صحيفة المثقف

حاتم حميد محسن: مراحل الانتقال من اللاتفكير الى التفكير النقدي

حاتم حميد محسنقديما ذكر سقراط ان الحياة الخالية من التفكير والاختبار لا تستحق ان تُعاش؟ فالحياة في نظره لابد ان تُختبر، ولكن ماذا يمكن ان يفعل الانسان في هذا الاختبار؟ سقراط ادرك ان الانسان هو اكثر من هذه الحياة القصيرة على الارض. فهو لديه روح ابدية، حيث يقرر مصيره الابدي من خلال الخيارات التي يقوم بها في هذه الحياة. ولكي تصبح افكارنا افعالا فلابد لهذه الافعال ان تشكل عاداتنا، وهذه العادات تصنع شخصيتنا الثابتة التي تذهب معنا للخلود. بدون الحكم على حياة الفرد وبدون المعرفة التي نكتسبها عبر الاختبار للافعال التي نقوم بها  فما الغاية من حياتنا اذا؟انها  بذلك سوف لن تختلف عن حياة الكائن الحيواني  وستنتهي الى العبث. تساؤلات سقراط  المُتقنة يمكن اعتبارها ركيزة وحلقة اساسية في التفكير النقدي المعاصر. اذ يمكن استخدام تلك التساؤلات في متابعة الفكر في عدة اتجاهات ولعدة اغراض، بما في ذلك استكشاف افكارا معقدة للوصول الى حقيقة الاشياء، وفي افتتاح القضايا والمشاكل، واماطة اللثام عن الافتراضات، وتحليل المفاهيم لغرض التمييز بين ما نعرف وما لانعرف، واتّباع المضامين المنطقية للتفكير.

المرحلة الاولى: مرحلة اللاتفكير

جميعنا وُلدنا دون ان نفكر، غير واعين اساسا بالدور الذي يلعبه التفكير في حياتنا. معظمنا يموت وهو على هذه الطريقة. في هذه المرحلة من اللاتفكير، لا يوجد لدينا تصوّر عما يعنيه التفكير. فمثلا، باعتبارنا غير مفكرين نحن لا نلاحظ اننا باستمرار نضع افتراضات، نكوّن مفاهيم، نطرح استنتاجات، ونفكر ضمن وجهات نظر. في هذه المرحلة، نحن لا نعرف كيف نحلل ونقيّم تفكيرنا. لا نعرف كيف نقرر ما اذا كانت اهدافنا قد صيغت بوضوح، وان افتراضتنا مبررة، واستنتاجاتنا طُرحت بطريقة منطقية . نحن غير واعين بالخصائص الفكرية ولذا لا نكافح لتجسيدها.

في هذه المرحلة، يقود التفكير السيء الى العديد من المشاكل في حياتنا، لكننا غير واعين بهذا. نحن نظن ان عقائدنا حقيقية. و قراراتنا صائبة.  نفتقر للمعايير الفكرية وليست لدينا فكرة عن ماهية هذه المعايير. نحن نفتقر للسمات الفكرية، ولا ندرك انا نفتقر لها . نحن وبلا وعي نخدع انفسنا بعدة طرق.  نخلق اوهاما سارة ونحافظ عليها . عقائدنا تبدو معقولة لنا، ولذا نحن نؤمن بها بثقة تامة.  نتحدث عن العالم ونحن واثقون ان  الاشياء هي حقا ما يبدو لنا. نحن نحكم على بعض الناس كـ "جيدين" وعلى آخرين بـ "السيئين".  نوافق على بعض الافعال. و لا نوافق على افعال اخرى.  نتخذ قرارات، نقوم برد فعل تجاه الناس، نسلك طريقتنا في الحياة، ولا نتسائل بجد عن التفكير الذي نقوم به ولا عن انعكاساته.

في هذه المرحلة، تلعب الميول لمصالحنا الذاتية  الدور الرئيسي في تفكيرنا، لكننا لا نقر بهذا. نحن نفتقر الى المهارات والتحفيز لكي نلاحظ كم نحن منحازون ومنقادون نحو مصالحنا الذاتية، وكم نحن نستنسخ الآخرين، وكم نتجاهل الافكار دون عقلانية لأننا لا نريد تغيير سلوكنا او طريقتنا المفضلة في النظر الى الاشياء.

المرحلة الثانية: مرحلة التحدي الفكري

هل نحن مستعدون لقبول التحدي؟

نحن لا نستطيع حل المشكلة التي لا وجود لها. لا نستطيع التعامل مع الظروف التي ننكرها. بدون معرفة جهلنا، لا نستطيع البحث عن المعرفة التي نفتقدها. بدون معرفة المهارات التي نحتاج تطويرها، فسوف لن نطور تلك المهارات .

عندما نصبح على وعي بان المفكرين "العاديين" عادة يفكرون بطريقة ناقصة وغير جيدة، سننتقل الى المرحلة الثانية من تطوير التفكير النقدي. سنبدأ بملاحظة اننا عادة:

- نستعمل افتراضات  مشكوك فيها

- نستعمل معلومات زائفة وناقصة ومضللة

- نعمل استدلالات لم تأت من الدليل الذي بحوزتنا

- نفشل في التسليم بوجود مضامين هامة في افكارنا

- نفشل في الاعتراف بالمشاكل التي بحوزتنا

- نكوّن  مفاهيم خاطئة

- نفكّر وفق وجهة نظر متحيزة

- نفكر بانانية وبطريقة لا عقلانية.

اننا ننتقل الى مرحلة "التحدي" حينما نصبح على وعي بالطريقة التي يرسم بها التفكير حياتنا، بما في ذلك الاعتراف ان سوء تفكيرنا يسبب مشاكل في حياتنا. نحن نبدأ بالإقرار ان التفكير السيء قد يكون مهددا للحياة، ربما يقود الى الموت او الى عجز دائم، فنؤذي بذلك الآخرين بالاضافة الى انفسنا. فمثلا، نحن ربما نتأمل التفكير في:

- الفرد الذي يماطل دائما ويؤجل الاشياء باستمرار

- المدير اللاعقلاني الذي لا يستطيع ادراك سبب عدم تصفيق العاملين له

- الفرد الغاضب عموما على العالم

- المراهق الذي يعتقد ان التدخين هو حالة من اتزان الشخصية

- المرأة التي تعتقد ان فحص الرحم غير هام

- صاحب الدراجة النارية الذي يظن ان ارتداء الخوذة يعيق الرؤية، ولذا من الآمان نبذ الخوذة عند السياقة

- الشخص الذي يعتقد بامكانية قيادته للسيارة وهو مخمور

- الشخص الذي يقرر الزواج من امرأة حمقاء اعتقادا منه انها ستتغير بعد الزواج.

نحن نُقر ايضا بالصعوبة التي يتطلبها "تحسين" تفكيرنا. فلو كنا في هذه المرحلة من التفكير، لابد من الإقرار بان مشكلة تغيير عاداتنا في التفكير هو تحدي هام يتطلب تغييرات مكثفة وصعبة في روتين حياتنا اليومي.

بعض الإشارات التي تنبئ ببروز الحالة التفكيرية هي:

- اننا نجد انفسنا نكافح في تحليل وتقييم افكارنا

-  نجد انفسنا  نعمل بتركيبات ذهنية تخلق التفكير،او تجعل هناك امكانية للتفكير مثل: المفاهيم، الافتراضات، الاستدلالات، المضامين، وجهات النظر

- اننا نجد انفسنا نفكر في القدرات والمزايا التي تجعل التفكير سليما - الوضوح، الدقة،   الصلة،الضبط ، المنطق – مع اننا ربما لدينا فقط معرفة اولية بكيفية تحقيق هذه القدرات

- اننا نجد انفسنا مهتمّين بدور الخداع الذاتي في التفكير، رغم ان فهمنا  "مجرد" واننا ربما غير قادرين على اعطاء عدة امثلة من حياتنا الخاصة.

في هذه المرحلة من التطور، هناك خطر معين وهو خداع الذات. العديد من الناس يرفضون قبول الطبيعة الحقيقية للتحدي – التحدي المتمثل بان  تفكيرنا الخاص يمثل مشلكة حقيقية وهامة في حياتنا. لو كان احدنا يفعل كما يفعل العديد من الناس، فانه سوف يعود الى مرحلة اللاتفكير. تجربته في التفكير بشأن تفكيره ستتآكل. عاداته الاعتيادية في التفكير ستبقى كما هي. على سبيل المثال، ربما يجد نفسه يتأمل وفق الطريقة التالية:

تفكيري ليس سيئا. في الحقيقة، انا كنت افكر جيدا لفترة ما. انا اتسائل عن كثير من الاشياء. انا غير منحاز او متعصب. الى جانب ذلك، انا نقدي جدا . وانا غير منخدع ذاتيا كما هو حال معظم الناس الذين اعرفهم.

اذا كان احدنا يفكر بهذه الطريقة، فهو سوف لن يكون وحيدا. انه سوف يرتبط بالاغلبية. النظرة – "اذا كان كل شخص يفكر كتفكيري، فان العالم سيكون رائعا" – هي النظرة المسيطرة. اولئك الذين يشتركون بهذه الرؤية يتراوحون من ذوي التعليم الضعيف الى ذوي التعليم العالي. لا يوجد دليل للقول ان التعليم المدرسي يرتبط بالتفكير الانساني. في الحقيقة، العديد من الخريجين هم مغرورين فكريا نتيجة لتعليمهم المدرسي. هناك اناس غير مفكرين لم يتجاوزوا التعليم الابتدائي، ولكن هناك ايضا من اكملوا دراستهم العليا، الناس اللامفكرون موجودون في الطبقة العليا والوسطى والسفلى من المجتمع. يدخل ضمنهم السايكولوجيون وعلماء الاجتماع والفلاسفة والرياضيين والاطباء والقضاة والمحامون واعضاء مجالس النواب والناس من مختلف المهن.

باختصار، غياب التواضع الفكري هو شائع في كل الطبقات، في جميع مناحي الحياة وفي كل الاعمار. يتبع ذلك ان المقاومة السلبية او النشطة لتحدي التفكير النقدي هي الشائعة، وليست حالة نادرة. وسواء كانت بشكل استهجان او عداء صريح، فان معظم الناس يرفضون تحدي التفكير النقدي. وهذا هو السبب في ان يكون البحث عن الذات امرا هاما في هذه المرحلة من العملية.

المرحلة الثالثة: التفكير الابتدائي

هل نرغب في ان نبدأ؟

عندما يقرر الفرد بحماس قبول التحدي في النمو والتطور الفكري، فانه سيدخل مرحلة نسميها "المفكر المبتدئ". هذه المرحلة من التفكير يبدأ فيها التفكير الجدي. هي مرحلة استعداد قبل ان يحصل الفرد على قيادة وسيطرة واضحة في التفكير. انها مرحلة بدء الادراك . هي تطوير قوة الارادة. انها ليست مرحلة من اللوم الذاتي، وانما  هي بروز الوعي. هي مشابهة للمرحلة التي يعترف فيها الفرد المدمن على الخمر ويقبل تماما حقيقة انه مدمن. لو تصوّرنا المدمن حين يقول "انا مدمن، وانا فقط المسؤول عن ادماني". كذلك يمكن لأحدنا القول "انا مفكر ضعيف ومشاكس وانا فقط المسؤول عن نفسي ".

حالما يعترف الناس انهم "مدمنون" على التفكير الضعيف، فهم يجب ان يبدأوا الاعتراف بعمق بطبيعة المشكلة. نحن كمفكرين مبتدئين  يجب الاعتراف بان تفكيرنا هو احيانا اناني. فمثلا، نحن  نلاحظ ضآلة اهتمامنا بحاجات الاخرين وحجم تركيزنا على مانريده شخصيا. نحن نلاحظ ضآلة اعترافنا بوجهة نظر الاخرين وحجم التأييد الذي نمنحه لصوابية افكارنا. نحن ربما نضع انفسنا في موقف نحاول فيه السيطرة على الآخرين لنحصل على ما نريد، او نقوم بدور الخضوع للاخرين (لأجل الحصول على المكاسب التي يجلبها السلوك المذعن).

نحن كمفكرين مبتدئين في التفكير نبدأ بـ :

- تحليل منطق المواقف والمشاكل

- التعبير عن الاسئلة بوضوح ودقة

- فحص المعلومات من حيث الدقة والملائمة

- التمييز بين المعلومات الخام وبين تفسير الاخرين لها

- الاعتراف بالافتراضات المرشدة للاستدلالات

- تحديد العقائد المتعصبة والمتحيزة، الاستنتاجات غير المبررة، الكلمات التي يساء استخدامها، وغياب المضامين

- ملاحظة الحالات التي تؤثر فيها مصالحنا الانانية على وجهات نظرنا.

وهكذا، نحن كمفكرين مبتدئين سنصبح مطلعين على كيفية التعامل مع تراكيب او اشكال التفكير(الاهداف، الاسئلة، المعلومات، التفسيرات،الخ). نحن نبدأ بتقدير قيمة التفكير في تفكيرنا من حيث وضوحه، دقته، ملائمته، منطقيته، تبريريته، اتساعه، عمقه. لكننا لا نزال في مستوى قليل من المهارة في هذه الفعاليات. انها تبدو صعبة المراس لنا. علينا ان نجبر انفسنا للتفكير بطرق محكمة. نحن كالمبتدئ في الباليه.  نشعر بالسذاجة .لا نشعر بالاناقة.  نتعثر ونرتكب اخطاء. لا احد يدفع نقود من اجل مشاهدة ادائنا. نحن ذاتنا لا نحب ما نراه في المرآة عن عقولنا.

لكي نصل هذه المرحلة الابتدائية في التفكير، يجب ان تبدأ قيمنا بالتحول. يجب ان نبدأ باستكشاف اساس تفكيرنا ونكتشف الكيفية التي نفكر ونعتقد بها حينما نعمل. لنقف الآن على تفاصيل اكثر حول هذا الهدف. لنفكر في بعض المؤثرات الكبيرة التي شكّلت تفكيرنا:

- نحن ولدنا في ثقافة (اوربية، امريكية، افريقية، اسيوية).

- نحن ولدنا في زمن معين (في قرن في سنة).

- انت ولدت في مكان ما (في بلد، مدينة، شمال او جنوب، شرق ام غرب).

- انت نشأت بين والدين وضمن عقيدة معينة.

- انت كوّنت مختلف الارتباطات مع الناس ذوي القيم والعقائد والمحرمات.

اذا اردنا تغيير اي من هذه المؤثرات، فان نظامنا العقائدي سيكون مختلفا. .. لو نفترض ان العديد من هذه المؤثرات خلقت عقائد زائفة لدينا، معنى ذلك انه توجد  في عقولنا حتى الان  عقائد زائفة ونحن نعمل بموجبها. ولكن يجب ملاحظة ان العقل لا توجد فيه آلية لتنقية العقائد الزائفة. نحن جميعنا نحمل في عقولنا تعصبات وميول لثقافتنا،  لأصدقائنا وزملائنا. ان عملية ايجاد طرق لتشخيص تلك العقائد المعيبة واستبدالها باخرى اكثر عقلانية هي جزء من برنامج التفكير النقدي.

ان عقولنا هي عوالم غير مستكشفة، عوالم داخلية  تطبع كل حياتنا . هذا العالم الداخلي هو الحقيقة الأعظم اهمية بالنسبة لنا، لأنه معنا حيثما نعيش. انه يقرر المتعة والاحباط.  يضع حدود ما نرى ونتصور.  يُبرز بوضوح ما نرى. يدفعنا للجنون. يمكنه تزويدنا بالعزاء والسلام والهدوء. لو استطعنا الإقرار بهذه الحقائق الخاصة بنا، سوف نجد الحافز لتبنّي مسؤولية التفكير، ولنكون اكثر من مجرد العوبة في ايدي الآخرين، ونصبح القوة الحاكمة في حياتنا.

المرحلة الرابعة: ممارسة التفكير

التفكير الجيد يمكن ممارسته كلعبة التنس او الباليه او كرة السلة

هل نحن ملتزمون بالممارسة المنظمة؟ عندما يعترف الناس صراحةً ان التحسن في التفكير يتطلب ممارسة منتظمة، ويتبنّون نمط من الممارسة، عندئذ،  سيصبحون  "مفكرين ممارسين".

لا توجد هناك طريقة في عملية تصميم نمط الممارسة. هناك عدة طرق، بعضها جيد، والبعض الآخر سيء . فمثلا، انت ربما تتصفح كتابا يقدم اقتراحات لتحسين التفكير.  هذه الاقتراحات يمكن استخدامها كنقطة بداية.

ربما يراجع البعض فعاليات "اختبار الفكرة"، او يدرس عناصر التفكير،او مستويات التفكير، وخصائص الذهن، وقد يركز آخرون على كيفية عمل قرارات ذكية، او على التفكير الاستراتيجي. اي من تلك المواد تمثل وسيلة هامة في وضع خطة منهجية لتحسين التفكير.

ان مشكلة معظم الناس في ممارسة التفكير انهم لا يستمرون في ذلك بطريقة  منتظمة،هم لا يؤسسون عادات للممارسة المنتظمة.  فيُحبطون بسبب الارتباك والصعوبات التي يلاقونها اثناء المحاولات الاولى للآداء الجيد.

ان النجاح يأتي عادة لمن لديهم التصميم والقدرة على الاستمرار.

يجب وضع الخطط لمواجهة اي احباط او فشل. يمكن تجنب التثبيط والاحباط عبر الاعتراف منذ البداية اننا منخرطون بخطط لإختبار الافكار. يجب إعداد الذات للفشل المؤقت، انها عملية تشبه ارتداء الملابس الجديدة التي قد لا تناسب الجسم جيدا، لكن في النهاية سنعثر على القياس الملائم.

المرحلة الخامسة: التفكير المتقدم

ما الشيء الذي يمكن اعتباره تفكيرا متقدما؟

حينما نصل المرحلة الرابعة ونمارس المهارات، سنكون قادرين في الاجابة على هذا السؤال. كل ما نحتاج هو ان نضع خطة ونقرأ المصادر الآنفة الذكر.

 

حاتم حميد محسن

..................

من كتاب التفكير النقديcritical thinking ، تأليف Richard Paul & Linda Elder، مطبوعات مؤسسة التفكير النقدي(2002)،الطبعة الثالثة (10سبتمبر2011).

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم