلك الزمن البعيد.

وتراثنا - في الحقيقة – لا يزال مجهولاً بالنظر إلى ما نشر منه، ونعني بذلك ما نشر نشراً علمياً، لا ما نشر نشراً دعائياً، وحتى لو لم نميز بين ما نشر فهو – أيضا – لا يزال مجهولاً حبيسَ خزانات أو بالأحرى مخازن المخطوطات.

وهو –أيضاً- مجهول بالنظر إلى وعينا المعاصر به، سواء كنا نقصد بالوعي الإلمام بأكبر قدر ممكن من المعلومات عن المخطوطات وفهرستها فهرسة دقيقة، أو كنا نقصد به التمعن والتحليل المدقق للأفكار والنظريات، والذي لا ينساق خلف حماسة جوفاء لا مبرر لها فيطرح عن تراثنا وحضارتنا أفكاراً مشوهة لا عقلانية.

وبشكل عام، ودون الولوج في تفاصيل كثيرة تقف خلف هذا الجهل المطبق بتراثنا فإن تراثنا لا يزال مجهولاً، وإن كانت هناك محاولات في الأيام الأخيرة لفض غبار الزمن عن هذا التراث المجهول، لاسيما المخطوط منه. في محاولة لتحريك أفكار وعقول الباحثين الراكدة لدراسة مخطوطات هي الأندر والأقيم في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية ثم الانتقال بتلك الدراسة إلى مجموعات أخرى تليها ثم التي تليها إلخ. وحتى تتوجه أقلام وعقول الباحثين لدراسة القدر الأكبر من تراثنا المخطوط دراسة عقلانية علمية لا دراسة حماسية.

ومكتبة الإسكندرية القديمة كانت منارة للعلم والمعرفة في العالم القديم ومركزاً للإشعاع الثقافي والحضاري وجمعت فوق أرففها لفافات تمثل أنفس وأندر الكتابات العلمية في ذلك العصر، ولا يتسع المقام هنا إلى الخوض في الحديث عن مكتبة الإسكندرية القديمة، ولكن ما يعنيني هنا أن أقوله هو: أنه على ضوء هذه الخلفية الحضارية والثقافية سعت مكتبة الإسكندرية الجديدة إلى أن تكون منارة جديدة تجمع القديم وتتعقله، وتفهم الحاضر فتغيره وتشكله، وتستشرف المستقبل فتشارك في بنائه. ومن هنا جاء اهتمام مكتبة الإسكندرية (الجديدة) بالتراث القديم.

ومن خلال هذا الاهتمام بالتراث القديم فقد حظيت المخطوطات في مكتبة الإسكندرية باهتمام كبير تمثل في إنشاء مركزين أكاديميـين يعزفان بشكل متكامل متناغم على أوتار التراث مقطوعات (تراثية) تنتج في جملتها لحناً تراثياً متكاملاً (فهرسة وتحقيقاً ورقمنة ونشراً) وكل مقطوعة من المقطوعات غير مقطوعة عن سياق العلم الحديث أو منفصلة عن ركب الحضارة المعاصرة.

وكان من ثمار هذا الاهتمام وذلك العمل (العزف) الدؤوب إنجاز الكثير من المشروعات المتميزة في مجال المخطوطات من عمل مجموعات رقمية لبعض المخطوطات النادرة، إلى نشر تراثي متعدد اللغات، إلى جمع واقتناء آلاف المخطوطات المصورة ميكروفيلمياً من المكتبات الكبرى في العالم، وتحويلها إلى نسخ رقمية في إطار مشروع الأرشيف الرقمي؛ وغير ذلك من المشروعات التراثية الهادفة.

 

بقلم: د. يسري عبد الغني

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم