صحيفة المثقف

محمد العربي حمودان: الإسلام والشعر عود على بدء

محمد العربي حمودان إذا كان الشعر فنا من الفنون الجميلة، فإن روح الفن وحقيقته إنما هي ذاك الإحساس العميق بالجمال والتعبير عنه في صورة جميلة، موحية، تهز النفوس وتحرك الطباع.

وإن قارئ القرآن الكريم- هذا الكتاب الذي هو بدوره قمة الفن الأدبي- لايخطئ بصره ولا بصيرته ذلك الكم الهائل من الآيات البينات، التي لا تتوقف عن لفت انتباه عقل الإنسان وإثارة حسه ووجدانه، كي يتأمل الجمال بألوانه المختلفة، المبثوثة في الكون كله من عرشه إلى فرشه.

بيد أن بعض النقاد والكتاب مازالوا يبدئون ويعيدون بخصوص موقف الإسلام من الشعر وهم مصرون على "أن الإسلام وقف موقفا نافيا الشعر ودوره" وأنه" "هاجم الشعر والشعراء " وأن "الإسلام لم يستطع بكل حضوره أن يلغي الشعر" إلا أنه اضطر للقبول به "ليجعله منخرطا في خدمة العقيدة الجديدة"! .

فهل لهذا التصور والفهم من أساس يستند عليه وركن يأوي إليه؟ أم إنه لايعدو كونه كلاما صادرا عن أناس يتلقون معلوماتهم بألسنتهم دونما تحقيق أو تدقيق، فتراهم يقولون بأفواههم، ويخطون بأقلامهم، ما ليس لهم به من علم، أوربما لحاجة في أنفسهم لانعلمها، ولكنهم يعلمونها يقينا.

هذا ما سنحاول ملامسته في هذه الإلمامة السريعة من خلال النص القرآني ذي الصلة، مرورا بالسنة النبوية الشريفة، وسيرته العطرة .

سورة الشعراء

لعل أصحاب الإدعاءات المشار إليها آنفا، إنما يتكئون في دعواهم هذه على تلك الآيات الكريمة الواردة في سورة الشعراء، وهي قوله تعالى: ﴿وَالشُّعَرَاءُ يَتَبِعُهُمُ الْغَاوون.أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهيمُون، وَأَنّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يفعلون.إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا.....﴾ سورة الشعراء الآيات:224-225-226

لكن هذه الآيات وفقا لكل تفاسير القرآن الكريم، قديمها وحديثها لاتفيد هذا المعنى، وقد ورد في تفسير القرطبي أن "الغاوون" هم الزائلون عن الحق ودل هذا أن الشعراء أيضا غاوون لأنهم لو لم يكونوا غاوين ما كان أتباعهم كذلك".وبما أن النص القرآني الذي نحن بصدده قد استثنى الشعراء المؤمنين وأخرجهم من زمرة الغاوين، فإن هذا يجعلنا نقرر بكل ثقة و يقين، أن المقصود بالذم والنكير، هو تلك التصورات والمفاهيم،  التي كان يعتنقها شعراء الجاهلية ويشيعونها بين الناس، وهي قيم متعارضة مع تلك التي جاء بها الإسلام، وبالتالي فهي قيم مرفوضة، سواءٌ أ وردت نثرا أم شعرا، ولكل أمة مرجعية تستحسن من خلالها أشياء وتستهجن أخرى.

أما الإسلام في حقيقة موقفه، فهو لايحارب الشعر والفن لذاته كما قد يبدو، وكما قد يفهم البعض من ظاهر اللفظ، إنما هو يحارب مضامين مسكوبة في هذا القالب الفني، وهذا ما ينسجم مع تلك الحقيقة الكبرى المتمثلة في توجيه القرآن الكريم القلوب، والعقول، إلى بدائع هذا الكون الرائع، وإلى خفايا نفس هذا الإنسان المتفرد، وهذه وتلك هي مادة الشعر والفن.

ولعله من الطبيعي جدا أن يختلف الناس حول تفسير آية من الآيات أو تأويلها، إلا أنهم –حتما- متفقون على أن الرسول( ص) هو الأكثر علما والأعمق فهما وإدراكا لمعاني القرآن ومراميه، الأمر الذي أعتقد- جازما- أنه سيساعدنا، ويقربنا من فهم دلالات الآيات آنفة الذكر فهما صحيحا، وسليما. وهذا ينقلنا إلى الفقرة التالية.

الرسول والشعر

إذا ما ألقينا نظرة -ولو عجلى- على السنة النبوية الشريفة فإننا ندرك بكل يسر وسهولة تلك المكانة العالية، والدرجة الرفيعة، التي كان يحظى بها الشعر عند الرسول (ص) وقد وردت أحاديث كثيرة تعلي من شأنه كما في هذا الحديث الشهير: "إن من الشعر لحكمة". كما ورد في سيرته ما يؤكد حبه الإستمتاع بالشعر، والإستماع إليه في مواقف مختلفة.

وقد روي أنه (ص) سأل أحد أصحابه يوما أن ينشده من شعر أمية بن أبي الصلت فأنشده بيتا فقال هِيهِ- أي زدني- ثم أنشده بيتا حتى أنشده مائة بيت!! وعقب القرطبي في تفسيره على هذا قائلا:" وفي هذا دليل على حفظ الأشعار والإعتناء بها إذا تضمنت الحكم والمعاني المستحسنة شرعا وطبعا".

وَ حَدَثَ أن نادى على شاعره حسان بن ثابت:" ياحسانُ أنشدني من شعر الجاهلية فإن الله قد وضع عنك آثامها في شعرها وروايته" وأنا لا أفهم من هذا الطلب إلا أنه كانت تميل نفسه اللطيفة، ووجدانه الشفيف، بين الحين والآخر، إلى الإستمتاع بما في هذا الشعر من جوانب الجمال الفني، دون المضامين التي لا تليق بهذا الفن الراقي، وهذا بالضبط ما تناوله الإسلام بالنقد والتوجيه نحو الأغراض الإنسانية النبيلة.

وكم كان سروره عظيما عندما قالت له زوجته عائشة (ض): لورآك أبوكبير الهذلي لعلم أنك أحق بقوله فسألها وما يقول؟ فأجابت:

وَمُبَرَّإٍ مِنْ كُلِّ غُبَّرِ حَيْضَةٍ............وَفَسَادِ مُرْضِعَةٍ وَدَاءٍ مُغْيِلِ

وَإِذا نَظَرْتَ إِلَى أَسِرَّةِ وَجْهِهِ......بَرَقَتْ بُروقَ الْعارِضِ الْمُتَهَلِّلِ

فقام وقبلها بين عينيها وقال": لقد سررتني يا عائشة سرك الله".!  

وما كان احتفاؤه بالشعر في حياته العامة يَقِلُّ عن احتفاله واهتمامه به في حياته الخاصة.

وخير مثال على ذلك، قصته مع قُتَيْلَةَ أُخْتِ النَّضْرِ بن الحارث التي استوقفته وهو في الطواف، فأنشدته أبياتَ شِعْرٍ يدخل مَسَامَّ القلوب، وقد بكت أخاها بكاء يَفُتُّ الفؤاد فَتّا، ويَنْحَتُ الجسم نحتا:

أَبْلِغْ بِهِ مَيْتا بِأَنَّ قَصيدَةً .......مَا إِنْ تَزالُ بِها الرَّكائِبُ تَخْفِقُ

مِنِّي إِلَيْهِ وَعَبْرَةً مَسْفوحَةً .....جَادَتْ لِمَائِحِها وَأُخْرَى تَخْنُقُ

وما أروع تصويرها لمشهد تقديم أخيها لمصيره المؤسف، تصويرا يكاد يمزق نياط القلوب:

ظَلّتْ سُيوفُ بَني أَبيهِ تَنوشُهُ ...........لِلَهِ أَرْحامٌ هُناكَ تُشَقَّقُ

قَسْرًا يُقادُ إِلَى الْمَنِيَّةِ مُتْعَباً......رَسْفَ الْمُقَيَّدِ وَهْوَ عَانٍ مُوثَقُ

ثم نادته نداء فيه عتاب رقيق، ممزوج بأسف عميق:

أَمُحَمَّدٌ هَا أَنْتَ ضِنْءُ نَجيبَةٍ ...... مِنْ قَوْمِهَا وَالْفَحْلُ فَحْلٌ مُعْرِقُ

مَا كانَ ضَرَّكَ لَوْ مَنَنَتَ وَرُبَّمَا.....مَنَّ الْفَتَى وَهْوَ الْمَغيظُ الْمُحْنَقُ

فَالنَّضْرُ أَقْرَبُ مَنْ تَرَكْتَ قَرَابَة.ً.......وَأَحَقُّهُمْ إِنْ كانَ عِتْقٌ يُعْتَقُ

فتأثر لذلك تأثرا شديدا، فبكى حتى اخْضَلَّتْ لحيته كما جاء في بعض الروايات، ثم قال:"لوكنت سمعت شعرها هذا ما قتلته".!

وعندما نقضت قريش مقتضيات اتفاقية "صلح الحديبية" حيث نصرت بني بكر على خزاعة، جاء عمرو بن سالم الخزاعي المدينة وأنشده:

يارَبِّ إِنِّي ناشِدٌ مُحَمَّدا................حِلْفَ أَبينَا وَ أَبيهِ الْأَتْلَدا

فَانْصُرْ هَداكَ اللَهُ نَصْراً أَعْتَدا......وَادْعُ عِبادَ اللَهِ يَأْتوا مَدَدَا

وعن غدر قريش قال:

وَنَقَضُوا مِيثاقَكَ الْمُؤَكَدَا.......وَجَعَلُوا لِي فِي كَدَاءٍ رُصَّدا

هُمْ بَيَّتُونَا بِالْوَتيرِ هُجَّدا................وَقَتَلونَا رُكَّعا وَسُجَّدا

فقال (ص): "نُصِرْتَ يا عمرو بن سالم ودمعت عيناه"

ثم جاءه بعد ذ لك كعب بن زهيرخائفا يرجو الصفح والعفو، فقدم بين يديه "بانت سعاد" فكان له ما أراد، بل خلع عليه بردته تكريما وتشريفا، ثم صارت قصيدته يحفظها الناس، وجيل بعد جيل يرويها.

أما الصحابة الكرام فقد كانوا بدورهم يحفظون الشعر ويروونه ويحثون على ذلك، حتى إن الفاروق عمر الخليفة الثاني، كان لا يقطع أمرا إلا وتمثل فيه بشعر، ونقل عنه قوله :"علموا أولادكم لامية العرب فإنها تعلمهم مكارم الأخلاق"

ولما حوصر الخليفة الثالث عثمان (ض) أرسل إلى الإمام علي (ض) بيت شعر لِلْمُمَزَّقِ الْعَبْدي:

فَإِنْ كُنْتُ مَأْكولاً فَكُنْ خَيْرَ آكِلٍ..............وَإِلاّ فَأَدْرِكْنِي وَلَمّا أُمَزَّقِ

وكذا كانت أم المؤمين عائشة ( ض) كثيرة الإستشهاد بالشعر فيما تقفه من مواقف، وتشهده من أحداث وعندما دخلت على الخليفة الأول أبوبكر(ض) وهو يحتضرقالت:

لَعَمْرُكَ مَا يُغْنِي الثَّرَاءُ عَنِ الْفَتَى.......إِذاحَشْرَجَتْ يَوْمًا وَضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ

ولما بلغها خبر استشهاد الإمام علي قالت:

أَلْقَتْ عَصاها وَاسْتَقَرَّ بِها النَّوَى............كَمَا قَرَّ عَيْنًا بِالْإِيَابِ الْمُسَافِرُ

وخلاصة القول فإن الصحابة كلهم كان الشعر يتدفق من ألسنتهم، في سلمهم وحربهم، وفي جدهم وهزلهم.

ويبقى ما قدمناه غيض من فيض لكن حسبنا من القلادة ما أحاط بالعنق، وهو كاف لينهض دليلا على تهافت تلك الإدعاءات التي استهللنا بها هذه الخلجة الوامضة .

وفي الختام قيل لسعيد بن المسيب إن قوما بالعراق يكرهون الشعر فقال:" نَسَكوا نُسُكًا أَعْجَمِيا" !

كانت هذه اللمحة الدالة بمناسبة اليوم العالمي للشعر....فكل عام والشعر، والشعراء، ومتذوقو هذا الفن الخالد بألف خير وخير، ولديه مزيد....

 

محمد العربي حمودان

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم