صحيفة المثقف

حيدر عبد الرضا: دراسة في عوالم شعر علي الأمارة

حيدر عبدالرضاالنص المتمرد بين الاحتمالات الممكنة وتوقعات المحتمل الدلالي

الفصل الثاني ـ المبحث (4)

عند حيلولة قراءتنا في النموذج الشعري لدى تجربة عوالم الشاعر (علي الأمارة) تساورنا جملة مستويات مؤثرة من مشروعية وعاملية (الاحتمالات الممكنة) والأخرى المتعلقة بواصلات (توقعات المحتمل الدلالي) وهذه الاجرائيات العاملة في مسار أفق قصيدة الأمارة، تقترب أحيانا من حدود قصوى من اللحظة التصويرية ذات الهوية الممكنة في علاقة المواجهة الصارمة ما بين خاصية المحتمل القرائي التذوقي وسيرورة كيانية المؤولات المتعلقة في وظيفة احتمالات المعنى التلفظي الموظف في صورة وتحصيلات واقع النص الشعري . وعلى هذا النحو تبقى آفاق انتظارنا إلى ذلك المحتمل الدلالي في قصيدة الشاعر منطوقا في مدركات المعنى المقروء، مما يجعل أثر هذا المعنى مترتبا في خلفية استجاباتنا على بوادر مخصوصة وخاصة في هوية الدال الشعري، وما تشغله مساحة الأفعال الدوالية من مؤشرات قضوية في مرحلة علاقة المعنى بالدليل المعطى في القصيدة .

ـ جدلية الدال وحافزية المدلول في الخطاب .

قد تحتفظ مؤشرات وعلامات ثنائية (دال ـ مدلول) بمكانة محققات الرؤية الشعرية بذلك الاتفاق الضمني ما بين (أطروحة المعطى = إمكانية المعنى) تعددا علائقيا موظفا بخاصية الإيحاء والمطرد في الحدوث القصدي المواكب لتعريفات العلاقة المصاغة في موجهات الدليل الشعري، وتبعا لهذا الأمر واجهتنا قصيدة (العظم)التي هي ضمن مختارات مجموعة (الركض وراء شيء واقف):

ضاعَ العظمُ !

كا أجوعَنا يا ابن زياره

نبحثُ عن عظمٍ في ليلٍ جائعْ

نبحثُ عن ليلٍ في عظمٍ ضائعْ . / ص24 . قصيدة : العظم

يخبرنا الهامش في أسفل فضاء القصيدة الطباعي، بأن دال العظم، هو لعبة كان يمارسها الشاعر منذ صغر سنه مع صحبته، إذن العلاقة هنا محفوفة بروح سياقية ـ مرجعية، ولكن عند معاينة موجهاتها من جهة هامة، نجدها إرسالية إلى جهة مؤولة من المعنى الأحوالي، أي بمعنى ما، ما هو المحفز في استحضار هذه اللعبة كمساءلة ضمنية في حال جملة (ما أجوعنا يا أبن زياره) أليس لهذه الجملة مساقية خاصة تتعلق بمستوى من المحتملات الممكنة، أي في أن يكون المقصود من وراء هذه القصيدة، الدلالة على موضوعة الحرب والجوع وبطش الحاكم العسكرتاري حينذاك، وما تترتب عليه المقصدية الشعرية من محتملات أن يكون الشاعر ذاته مؤشرا إلى مرحلة زمنية متقدمة من صراعه مع مترسبات حكايا الماضي (نبحث عن عظم في ليل جائع) وتتوزع برقيات المرسل الدوالية (العظم) نحو تجسيد رمزية مستوى هلاك الفرد ـ المصير ـ الوطن، في دائرة علاقة جدلية تمتد ما بين مرجعية حكاية العظم وأرهاصات الجوع العضوي والنفسي امتدادا لها نحو القابلية الظرفية المتغيرة في حقيقة تكوين الصورة الوضعية من الشكل الظرفي في النص:

نتناسلُ في ذاكرةِ الليلِ

صغاراً مسكونينَ بمنفى الكلماتِ

تُرى

مَن أورثنا هذا الوجعَ الرائعْ . / ص34

من هنا يسعى الشاعر إلى استيعاب جملة ممكنات سياقية الملفوظ : وما دليل محكومية هذا القصد (من أورثنا هذا الوجع الرائع) قد تكون إمكانية العلة يراد بها من قبل الشاعر هو ضياع موهبة الشاعر (عقيل سيد زياره : شاعرا منسيا) كونه منسيا، وهذا الأمر ما بات يولد ألما مقابلا بمعادل لعبة العظم وقواعدها في الحضور والغياب والأمل والخيبة والانكسار في ذروة ليل ضياع المصير . ولكننا وحتى هذه الجمل الواردة :

متْ قبلَ أوانكَ

حتى لا يُصبحَ موتُكَ خطأً شائعْ

متْ قبلَ ضياع العظمِ

فما مِن شاهدةٍ

فوقَ قبورِ الشعراءِ

سوى العظمِ الضائعْ . / ص34

من حدود تحولات هذه الجمل، تتضح لنا رؤية النص الثيماتية، وقد تكون وثوقية إلى حد ما في تحصيل مدلولها الاعتباري الحسي، بممارسة رثائية تعويضا لوهن حظوظية ذلك الشاعر المغمور، إلا أننا مع وضوح دلالة النص، يبقى لدينا ما هو مضمر في دلالات الحال الشعري من الموضوعة : فهل كان الشاعر الأمارة يوظف دواله في النص بمحمل من الانتقاد إلى الطبقة السياسية تحديدا وإن لم يكن الأمر كذلك، فما فحوى العلاقة بين الموت والجوع وضياع المصير الانساني في حكاية السياق ؟ طبعا الأمر لم يكن واضحا في الزمن الذي كتبت فيه هذه القصيدة خصوصا عند صدورها في أشد عنفوان زمن المطرقة الحكومية البعثية حينذاك . أقول أن قصيدة (العظم) تشكل في ذاتها قيمة شعرية مضمرة في الأداء والرؤية والمسكوت عنه وفاعلية المحتمل القصدي فيها .

1ـ التصويرية المتعددة وغائية الصورة الشعرية المكثفة:

أن مستوى المكانة المتألقة في بنية قصيدة الشاعر الإمارة، ما هي إلا كينونة موجهات أفعالية وذاتية وموضوعية محبوكة إلى جانب تقانة الأداة التصويرية ذات الأبعاد المكونة من الالتحام والائتلاف والاستبدال والتقابل والاختلاف في هوية الدال القصدي، مما يجعل حالات التكثيف الحسي في محمول الدال الشعري، يحتل لذاته واصلية موحية في سلم علاقات إجرائية وتكرارية وتوازية، ارتباطا كيفيا مع طبيعة الفكرة وأدوات ربطها الإنشائي:

تنهضُ الأرضُ مثلَ جوادٍ أصيل

وينهضُ قلبي المخبّأُ في طعنة الورد

وجهي المعلقُ في وحشةِ الماء

والشجرِ المستقيم

وتأتين في الزمنِ المرّ

عالقةَ بالندى

والردى . / ص 35 . قصيدة : الخيول

إن المعادلة التصويرية التي تحكم إحالات هذه التورية من مرسلات الدوال، تجعلنا نعاين هوية التقابل ما بين (الإبدال ـ الاستبدال = أداة الربط) إي ما بين علاقة تشاكل واختلاف، فعلى سبيل المثال، نتنبه إلى معطى جملة (تنهض الأرض مثل جواد أصيل) إذ أن مسافة علاقة المشبه بالمشبه به، تمنحنا الكيفية الإيحائية المنصوص عليها في عنونة عتبة المركز المؤنسن (الخيول) إذ تتضح من خلالها علاقة دال (الأرض) ودال (جواد) بوصفهما إمكانية خاصة في تقاربية نقطة مماثلة الوقائع،وصولا منهما إلى مجال ذواتي منفرد (وينهض قلبي المخبأ)و يطرح الشاعر أداة ذاته إسهاما مفعلا على نمو إحالة الدال نحو استدلالية الملازمة ما بين (الأرض + الذات) ولنضع اليد على مكامن جملة (وجهي المعلق في وحشة الماء) فنوعية هذه الجملة غدا وجودها ضرورة ما لإعطاء ذلك الانطباع بأن الذات في تورية ما، إي بمعنى ما، أنها كسياقية داخلية صار توجهها وحركيتها لازمة أكيدة نحو العلاقة ما بين الذات ومدى انعكاسها في خفايا المعنى . فيما تبقى العلاقة الدلالية في مشغل الدوال، ما يشكل بذاتها ملازمة أخرى وتلويحة نحو وظيفة مخاطبة ضمير الخيول الغائبة: (وتأتينا في الزمن المر.. عالقة بالندى والردى) قلنا في مباحث سابقة من دراسة كتابنا هذا، بأن علاقات عناصر دوال (علي الأمارة) وفي كافة أعماله الشعرية، هي تخليقات تصويرية تتشاكل عبر ملفوظاتها بوسائط ومستويات لغوية جمالية انتقائية ترتبط جوهريا بأفعالها وذواتها ومداليلها عبر صياغة تماثلية محفوفة بتحولات الصورة الأحوالية الناطقة وغير الناطقة، لذا فأننا وجدنا أغلب معادلات قصيدة (الخيول) بوصفها الطاقة الرمزية والإيحائية الموغلة نحو استيعاب منطقة المحتملات الممكنة وتوقعات المحتمل الدلالي . وفي كل هذا تقودنا دلالات مظاهر الخيول نحو أتون الأبعاد الاستعارية  بحدوثها الاحوالي وبنيتها الدلالية المعتمدة في صور المسافة المكتنزة في القول الشعري:

ومحاصرة برمادِ السنين

و تأتين ... نهراً من الضوء

ينبعُ من قلبِ هذي البلاد

التي علمتّنا التمرّسَ بالموتِ

والعشقِ حدَّ البكاء . / ص 35

وقد يصح أسلوب الموصوف لدى الشاعر بـ (الخيول) على أنها العلامة القادرة على تصوير الحركة الزمنية في بعديها (الماقبل ـ المابعد) وقدرتها الفائقة في تجسيد اللامحدود من إضاءة عمق وأعمق وأدق فيوضات الطابع الانتقادي للبلاد وحكوماتها الباطشة : (علمتنا التمرس بالموت .. والعشق حد البكاء) كما أن الحال في قصيدة (الشاهد) إذ تواجهنا فيها القيمة الجمالية الاستعارية في أقصى تحولات لغات علائق الشاهد والشهود عبر غواية منظورية وصياغية مؤثرة:

بحثوا عنهُ

في أماكن يرتادُها في القُرى

و أماكن يرتادُها في المدينة

فما وجدوهُ

قالَ وجهٌ من الماء :

كان يمدّ مع البحر قامتهُ

و يستنطقُ الماء سرّاً . / ص3 قصيدة: الشاهد

أن فاعلية الجدل الشواهدي في أقسام ألسنة الشهود في القصيدة، ذات شيفرات تحمل حافزية (النص التمرد) أو ذلك الخطاب الشعري المركب في تحولاته الاحوالية قصدا تقريعيا لمظهر الحكومات السياسية تحديدا، إلا أن النص لم يدقق من قبل الرقيب الأمني في ذلك العهد الحكومي، لأنه ببساطة مدغم بمحمولات استعارية قد لا يملكها ذلك الرقيب الأمني إطلاقا . أقول تتابعا أن مقولات على الأمارة الشعرية في هذه النماذج المدروسة من قبلنا، هي من الضد والتقريع إلى زمن الحكومات إجمالا .

تعليق القراءة:

حاولنا من خلال مباحث دراستنا في هذه النماذج الشعرية توضيح مدى فاعلية النص المتمرد لدى الشاعر، خصوصا وأنها منشورة كانت في زمن الصولجان والمطرقة البعثية، غير أن الشاعر الأمارة من الذكاء والحنكة ما جعلها تصبو في حدود من الاحتمالات الممكنة وتوقعات المحتمل الدلالي، إذ إننا من خلال النماذج الشعرية المستعرضة والمدروسة، حاولنا توضيح عمق استقصائية شعرية قصائد الشاعر الأمارة عبر أغراضها (سيمانطيقا) المرسلة عبر فاعلية نوعية خاصة ومحكمة من بنيات التحول والمتحول في مستوى توقعاتها الدلالية المترشحة عن قابلية الأدوات والروابط الدلالية والعلائقية في مجال شعرية متينة وموثقة بعين المداليل التصويرية المحكمة، وبهذا تكاد تكون أبنية الشاعر متبلورة في أبعاد حسية تشكيلية تباغتنا حينا بلذة الدهشة والمفارقة والمفاجأة وحينا بجمالية الاكتشاف ونوعية التذوق لأعلى مكونات ومقولات شعرية النص المتمرد .

 

حيدر عبد الرضا

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم