صحيفة المثقف

علي محمد اليوسف: موضوعات فلسفية: تحليل نقدي (5)

علي محمد اليوسف(1) بول ريكور: اجتزاءات فلسفية

جميع الافعال الصادرة عن الانسان هي ذاتية صرف يحكمها القرار والارادة في محاولة صنع عالم خاص .بول ريكور في عبارة رشيقة له " الانسان لا يمتلك عصمة من ارتكابه الاخطاء والشرور، وهذه السمة العامة تتركز في عدم مطابقة الانسان مع نفسه، وهذا اللاتناسب بين الذات والذات هي نسبة اللاعصمة." ان نزعة الخير المترسّبة في قاع الضمير والوجدان الانساني تجعله متقاطعا على الدوام مع مظاهر الانحراف التي يعيشها في مجتمعه، ما يرتب عليه اتخاذ القرار الصائب حسب تصوره وقناعته أن يكون متطابقا مع ذاته في تقاطعه مع المجتمع. والذات المنقسمة فرويديا الى ذات ومافوق ذات اسمى جوهريا عن الاولى ايضا ينطبق عليها التفاوت بين ارادة نموذجية في حب الخير واخرى لا تتورع عن ارتكاب الاخطاء المتعمدة والعفوية على السواء.

هل الوعي المجتمعي الزائف يحكم على أفراده بالخطأ اذا ما كانت انطلاقتنا الاقرار بحقيقة الانسان محدودية طبيعية غير معصومة من الاخطاء على الدوام. المجتمع يدين افراده على أخطائهم في وقت هو مصدر تلك الاخطاء. ان العصمة الوجدانية الضمير مستمدة دائما من نزعة الانسان الدائمية نحو الميتافيزيقا في تصوراته الايمانية الدينية التي هي المثال في حياته، ما يجعله يشعر نفسيا أن قدرة الله في جعله الانسان محدودا غير معصوم لا يلازمه تانيب ضمير نتيجة ارتكابه الاخطاء والوقوع في براثن الشر.

من جهة اخرى نجد هوبز كان عميقا في عبارته الانسان محكوم بغريزة الشر. وبذلك اراد تهوين الشعور بالذنب وتانيب الضمير بالقناعة الزائفة التي تكسب الانسان الرضا أن الشرور قسمة عادلة بين البشر. وهو تعميق الشعور المناقض أن الانسان موجود بائس. وفي عبارة اخرى لريكور " ليس الانسان ذلك الذي لا يعرف مسؤولية معرفة نفسه، فمن الشر ان يكون الانسان حافلا بالاخطاء ولا يريد الاعتراف بها، لأن ذلك بمثابة اضافة وهم اختياري، فلكي يبرر اللامبالاة يلجأ الى شيء من النفور من الحقيقة ".الحقيقة التي تتلبسنا ونحياها جميعا ونحاول طمسها باستمرار هربا من الإعتراف بها هي أننا فعلا لا نريد تحمّل مسؤولية معرفتنا الحقيقية لانفسنا وهو نفور من حقيقة قائمة لا يلغيها عدم إفصاح الاعتراف بها. يصعب علينا مواجهة أن توأم الوجود الانساني هو حقائق الأخطاء المحتجبة.

السؤال: هل ينقذ الانسان والمجتمع الاقرار أن العمود الفقري لوجودنا هو الاخطاء المتراكمة التي اخذت حيزا كبيرا واصبح الانسان فيها هشاشة وجودية في حال إعترافنا الصريح بذلك.

(2) المتناهي واللامتناهي

التفكير متناه في محدودية القدرة على معرفة وفهم اشياء من العالم وليس كل العالم. ويكون التفكير الخيالي خاملا حسب توصيف ديفيد هيوم كونه يستنفد نفسه قبل تمام ادراك مواضيعه المستمدة من عالم لامتناه. عن هذه الحقيقة يعبر ديكارت "ربما يوجد ما لانهاية له من الاشياء في العالم، وفي المباينة مع ذلك فليس عندي في الفاهمة أية فكرة عنها". ليس غريبا تكرار المقولة الفلسفية أن ما يعرفه الانسان ليس اكثر مما يدركه فعلا.

في محاولة المتناهي المحدود معرفة اللامتناهي المطلق محاولة عقيمة لا معنى لها، فالتفكير الخيالي لا يستطيع فهم اشياء لا تكون لها معرفة صورية حتى بالتعريف البسيط لها.يصف ريكور الارادة بانها ذات سعة ومجال بلا نهاية. الارادة لها سعة ومجال تفكيري بلا نهاية صحيحة، لكن فاعلية الارادة التخييلية انما تكون في المتحقق المنجز لما تقصده وتبتغيه..

ويقصد باللامتناهي المطلق فلسفيا هو الخالق غير المدرك بصفاته ولا ببعض ماهويته الذاتية. هذا اللامتناهي الذي لا يمكن الاحاطة به. اما المتناهي فهو المدرك الذي يمكننا تحديده بالمقارنة مع متناهي اخر يشاركه المجانسة النوعية. ومن الصعب استطاعتنا تحديد اللامتناهي لاننا نحتاج الى حده بشيء يجانسه النوع وهومحال.

امام هذا المعنى اثار لا يبنتيز طرحا اشكاليا معتبرا " كل معنى محدد، ايا ما كان، وكل معنى لا يحتوي المتناهي هو معنى مجرد ناقص" نقلا عن كاتب.

هذا التداخل الاشكالي الذي يقيمه لايبنتيز على منطق رياضي هو المتواليات العددية والمتواليات الهندسية التي لها بداية ولا تكون لها نهاية. فهي تكون بحكم اللامتناهي الذي تختلف معه بالمجانسة النوعية. وهو حكم رياضي لا يمكننا تعميمه على مدركاتنا الاشياء وموجودات العالم الخارجي، فهذه تكون محدودة انطولوجيا متناهية وتحتويها لا متناهيات وجودية.

اما راي كانط الذي يرى الناس كائنات متناهية يعيشون في عالم لا متناه يجب ان يكون هذا اللامتناهي محدودا ب(زمان) والا اصبح لا وجودا يمكن الاحاطة بادراكه ولو جزئيا. لو نحن حاكمنا عبارة كانط بفهم اسبينوزا الذي يرى ان الوجود بغض النظر كونه متناهيا او لامتناهيا لا فرق فهو يدرك بدلالة الجوهر، ولا يدرك الجوهر بدلالة الوجود. لكانت اطروحة كانط في امكانية الاحاطة بمحدودية اللامتناهي بمحدودية الزمان الذي يحتويه خاطئة تماما كون الزمان مخلوقا ازليا يكون لامتناهيا لنا نحن البشر لكنه متناهيا مخلوقا من لامتناهي لاندركه هو الله.

ونختم بعبارة ثانية لكانط يقول بها" ليس للعالم بداية ولا حدود بل هو لامتناه. والزمان الذي يحد العالم يتوجب ان يسبقه زمان له بداية، وبداية الزمان هي (فراغ كلي) واذا لم يكن للعالم بداية ولا حدود فهو لامتناه. ان ما يلفت النظر ان كانط لا يحدد مقصوده الدقيق بالعالم هل هو الكون الميتافيزيقي ام العالم الانساني على الارض؟.

(3) اشكالية اللغة

بحسب تعبير أحد المفكرين بدراسة فلسفة اللغة يقول "إحتاج إكتشاف أفكار دي سوسير الى ما يقرب من نصف قرن من التيه قبل أن تصل البنيوية الى الايديولوجيا الموعودة ممثلة بكتابات بارت وفوكو ولاكان والى حد ما شتراوس ".

بالعودة الى مقولة نيتشة في موت الاله جعل كل شيء مباحا في تناوله فوضويا، إذ إنتقلت المقولة من محتواها الميتافيزيقي الى محتوى اركيولوجي معرفي، إنتقل فيها إسقاط موت الانسان بالفلسفة البنيوية من صيرورة وجودية انثروبولوجية، الى إنسان وجود طاريء أربك مسار الفلسفة يجب تنحيته عن طريق فلسفة التحوّل اللغوي ومعه العقل التقني ايضا.

كانت تاولية بول ريكور وتفكيكية جاك دريدا هما التتويج لمعنى التطرف في فلسفة اللغة.في إعتبار تاويلية اللغة واستراتيجية التفكيك الذي يستثمر إتجاهات الفلسفات الحديثة، البنيوية، الوجودية، الماركسية، والتحليلية، والعدمية، ونظريات اللغة وفائض المعنى اللغوي، وانثروبولوجيا الدين، كل ذلك من أجل جعل فلسفة اللغة مركزية مبحث الفلسفة الاولى، وتنحية الانسان والعقل خارج إهتمامات الفلسفة وتعويم مبحث الابستمولوجيا فائض لا معنى الإهتمام به.

الفلسفات الإنفصامية على صعيد فلسفة اللغة وضعت الانسان في مأزق الإحتضار العدمي المؤجل الى إشعار آخر. وكانت البداية مع البنيوية التي رافقت طروحات ما بعد الحداثة التي كانت ثورة على العقل والانسان والسرديات الكبرى والواقع وتكنولوجيا العلم، وجاء تعبير ذلك على لسان أحد الفلاسفة المناوئين للبنيوية قوله " البنيوية التي إعتمدت علم اللغة الوسيلة الوحيدة في الاكتفاء بها معرفة حقيقة العالم ." من الملاحظ أن الاكتفاء الذاتي باللغة فلسفيا لم يكن الوسيط لحل معضلات العالم بل العكس تماما زادت تلك المعضلات إرباكا وتعقيدا فلسفيا . دي سوسير فتح أبواب التطرف اللغوي حين إعتبر إنفصال علاقة اللغة بالواقع الخارجي الى الابد، بمعنى الواقع الخارجي وجود في تمثلات اللغة له، ماجعل هذا التصور الراديكالي البنيوي المبكر 1905 هو الذي جاء وصفه على لسان أحد الفلاسفة قوله " إنفصام اللغة مع الواقع الخارجي جعل من أنظمة اللغة مغلقة على نفسها، مكتفية ذاتيا، تنطوي على جميع العلاقات الممكنة بداخلها، وبالتالي لم يعد لها علاقة بالخارج اللغوي".

بنيّة اللغة الكليّة الفلسفية أساءت لنفسها ولم تسيء للواقع الخارجي. والمقصود بالواقع الخارجي في تمّثلات اللغة التجريدي تداوليا طبيعيا. ليس من المعقول أن تهضم اللغة العالم الخارجي في تمّثله داخليا وتركه جدليا خارجيا. وقائع وموجودات العالم الخارجي لا تؤثر فيه بنية لغوية منفصلة عن الإحتدام به في توازيها معه.

عندما تنسحب اللغة من تمثلاتها العالم الخارجي، وتكون أنساقا لغوية مكتفيّة ذاتيا في التعبير عن اللغة بما هي لغة تجريد، وليست لغة واقع معيوش، يكون موت العالم الخارجي بمنظورها حصيلة أكيدة، وهذه الحقيقة تؤكدها البنيوية حين تعتبر نفسها فلسفة نمطية كليّة نسقيّة من التفكير الجواني الذي لا قيمة للواقع والانسان فيه لا داخليا ولا خارجيا. وهذا مصداق تعبير أحد الفلاسفة " تصبح اللغة نمطا من التفكير الذي يتخّطى جميع الإشتراطات المنهجية حينما لا تعود اللغة وسيطا بين العقل والاشياء".

فالبنيوية ومن بعدها التفكيكية في منهجهما اللغوي تكوين كليّة نسقية داخل نظام اللغة وحده المكتفي ذاتيا. إنما سعت كلتاهما تكوين عالم خاص لغويا مقطوع الصلة بعالم الاشياء. ألمازق أن تجريد التعبير عن الواقع هو اللغة فكيف تكون اللغة عندما تشتغل على بنيّة داخلية هي تجريد ينبني على تجريد سابق عليه وليس على تمّثلات واقعية؟ اللغة وجود حيوي يعطي حياة الانسان الوجود الديناميكي الفاعل.

حين أفاق فينجشتين على كابوس توظيف اللغة في مشروع إعدام اللغة فلسفيا بالتّطرف اللغوي نادى أن اللغة لا تزدهر وتأخذ مداها الطبيعي إلا في تكاملها مع دفق الحياة في التعبير عنها وليس في موازاتها الرتيب معها. وإعتبر فينجشتين عجز اللغة التعبير عن الحياة يوجب عليها الصمت لأن ما ستقوله خارج فضاء حيوية الحياة سيكون لامعنى له. وحصل ما حذّر فينجشتين منه نجده على لسان ريكور قوله" لم تعد اللغة بوصفها صورة حياتية كما أراد لها فينجشتين، بل صارت نظاما مكتفيا بذاته يمتلك علاقاته الخاصة به.".

وبذلك أخرجت البنيوية اللغة بوصفها خطابا تداوليا الى "أن سوسير يرى في أرجحية الكلام على اللغة بإعتباره تعبير فردي تعاقبي وعارض مؤقت، واللغة أو اللسان هو الإجتماعي التزامني والنسقي لذا تكون أسبقية الخطاب على الكلام واردة ". سوسير هنا أخرج الكلام من التوظيف الطبيعي الانثروبولوجي للكلام بإعتباره وسيلة العقل في فهم الحياة. وإعتبر الخطاب المكتوب بديلا عنه. وجد سوسير في اللغة خطابا تدوينيا يحكمه نسق من العلاقات الداخلية التي تجعل منه بؤرة مركزية ثابتة في الفهم على المدى البعيد وليس كمثل الكلام الذي يكون حوارا إستهلاكيا في شفاهيته التداولية المؤتة الزائلة كحوار.

(4) ما هو الفرق بين الكلمة المفردة والجملة؟

في أبجديات اللغة الكلمة لا تأخذ مداها الدلالي الدقيق لما تتضمنه من محمول ترغب الإفصاح عنه، وهذا ما تجد فيه البنيوية تبسيطا مخّلا لا معنى له،فالمفردة خارج سياقها في عبارة لا توحي بمعنى معّبر دلاليا مكتفيا. حيث نجد ريكور أيضا يقول" الجملة وحدة الخطاب الأساسية لتشمل وحدات أكثر تعقيدا وتعاقب الكلمات في الجملة لا معنى ينتظمها ما لم تكن ضمن وحدة نسقية تحمل الدلالة بلا قطوعات معاني المفردات".

هذا التماهي الذي كانت بذرته الاولى في البنيوية سرعان ما تلقفته التأويلية التي وجدت ضالتها في إرث هيدجر الذي كان وجد أن اللغة أصبحت حقيقتها تكمن في إنفصالها تماما عن الواقع وتمثلاتها له. وعمد التعبير أن الشاعر ويقصد به هولدرين، يقول الوجود بلغة الوجود الاصيلة" ما جعل فوكو يحمي وطيسه في توكيده إنفصامية اللغة عن الواقع أبعد مما ذهب له هيدجر حيث وجدها في تهويمات شعرية تجعل من اللغة تفكيكاكات متقافزة خارج مالوف نظام اللغة، وجديد فوكو على صعيد الثقافة هو في إباحته أن يقترن الشعر بالجنون للحصول على تداعيات لا شعورية تمثل الاصالة اللغوية الشعرية الحقيقية.هولدرين الشاعر الالماني الكبير كان زجّ نفسه عمدا في أتون الجنون للخروج بتجربة فريدة في أهمية تداعيات اللاشعور في الشعرية. (نقلا غير حرفي عن محمد المزوغي).

فوكو ذهب أيضا بعيدا في تطرّفه حول إنفصال اللغة عن الواقع الانساني مرددا "الانسان ليس أكثر من تمزّق في نظام الاشياء وتشكيل رسمه الوضع الجديد في الثقافة الغربية". لانجد جدوى التعليق أن اللغة كنظام دلالي في المعرفة من الممكن خروجه على مواضعات اللغة كنظام توليدي متطور على صعيدي المعنى وتشكيل اللغة كبنيّة منتظمة. ولا غرابة نجدها إذا ما وجدنا لغة الشعر تخرج أحيانا كما في البرناسية والدادائية والسريالية على تلك المواضعة بإعتمادها تداعيات اللاشعور في كتابة القصيدة الشعرية، من حيث متابعة التجديد في شكل اللغة الشعرية لا يلزم التعبير بالمألوف من نظام اللغة. فالتجديد في لغة الشعر هي سيرورة دائمية لا تتوقف. أما أن يكون تفكيك اللغة هو إستجابة محاكية لتمزّقات الانسان كونه مادة من التقويضات المستمرة في حقل تجارب فوضوي فهذا ما يجب التوقف عنده.

(5) اللغة: الشعر والجنون

كان إعجاب هيدجر بالشاعر الالماني هولدرين وتجربته في تقمصّه حالة الجنون مثار تعاطف هيدجر، ليعقب هذا الاعجاب فوكو ايضا. إذ اعتبر إلاثنان لغة الشاعر تتماهى مع لغة المجنون في إثراء تجربة الشعر في تجديد شكل اللغة، والبوح بمعان لغوية غير عادية خارج المواضعات التي تحكم قواعد ونحو ونظام أية لغة. هذا التداخل اللغوي بين الشاعر والمجنون من ناحية تغليب محاكمة العقل الصارمة يعتبر خرقا خارج العقل المنطقي لكنها داخل مواصفات ما تشجع عله الفنون كافة من ضمنها الادب في خاصيّة تجدد جمالية لغة الشعر. ولم يكن هيدجر ولا فوكو يتعاملان مع هذا الموضوع بحساسية تقوم على سيكولوجيا الفرق بين الشاعر والمجنون ما يترتب عليه تفريق نوع ومحتوى اللغة بينهما، إذ ليست لغة المجنون هي لغة الشاعر وإلا أدخلنا ذلك خارج معايير العاطفة الانسانية بمنزلقات خطيرة جدا نتطرق لبعضها توضيحا:

- اولا لغة الشاعر خرق لغوي تشكيلي لنظام اللغة يشتمل التداعي اللاشعوري لكنه لا يتمّثله تماما، وليس كل خرق لغوي يقوم على تداعيات لا شعورية هي تنم عن نضج تجربة شعرية هاجسها التجديد اللغوي.

- ثانيا لغة المجنون ليست لغة بل هذاءات صوتية تلازمها حركات هستيرية صادرة عن لاشعور في التداعي الصوتي الهستيري الذي يفت في عضد العقل السيطرة على ما يتفوّه به المجنون ولا يفهم السوي العاقل منه شيئا.

- الشاعر يخرق بتعبيره الشعري عن قصد مسبق نظام التناغم في المجانسة النوعية للغة كنظام تعبيري جمالي يدركه العقل وتهتز له العاطفة، لذا تكون لغة الشاعر مهما أوغلت في الغرابة التعبيرية والفانتازيا فهي بالمحصلة لا تخرج عن مهمتها أن تكون لغة تواصلية. والشاعر لا تلزمه المطابقة ولا الاستعارة ولا التوظيف الرمزي ولا المجاز أن لا يخرق نظام التآلف اللغوي.

- أما هذاءات المجنون فهي لغة مفككة تخرق قوانين وقواعد وأحكام اللغة بغير ما قصدية يداخلها الشعور كما هي عند الشاعر. هنا الهذاءات تعبيرات لا تمت بصلة لعالم الواقع السوي الذي نعيشه على الاقل من زاوية نظر علم النفس الطبي. لذا فمقولة فوكو وهيدجر أن لغة الشاعر والمجنون هي تعبير حقيقي أصيل عن الوجود أمر مشكوك الأخذ به خارج الهلوسة.

خاصية اللغة هي تعبير عن واقع يجد الانسان فيه حقيقته الوجودية، وربما تكون لغة الشاعر تعبيرا عن عالم متخيّل يقوم على أنقاض واقع مزّيف نعيشه. أما الإعتداد والأخذ بلغة الجنون على أنها فوق لغة فلا يمكن تمريرها كون المجنون دونما دراية مسبقة منه يهرب من عالمنا الواقعي ليس في قصدية إختراعه لعالم لغوي آخر أفضل منه. وأصوات هذاءات المجنون هي تداعيات لا شعورية تخرق كل مجانسة لغوية تواصلية ذات معنى، بخلاف لغة الشاعر التي هي خرق مألوف نظام اللغة بوعي قصدي ينشد من خلاله أن تكون اللغة نظاما جماليا قبل أن تكون ملفوظا تعبيريا هستيريا خال من المعنى.

يتبع لاحقا ج6

 

علي محمد اليوسف /الموصل

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم