صحيفة المثقف

كاظم الموسوي: في وداع الدكتور خير الدين حسيب

كاظم الموسويلم يخطر ببالي أن أكتب أو اشترك في رثاء او في وداع الدكتور خير الدين حسيب،بهذه العجالة، رغم أن الموت حق، إذ كان الرحل قبل أيام يكلمني عبر الهاتف، وسألته اولا عن صحته فأكد لي أنه بخير وأنه يواصل برنامجه اليومي في القراءة والكتابة ومتابعة التطورات عموما.. وفي الحديث كعادته يطرح أسئلة ونقاشا حولها ويختمه بسلام لأصدقاء ورفاق لهم في القلب مودة.. وفي آخر زيارة لي لبيروت، قبل أكثر من عام، قبل الجائحة الكونية، دعاني لوليمة غداء في مطعم بيروتي في طابق خامس من بناية قديمة الطراز، أو كلاسيكية المعمار، وجلسنا في شرفته المطلة على ساحل البحر، ومن ذاك الارتفاع توسعت آفاق البحر والنظر والحوار.. كان مهموما بحرقة اعرف بعض اسبابها وحاولت التخفيف في بعض ما أستطيع رغم معرفتي بأنه يستمع جيدا ولكن ما يدور برأسه هو الذي يقرره حتى لو خالف ما شغل الحديث. او سمعه ولم يعارضه.. والمجالس امانات، فيها اسرار واخبار، ولو أن بعضها لم يعد سرا، وأن صوته العالي بسبب ضعف سمعه اسمع بعضها لغير من اراد أن يسمعها أو يوصلها لغيره ممن استفاد منه بشتى السبل أو العناوين. في بعضها لوعة وشجن، وفي غيرها حزن وكمد.. فبعد تلك التجربة والعمر الطويل نسبيا، ما يقارب تسعة عقود من زمن عربي، لا يحسد عليه من عاشه بعيدا عن هموم السياسة والثقافة، فكيف لمن عاشه وهو في معمعانها أو في وسطها وفي ظروف تحتاج إلى مجلدات من التوصيف والعلم والخبر. بعد كل تلك السنوات يعاني من أمور ليس سهلا قبولها، أو يصل إلى ما لا يتوقعه يوما أن يحصل له ولم يحسب حسابه. ومع كل ما هو عليه كان يسالني عن محنة الوطن وما يجب أن نعمل أو نقدر على تضميد جراحه.

الدكتور خير الدين حسيب، (آب/ أغسطس 1929 - 12 آذار/ مارس 2021)، الاقتصادي البارز في فترته في العراق، خريج الجامعات الشهيرة في بريطانيا، كمبردج وكلية لندن للاقتصاد، والموجود توقيعه على الدينار العراقي في زمنه، والمؤمن بتوزيع الثروات الوطنية للمستضعفين والكادحين في بلادهم، المنظّر السياسي لطليعة عروبية ثورية، استقر ببيروت في أوائل السبعينيات من القرن الماضي، بعد انغلاق بلده وسجنه وتعذيبه فيه، مخططا ليس لبقاء وعمل وظيفي وكفاه منه قبولا، بل لإنجاز طموحات شغلته، وتحقيق احلام راودته، وزرع نبتات علم وثقافة لآفاق ابعد من مكانه. فحدد أمامه مخططا واسع التجليات وكثير التطلعات.. سجله على قاعدة ماسسة ما رسمه على ورق ليكون إبداعا مسؤولا وانجازات تقوم على أسس وأعمدة وركائز موثوقة، مفيدة وعامة، ليس ليومها وحسب بل بتواصل الحاضر وامتداده لمستقبل منشود، معبرة عن وعيه والتزامه، فبدأ بمركز دراسات الوحدة العربية، ومجلة شهرية باسم المستقبل العربي، بالمعنى والدلالة، ملتقيا بمن يفكر مثله أو يعمل معه أو يحس بهدفه ومسعاه. وبنى بعضا منها مع هذه النخبة، التي عملت معه، او شاركته الخطوات البكر، في تأسيس مؤتمر جامع لمثقفي الأمة وممارسي النضال الوحدوي، ومتوسعا بجمع ممثلين من تيارات الامة الفكرية والسياسية، متقاربا من الكتلة التاريخية، لمشروع مستقبلي، مشروع النهضة العربية، بثوابته الدالة عليه، وتابعه بنظرته الانسانية لحاجة الأمة للدفاع عن حقوق الانسان فيها، وتنظيم أطر اخرى لمكافحة الفساد المتفشي، ولملمة الناشطين في علوم الاجتماع والسياسة والترجمة.. ولم تنته الطموحات ولم تتوقف المحاولات. يتقدم في أغلبها دافعا لها ومشجعا عليها وحاسما في تاطيرها وتطويرها وتمثيلها وتجديدها، رغم العواصف التي تهب هنا وهناك، ورغم العراقيل أو المحبطات لمثل هكذا مؤسسات أو منظمات أو هيئات جامعة وواسعة الفكر والأبعاد.

لم يتوقف عند ما أنجز وقدم، ممررا بينها ندوات ومؤتمرات، وما لها من مساهمة في الإثراء الثقافي والاغناء المعرفي، إضافة إلى المنشورات الصادرة عن المركز وتوزيعها وحتى اهدائها مجانا، مقترنة مع مساع الى تشكيل منتديات ثقافية عربية واصدار صحف أو ما يعبر عنها، كما حصل في بغداد، بإدارة الراحل الدكتور وميض جمال عمر نظمي، أو في صنعاء بإدارة الراحل الدكتور عبد القدوس المضواحي، وفي غير عاصمة أخرى. كما سعى أن توزع كتب المركز باسعار تشجيعية في أكثر من مكان في هذا الوطن العربي الكبير. وهناك الكثير .. الكثير من هذه المشاريع أو الأفكار التي كان الراحل يبدعها وينظمها ويوجهها، ويسعى اليها، واستفاد منها كثير ممن رد جميله أو أنكره جاحدا كما هو حاله في هذه الأيام والاحوال، وما عاد للأمر من قول يقال او مقال  ومقام، بعد أن اصابته في اخر ايامه، سهام كثيرة، تكسرت فيها النصال على النصال..

ما سبق ذكره من نشاطات الراحل لا تعطي كل ما انتجه ورعاه، ولا تلخص طموحاته وطاقاته وانجازاته، ولكنها معالم عن مثال عروبي، معطاء، حازم في عمله وصادق مع نفسه ومخلص لالتزاماته، في قضايا السياسة أو الثقافة أو العلاقات العامة، تشغله قضية فلسطين وحقوق شعبها، التي لم تغب يوما عنه، فكرا أو ممارسة، ولا مسقط راسه، التزاما ومحاولات لتوفير ما يمكن أن يقدم له او ما يعينه على بلواه، وكل هم عربي ووجع انسان على مساحة الوطن والمعمورة. وله مبادراته ومشاركاته التي تستهدف التقدم والتطور وبناء الإنسان والأمة والوطن، بتسامح إنساني كبير، وتضامن شجاع مسموع، وادراك ثقافي موجه وحريص. وحتى لو لم تتفق معه في بعضها فلا يمكن أن تبخسه دوره وحرصه وقابلياته في الفكرة والعمل.

رحل الدكتور خير الدين عن دنيانا، اما ذكراه فباقية، فيما أنجزه وما حققه، وهو كثير على مختلف الصعد والمستويات.. ومهما اختلف حول بعض ممارسات وقد تنتقده على غيرها ولكن منجزه متفق عليه، يظل للصالح العام ويشرئب للهدف الجامع. ومع ذلك ظلت بعض أحلامه معلقة لصعوبات وتداخلات، منها خطة انشاء فضائية عروبية هادفة، اعد لها وشجع عليها، وبقيت خطوتها أو مشروعها مرهونا بما لا طاقة له، في زمن النكسة والكبوات المتلاحقة. كما ظل مشروع مؤسسة أكاديمية، جامعة عربية للدراسات الاستراتيجية والعلوم الحديثة، وطموح تخريج أجيال جديدة مواصلة للنهج ومتابعة للتطور ومساهمة في البناء والتقدم، ظلت هذه الجامعة من الاحلام الباقية على من يريد أن يتابع المشوار، مع معرفة برياح لا تشتهيها السفن، ولا تقدر عليها عواصف الايام. ومثلها وقفيات وكراسي جامعية لتخليد اسماء شخصيات عروبية ضحت من أجل نهضة الأمة وتحرير الوطن.

كم قاسية هي الايام والذكريات.. كم صعبة هي الكلمات التي لا توفي الإنسان الراحل حقه، وداعا دكتور خير الدين حسيب..

 

كاظم الموسوي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم