صحيفة المثقف

ظريف حسين: نيتشه كما أراه

ظريف حسينإنه برغم إمكانية وجود عدد لا محدود من القراءات التأويلية لفلسفة نيتشه، فإنه يمكنني تلخيص رؤيتي لها-و قد تحولت من حماس متقد إبان مرحلة الشباب إلي مرحلة التحليل العلمي - في نقاط أهمها:

1- فلسفته في الإرادة تجد أصلها في نظريات لوك وبيكون وهوبز وديكارت وفيخته وشيلنج هيجل وفويرباخ وهلبرت وشوبنهور وبرجسون، غير أنه جعها الأساس الوجودي للإنسان.

2- من يقرأ كتاب "قلق في الحضارة" لفرويد يصبح أكثر وقوفا علي أصل الشعور بالذنب والخطيئة الأصلية، والتضحية بشخص واحد فداء للآخرين. وفضل فرويد علي نيتشه أنه تحاشي الانخراط في إصدار أحكام تقويمية للحضارة كما فعل نيتشه. وأن كانت أولي مهامه هي بيان دور" الحب الجنسي"في مسيرة الحضارة، كما كانت مهمة التحليل النفسي بصفة عامة هي الكشف عن التوتر بين المرغوب فيه وهو موضوع اللاوعي من جهة، والعقل أو الوعي، من جهة أخري.

3- ويري نيتشه أن الخلاص بالفن هو حل الصراع بين الشكل في صورة أبوللو والانفعال الذي يمثله ديونيسوس، فيعتقد بأن العبقري هو الذي يستطيع أن يجمع بين النقيضين، أي بين الشكل والنظام ممثلا في أبوللو وبين اللانظام أو اللاتحدد ممثلا في ديونيسوس.

و لقد عرض نيتشه هذه النظرية في كتابه "المأساة اليونانية" حيث ذهب إلي أن السعادة هي في تقبل الإنسان مصيره ووضعه بلا تأفف، ويقبل بمفهوم الصراع والنسبية يحاول التسامي بانفعالاته، ومع ذلك فإن نظريته الأخلاقية ككل تنسف هذا المفهوم للخلاص، وتقف ضد التوافق والتكيف مع الظروف الراهنة وتدعو للتمرد علي كل شيء!

4- ومع ذلك يبقي هناك تشابا بين نيتشه وفرويد يتجلي في إقرار فرويد بدور الهُوَ أو الإيروس ممثلا في الغريزة الجنسية أو الليبيدو في بناء الحياة.و لنلاحظ أيضا وجود ثلاثية عندهما:

فمثلا نجد الإرادة والروح والأنا عند نيتشه يقابلها الهو والأنا والأنا الأعلي عند فرويد.

و تكرس كتابات نيتشه نفسها للاضطلاع بمهمتين:

الأولي: هي محاولة تأويل نفسي للتصورات الفلسفية عن الحقيقة والعقل والفضيلة.

والأخيرة: هي أنها تحليل نفسي ذاتي غير منضبط علميا من جانب نيتشه لنفسه.

5- وقد أفلح فرويد في التخلص من التأثير الأيديولوجي لفلسفة نيتشه ولكل فلسفة بصفة عامة، وكان من شدة حرصه علي ذلك أن علق علي حائط غرفته عبارة: "يجب أن نعمل بدون أن نتفلسف".

و بذلك يعد شوبنهور أكثر علمية وأمانة من نيتشه، حتي لو ظل متمسكا بالمثل الأعلي للفضيلة المسيحية مما عده نيتشه نقيصة. لكن من الناحية العملية لم تشكل فضيلة الشفقة جانبا سلبيا في مسار الحضارة الغربية لدرجة أن فوكوياما يعتبر المسيحية ضلعا مهما من أضلاع هذه الحضارة.

6- وتعد نظرة نيتشه للعلم والعقلانية وصمة عار علي فلسفته، بعكس نظرة فرويد الذي كانت آخر عباراته في كتاب"مستقبل وهم" هي أن الوهم يكمن في التخلي عن العلم. وذلك في مقابل الحماسة الأيديولوجية الحمقاء التي تكرست لها كتابات نيتشه الذي بدا إرهابيا يسخر من العلماء وموضوعيتهم.

7- كما استبدل نيتشه دينا بدين، وعكس القضية هي قضية من نفس النوع، فالعقل غائب في الحالتين، أي حالة الدين وفي حالة عبادة السوبرمان عند نيتشه، وغالبا ما كانت أفكار أوجست كونت وجون استيوارت مل عما أسمياه"دين الإنسانية" أنضج وأكثر قابلية للتطبيق من فكرة نيتشه التي تم استغلالها عنصريا، وضد الإنسانية.

8- كما أن أخلاق المتعة والأخلاق الأنانية تمثلان انتكاسة إلي الوراء، كما أن تغليب الجانب النفسي في وصف المجتمعات وتحليلها، وتصور المجتمع علي أنه شخص"نفسجسمي"هو تصور مضلل؛لأن العلاقة بين الأفراد ليست علي غرار العلاقة بين أعضاء الجسم الواحد، كما أن عمل المؤسسات في المجتمع ليس كعمل العقل الشخصي.

9- ويتوهم نيتشه أنه حاز قصب السبق إلي تأسيس الأخلاق والفلسفة عامة علي علم النفس بدلا مما هو حاصل طوال تاريخ الفلسفة، ولكن إن صح زعمه فماذا نقول عن هوبز وسبينوزا، وفيخته مثلا؟ فالأنانية والانفعالات والأفكار غير الواضحة أي اللاوعي كانت حاضرة في كتابات هؤلاء بالذات، كما أشرت في البداية

10- كما أن آلية التطهير بمأساة البطل في التراجيديا له أبعاد طبية ودينية وأخلاقية... أي من" الخلاص" الذي يتأسس علي مفهوم التضحية والفداء، ومن هنا كان مفهوم التضحية أي التطهير في التراث اليوناني يتضمن معني التضحية بالماعز مثلا.

ونجد ذلك بصورة أبرز في المسيحية في عقيدة الفداء بالصلب والعذاب.

وإذا تأملنا فلسفة الزار باللغة الأمهرية-لغة شمال اثيوبيا-فإننا سنجد أنها تمثيل لصراع تراجيدي بين الأرواح الشريرة التي تسكن الأجساد وبين الفن المتمثل في الموسيقي ذات الإيقاعات المصاحبة للطقوس الخاصة وذلك بهدف التطهير وبالتالي المتعة، ومن هنا نجد التلاحم التاريخي بين الدين والطب والفن (الطابع الاحتفالي) والأخلاق، غير أن نيتشه يُغلِّب الفن علي الدين والأخلاق؛ لأنه الأقدر في نظره علي التعبير عن الإرادة الأقوي بوصفها "الشئ-في-ذاته" في مقابل العقل ونظامه الذي يمثله أبوللو، والذي يميل إلي تشكيل هذه الإرادة وتثبيتها، وبالتالي تجميدها.

و بذلك يكون التطهير هو تحرير للانفعالات وإسكات للعقل والسخرية منه.

كما اعتبر نيتشه أن التطهير يكون علي عاتق التراجيديا برغم أن الطب يضعه علي كاهل الكوميديا أكثر، والتي تعتمد أكثر علي اللعب علي التناقضات بين المعقول والواقع المعاش، فما علة ذلك منه؟!

والمهم أن نيتشه يرفض فكرة التطهير من الانفعالات بإثارة الشفقة بل بإطلاق الانفعالات المدمرة والمحطمة لأشكال الحياة القديمة وبذلك تكون المتعة هدف التراجيديا وليس الشفقة.

11- كما أحل نيتشه تصور الإله ديونيزيوس محل المسيح لكونهما يحملان طبيعة مزدوجة، أي إلهية وبشرية معا، ولكن بدلا من عذاب المسيح والتضحية به بالصلب للخلاص الجماعي، فإن ديانة وطقوس ديونيزيوس تقوم علي الصراع بين الإلهي والإنساني أو بين المقدس والمدنس، ذلك الصراع بين الحق والباطل، بين البناء والهدم، لينتصر الهدم وبالتالي لا يحصل الخلاص الجماعي القائم علي الاستعارة، أي استعارة شخص المسيح ليكون نيابة عن البشر بالتضحية بذاته، بل مع ديونيزيوس يكون الخلاص بالقضاء المستمر علي الطبيعة الإلهية في الله لصالح الطبيعة البشرية، فلا يتم التضحية بالإله المستعار بل بالله الحقيقي الذي نشأت معه فكرة الخطيئة.و بذلك تكون فكرة الخطيئة نفسها قد ماتت بموت الإله، وبذلك تم القضاء علي الطابع الديني للسقوط وأعيد إلي أصله السيكولوجي المؤسس علي فكرة البطولة الشخصية التي تصنع الأحداث، وليس علي الأحداث التي تصنع البطل، برغم أن التراجيديا في معناها هي صراع غير متكافئ بين البطل النبيل والأحداث المقاومة له، وقطعا سينتصر هو عليها، وهذا الجانب السيكولوجي مؤسس بدوره علي أنطولوجيا حيوية أخذها نيتشه عن دارون الذي فسر الحياة بأنها صراع علي البقاء، فزايد عليه نيتشه بأنه صراع علي القوة.

ومن المؤكد أن هناك اختلافا شكليا بينهما؛لأن الحياة تتصارع لتتفوق علي نفسها، ولا تبقي لمجرد البقاء، ويدل علي ذلك تطورها.

ونجد أن المفهوم ذاته موجودا أيضا علي المستوي النفسي التي هي عبارة عن محاولات التخلص أو الخلاص من الاعتياد باكتساب عادات جديدة.

كما أن فكرة الخلاص الجماعي لن يستطيعه الفن ممثلا في أي صورة سواء أكان مسرحا أم موسيقي، إلا عندما يتحول هذا الفن إلي شعائري أو احتفالي كما هو الحال في الموسيقي الكنسية، حيث تكون الموسيقي مكملا للشعائر، في حين يريد نيتشه جعل الفن مكتفيا بذاته، وقطعا فإن ذلك لن يجعله مؤسسيا أو جماعيا.و بالتالي سيظل تجربة تلقٍ فردي حتي في الشكل والمضمون، وفي جميع الأحوال سيظل تجربة تلقٍ، ولن يصل إلي درجة الجماعية في الأداء الإبداعي، وبذلك يشترك مع الخلاص المسيحي في كونه مجرد انفعال أو تلق أو نعمة أو فضل من الله الذي يبادر بالتضحية بجانبه الإلهي من أجل الإنسان، وهذه أكبر مفارقات المسيحية!

فكان من نيتشه أن فعل العكس، أي تخلص من الجانب الإلهي في المسيح من أجل أن تأليه الإنسان.و بذلك تعود فلسفته مجرد تعبير مختلف عن فلسفة فويرباخ.و لكن فلسفة فويرباخ متعادلة نظريا لأنك تستطيع نظريا أن تبدأ من أحد طرفيها، فتفسر الإلهي بالإنساني والعكس، تماما كما يمكنك أن تفكر في المجتمع بعقل هيجل أو بعقل ماركس، وبلا أدني تناقض.

ولكن فلسفة نيتشه تعتمد علي ادعاءات برجماتية بأن الحياة هي نظرية استاطيقية-حسية، جمالية- وتستطيع ٱن تؤكد ادعاءاتها بفعلها هي، وليس من خلال حِجاج مبني علي التعادل السابق.

12- ونيتشه يعتقد بأن العقل والدين معا والفلسفة أيضا من أمراض الحضارة، ومن المؤكد أنه يصطدم بالمفارقة الواقعية (وليس النظرية التي يتبرأ منها)، ومؤداها أن الإرادة تتموضع في أشكال وأفعال محكومة بالعقل، كما أن كل أساليب العلاج النفسي تقوم علي فنيات تساعد الاستبصار العقلي وإيقاظ العقل، أو الوعي بعوامل الصراع النفسي بين المعقول واللامعقول، بين المقبول واللامعقول، للإعلاء من شأن اللامقبول.

ومن حسن الحظ أن فكرة الإعلاء نفسها موجودة فنيا عند فرويد وسبق بها نيتشه، وهي تنطوي علي فعل التوافق مع المقبول الأخلاقي، وبذلك يتأسس علم النفس علي الأخلاق ونظامها القيمي برغم أنف نيتشه.

كما أن لسان حال نيتشه في الخلاص بالمتعة برغم الألم ينطوي علي"ماسوشية"ظاهرة.

13- كما أن فكرة العود الأبدي أو التكرار فكرة عدمية لأنها عبارة عن توكيد لفظي لأفعال الإرادة وتقضي علي فكرة التجديد، وتدل علي شعور نفسي بالتناهي الذي نتخلص منه بالاعتقاد بتكرار وجودنا إلي الأبد.

14-و أخيرا فإن فلسفة نيتشه في الفن هي مجرد تعبير عن فكرة المسرح اليوناني عند اسخيلوس الذي يعد مبتكر التراجيديا الحقيقي وصاحب الفضل الأول في وجودها بصورتها التي نعرفها، فإليه يعزى إظهار الممثل الثاني مما أدّى إلى وجود الصراع بين وجهات النظر المختلفة، وإلى زيادة عنصر الحوار على (عنصر الغناء)عند الجوقة.و بالتالي يعد الصراع والغناء أو الموسيقي الكورالية (الجماعية) أهم عناصر الإمتاع الفني وتجسيد الانفعالات باسم الإرادة.

 

د. ظريف حسين

أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بجامعة الزقازيق-مصر

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم