صحيفة المثقف

زهير جمعة المالكي: موقع العراق من استراتيجيات الصراع الدولي (1-3)

1- المقدمة: يعتبـر المفكر الهندي (كوتيليـا) 296-312 قبل الميلاد وزير الملك شاندرا غوبتا، أول من وضع اساسيات الواقعية السياسية في العلاقات الدولية . وقد وضع كتاب ” أرتاشاسترا ” ـ علم السياسة / علم الحُكم" وطرح في الكتاب مفهوم الماندالا، حيث ترى المملكة مصالحها الدبلوماسية عبر دوائر تتسع باستمرار، فتتحالف مع الدائرة الثانية بالترتيب، لتتوحدا ضد الدائرة الوسطى بينهما، وهو ما يشير إلى مبدأ عدو العدو صديق، ومن أقواله المشهورة " أن فلول عدو ما قد يُصبح أثرُه كبقايا وباء أو حريق، ومن هنا ينبغي إبادة تلك الفلول تماماً، وعلى المرء ألاّ يتجاهل عدواً حتى ولو كان يعرف أن ذلك العدو ضعيف؛ إذ إنه قد يُصبح خطِراً بمرور الزمن "كالشرارةِ في كومٍ من الهشيم". وهو اول من كتـب حول الحرب والتحـالف ودور العوامل الجغرافيـة ومفهـوم القـوة، التي تقـوم بهـا الدولة ومفهوم القوة ونظام توازن القوى [1]. انطلاقا من هذه الأفكار برزت فكرة التنافس الدولي الذي هو يعرف بانه ذلك الإختلال الذي يحصل فـي المجتمـع الـدولي قد تتضخم وتأخـذ صـورة الصـراع إذ لـم تـتم معالجتها، فالـدول تسـعى إلـى تعظـيم مكاسـبها وفقـا لمفهـوم المصـلحة الوطنيـة بشـكل قـد يتنـاقض مـع مصـالح دول أخـرى ممـا قـد يولـد حالـة مـن التنـافس وقـد يشـمل التنـافس مجـالا محـددا وقـد يتسـع ليشمل مجالات عديدة كالتنافس الإقتصادي والسياسي والحضاري،خاصة إذا كانت الدول التي يطبع علاقاتهـا التنافس متباينة إيديولوجيا أو متباينة في المنهجين الإقتصادي والسياسي لكل منهما [2].

يقول (الدكتور أناتولي إيفانوفيتش أوتكين)، العالم الروسي البارز في مجال الدراسات الأمريكية “إن معنى التاريخ العالمي هو تجديد الميزان العالمي بعد اختلاله، أي إن المنبوذين، والذين ضعفوا سيتوحدون بصورة حتمية ضد القوي[3]. مع نهاية الحرب الباردة وانهيار نظام الثنائية القطبية نتيجة لتفكك الاتحاد السوفيتي، ظهر نظام دولي جديد من ابرز ملامحه ظهور الولايات المتحدة كقوة وحيدة ومهيمنة، تسعى الى تعزيز تواجدها في العديد من مناطق العالم خاصة منطقـــة الشـــرق الاوســـط من اجل السيطرة والتفوق وتكريس الاحادية القطبية، وقد جسدت ذلك في الواقع بتدخلاتها العسكرية في العديد من الدول كالعراق وأفغانستان . هذا الوضع بدأ يتغير ويتجه نحو التنافس بسبب التحول الكبير في موازين القوى الاقتصادرية وبروز التنين الصيني بقوة على الصعيد الدولي . فقد اخذت الصين تعمل على تعزيز قوتها الشاملة وتسعى لاحتلال مكانة متقدمة وحماية مصالحها الاستراتيجية في العديد من المناطق خاصة منطقة الشرق الأوسط . هذا التوجه الصيني يقابله تحرك امريكي حثيـث في محاولة لمنع اي تغلغـل لاي منافس جديد . بالإضافة الى الجهود الروسية لاستعادة امجاد الإمبراطورية السوفيتية . من هذا الصراع نجد ان في عالم اليوم هناك تنافس بين ثلاث دول كبرى، دولة بحرية (الولايات المتحدة) ودولة برية (روسيا)، وبينهم دولة مزدوجة (الصين) على النفوذ والسيطرة، ليس فقط في منطقة الحافة، بل أيضاً في "القلب العالمي"، وأخيراً أفريقيا.

في خضم هذا الصراع القديم – الجديد بدات تبرز أهمية عوامل جديدة تؤثر وبقوة على رسم الاستراتيجات التي تدير دفة ذلك الصراع ومن أهمها عامل الموقع الجغرافي الذي اصبح عاملا أساسيا في إنجاح او افشال الاستراتيجيات الدولية والتي وصفها روبرت كابلان بقوله " الجغرافيا هي العامل الاكثر أهمية في السياسة الخارجية للدول، لانّها أكثر العوامل ديمومة، يأتي الوزراء ويذهبون، وحتّى الطغاة يموتون، لكن السلاسل الجبلية تظّل راسخة في مكانها"[4] . وقد سعت كل دولة من الدول الكبرى الى وضع استراتيجية خاصة بها اعتمادا على موقعها الجغرافي وقدراتها والاهداف التي تسعى لتحقيقها .

من هنا تبرز أهمية الموقع الاستراتيجي للعراق باعتباره عقدة المواصلات البرية والبحرية للبر الرئيسي المسمى اوراسيا . فالعراق هو الجسرالذي يربط بين القلب الشمالي " الرقعة الجغرافية الممتدة بين الفولغا حتى شرق سيبيريا" والقلب الجنوبي " أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى"، كما وانه يدخل ضمن الهلال الداخلي الذي يشمل سواحل أوربا وشبه الجزيرة العربية وسواحل جنوب شرقي أسيا والهند وقسماً كبيراً من البر الصيني المحيط بمنطقة الارتكاز التي تشمل نطاق الاستبس من التركستان الروسية حتى جنوب شرقي أوربا, وبما ان العراق يقع في نهاية الهلال الداخلي من جهة الشرق في قلب جزيرة العالم بين القارات الثلاثة القديمة لذا فأن موقعه الجغرافي ذو أهمية استراتيجية عالية وكبيرة بسبب تحكمه بالطريق الذي يربط بين تلك القارات[5]. وهذا مايفسر الصراع الدولي والإقليمي على جذب العراق في هذا الاتجاه او ذاك .

سنقوم في هذا البحث بدراسة التوجهات الاستراتيجية للقوى المتصارعة الثلاث ومدى تاثيرها على الواقع السياسي والاقتصادي في العراق ومستقبله في ظل عالم متغير ومتصارع .

2- تحديد الأهداف

"اسمحوا لي فقط أن أقول إنني أعتقد أيضا أن الرئيس ترامب كان على حق في اتخاذ موقف حازم تجاه الصين". بهذه الكلمات حدد وزير الخارجية الأمريكي الجديد (أنتوني بلينكن)، خلال جلسة تثبيته في مجلس الشيوخ، التحدي الأكبر للولايات المتحدة، وتعهد باتخاذ "نهج أكثر صرامة تجاه الصين". كما قال وزير الدفاع الجديد الجنرال لويد أوستن، خلال جلسة تثبيته في مجلس الشيوخ، بأن الصين تمثل "خطرا متزايدا، وأن التصدي لها سيكون من أبرز اتجاهات أنشطة البنتاغون" في عهد بايدن. أما مستشار الأمن القومي جيك سوليفان، فقد أشارفي حديث له أمام معهد السلام بواشنطن إلى أن "الصينيين يعتقدون أن نموذجهم أنجح من النموذج الأميركي، وهذا ما يروجون له حول العالم".

في اول أيام جو بايدن في البيت الأبيض تم نشر تقرير مكون من 23 صفحة بعنوان " الدليل الاستراتيجي للأمن القومي المؤقت"   Interim National Security Strategic Guidance حدد فيه أولويات الإدارة الجديدة وقد جاء فيه:

“The most effective way for America to out-compete a more assertive and authoritarian China over the long-term is to invest in our people, our economy, and our democracy. By restoring U.S. credibility and reasserting forward-looking global leadership, we will ensure that America, not China, sets the international agenda, working alongside others to shape new global norms and agreements that advance our interests and reflect our values” [6].

"الطريقة الأكثر فعالية لأميركا للتغلب على الصين الأكثر حزماً واستبدادية على المدى الطويل هي الاستثمار في شعبنا واقتصادنا وديمقراطيتنا. فمن خلال استعادة مصداقية الولايات المتحدة وإعادة تأكيد القيادة العالمية التطلعية، سنضمن أن تضع أميركا، وليس الصين، جدول الأعمال الدولي، والعمل جنباً إلى جنب مع الآخرين لتشكيل معايير واتفاقيات عالمية جديدة تعزز مصالحنا وتعكس قيمنا".

We also recognize that strategic competition does not, and should not, preclude working with China when it is in our national interest to do so. Indeed, renewing America’s advantages ensures that we will engage China from a position of confidence and strength

"نحن ندرك كذلك أن المنافسة الاستراتيجية لا تمنع، ولا ينبغي، أن تمنع العمل مع الصين عندما يكون ذلك في مصلحتنا الوطنية. في الواقع، فإن تجديد مزايا أميركا يضمن أننا سنشرك الصين من موقع الثقة والقوة. سنجري دبلوماسية عملية موجهة نحو النتائج مع بكين وسنعمل على تقليل مخاطر سوء الفهم وسوء التقدير" .

اذن فقد وضعت إدارة بايدن صوب عينيها ان المنافس الأساسي للولايات المتحدة الامريكية على الصدارة هو الصين . وحيث إن الرئيس وفق النظام الأميركي، يقع في قمة الهرم في اتخاذ قرارات السياسة الخارجية في الولايات المتحدة، من المنظورين القانوني والسياسي، غير أنه يمسك بآلية اتخاذ القرار من طرف خيط دقيق، إذ لا يمكن لرجل واحد اتخاذ القرار في دول ذات نفوذ عالمي مماثل. أي إن الرئيس يشكّل الجزء الظاهر من إدارة ضخمة، حيث هناك آلاف المستشارين في البيت الأبيض، هذا إلى جانب الوزارات الضخمة والمؤسسات الرسمية التابعة لها أو تلك الخاصة التي تعمل لمصلحتها[7] . هذه الحقائق لا تلغي المشروع الخاص بكل رئيس وما يحمله من أفكار واتجاهات حيال قضايا معينة، فضلًا عن سماته الشخصية وطريقته في التفكير والعمل. إذ يدرك بايدن حجم التأثير الكبير للصين على الاقتصاد الأميركي، وقد سبق لأولبرايت أن لخّصت الحال بالقول إن لدى الصين “سلطة الحياة والموت على ملايين الوظائف الأميركية”[8] . انطلاقا من ذلك الادراك وجه بايدن تعليمات لوزير الدفاع الجديد بمراجعة الإستراتيجية العسكرية لبلاده تجاه الصين، مع التركيز على المجالات الحيوية التي تشمل المخابرات والتكنولوجيا والوجود العسكري الأميركي في المنطقة. وكانت وزارة البحرية الامريكية قد اعدت خطة استراتيجية لعام 2021، تركّز الولايات المتحدة في تلك الاستراتيجية على دور قواتها البحرية في دعم سيطرتها العالمية، حيث إن الغرض من هذه الاستراتيجية هو تأمين القدرة على التدخل ما وراء البحار، عبر نشر المزيد من قطعاتها البحرية حول العالم، وتعزيز تحالفات أميركا القائمة وبناء تحالفات جديدة والمشاركة في المناورات العالمية، وصنع الوكلاء عبر العالم خصوصًا في المنطقة الهندو آسيوية للمحيط الهادئ، في سعي للتعامل بشكل أكبر مع مسألة نهوض القوى البحرية الصينية وتوسعها هناك، مما يدل على نية الولايات المتحدة في السيطرة على التجارة في المحيط الهندي والهادئ وحتى احتكارها، وتقييد الاستخدام العسكري أو الاقتصادي للمحيطات من قبل دول أخرى. وتهدف هذه الاستراتيجية، بشكل أساسي، إلى منع قدرة الصين على الدفاع عن مناطق اتصال بحرية من التدخل الخارجي، هذا التدخّل الذي تعيقه الصواريخ الصينية المضادة للسفن والتي تثير قلق واضعي الاستراتيجية. وقد جاء في تلك الاستراتيجية:

"الاستراتيجية البحرية تؤكد مبدأين تأسيسيين،أولا إن الوجود البحري الأمريكي المتقدم ضروري لإنجاز المهمات البحرية التالية المستمدة من التوجيه الوطني: الدفاع عن الوطن وردع الصراع، والاستجابة للأزمات، وهزيمة العدوان،وحماية المشاعات البحرية، وتعزيز الشراكات، وتقديم المساعدة الإنسانية،والاستجابة للكوارث .إن قواتنا البحرية المكتفية ذاتيا العاملة في المشاعات العالمية،تضمن حماية الوطن بعيدا عن شواطئنا، في الوقت الذي توفر فيه لرئيس الولايات المتحدة مجالا من القرارات والخيارات لحرمان العدو من تحقيق أهدافه، والحفاظ على حرية العمل، وضمان وصول قوات المتابعة. ثانيا،القوات البحرية تزداد قوة عندما تعمل معا،وجنبا إلى جنب مع الحلفاء والشركاء .إندمج إمكانياتنا وقدراتنا الفردية ينتج عنه تأثير بحري مشتركه وأعظم من مجموع أجزائه . ومن خلال العمل معا في الشبكات الرسمية وغير الرسمية،نتمكن من معالجة التهديدات للمصالح الأمنية البحرية المشتركة"[9]. وقد اكدت تلك الخطة على أهمية التعاون مع الحلفاء من اجل حماية المصالح المشتركة بالقول "تسعى الولايات المتحدة، على أساس المصالح الاستراتيجية المشتركة، إلى تعزيز التعاون مع حلفاء منذ أمد بعيد في منطقة المحيط الهندي-آسيا- المحيط الهادي ـــ وأستراليا واليابان ونيوزيلندا والفلبين وجمهورية كوريا وتايلاند، وتستمر في تنمية شراكات مع دول مثل بنغلاديش وبروناي والهند وإندونيسيا وماليزيا وميكرونيزيا وباكستان وسنغافورة وفيتنام" [10] . اما بالنسبة للصين فقد ورد في تلك الخطة "التوسع البحري الصيني أيضا تحديات عندما تستخدم القوة أو الترهيب ضد دول أخرى ذات سيادة لتأكيد المطالب الإقليمية .هذا السلوك، جنبا إلى جنب مع عدم وجود الشفافية في نواياها العسكرية، يسهم في التوتر وعدم الاستقرار، مما قد يؤدي إلى سوء التقدير أو حتى التصعيد . إن الخدمات البحرية للولايات المتحدة، من خلال استمرار وجودنا المتقدم، والتفاعل البناء مع القوات، تقلل من احتمالات سوء الفهم، وتحبط العدوان، وتحافظ على التزامنا بالسلام والاستقرار في المنطقة" [11] .

بناء على تلك المعطيات اعلنت وزارة الدفاع الأمريكية، عن تشكيل فرقة عمل لتقييم السياسات حول الصين وتقديم التوصيات بشأن التعامل معها. وتتكون الفرقة من خمسة عشر مسؤولاً مدنيًا وعسكريًا، بقيادة (إيلي راتنر)، نائب مستشار الأمن القومي السابق لبايدن الذي انضم إلى الوزارة كمساعد خاص لوزير الدفاع لشؤون الصين، كما تضم الفرقة الباحثة بمركز التقدم الأميركي (ميلاني هارت) التي ستشرف على مراجعة قرارات إدارة بايدن اتجاه الصين خاصة تلك التي تتعلق بشركات التكنولوجيا كما تنضم للفرقة (إليزابيث روزنبرغ) من وزارة الخزانة.

3- الخلفية التاريخية للصراع

قدم هنتنغتون أطروحة الصدام في مقال شهير عن السياسة الخارجية الأمريكية عام 1993، وجادل بأنه مع انهيار الشيوعية لم تعد المنافسات الآيديولوجية هي ما يقود شؤون العالم، وبدلا من ذلك سيحدث صراع بين الثقافات والدين والهوية، وأن الحضارة الغربية في أوروبا وأمريكا الشمالية وحضارة «سينيك» التي تضم الصين والكثير من جيرانها الآسيويين، ستكون من ضمن الحضارات المتصارعة. فهو يرى أن الحرب والنزاعات بعد الان لن تكون بني الطبقات الاجتماعية او الاقتصادية بل ستكون بين القوميات والاديان والحضارات وهو يعني فترة ما بعد الحرب الباردة، سيكون صراعا على اساس الهوية، كذلك سيكون صراعا على الهوية نفسها اي صراع داخلي بني اقطاب الحضارة ذاتها[12].

يعود تاريخ الصراع الأميركي-الروسي إلى نهايات الحرب العالمية الثانية، ونشوء المعسكرين الغربي والشرقي، والمجابهة العالمية والجيوسياسية والاقتصادية والإيديولوجية بين الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها من جهة، والاتحاد السوفياتي من جهة أخرى. فقد أثبت كل من الطرفين مجال نفوذه من خلال الكتلتين السياسيتين والعسكريتين، وهما حلف شمال الأطلسي وحلف وارسو، وتجسّد ذلك في محطات تاريخية عديدة في فيتنام، كوريا وغيرهما. إضافة إلى السباق على التسلّح وظهور ما يسمى بالحرب الباردة.لقد أثّر تفكّك الاتحاد السوفياتي في العام 1991، في العلاقات الأميركية-الروسية، فأنتج الواقع الدولي بعد انتهاء الحرب الباردة بيئة دولية جديدة تمثلت بسيطرة الولايات المتحدة منفردة على العلاقات الدولية بجميع جوانبها، الأمر الذي انعكس على طبيعة العلاقات الأميركية الروسية، بل أصبحت هذه العلاقات غير متكافئة وتحديدًا خلال فترة التسعينيات من القرن الماضي.

يقول صاموئيل هنتغتون "ﺃﻥ ﺍﻟﻌﺩﺍﺀ ﺍﻟﻤﺘﺯﺍﻴﺩ ﺒﻴﻥ ﺍﻟﺼﻴﻥ ﻭﺍﻟﻭﻻﻴﺎﺕ ﺍﻟﻤﺘﺤﺩﺓ، ﻜﺎﻥ ﻤﺩﻓﻭﻋﺎ ﻓﻲ ﺠﺯﺀ ﻤﻨﻪ ﺒﺎﻟﺴﻴﺎﺴﺔ ﺍﻟﺩاخلية في كل من ﺍﻟﺒﻠﺩﻴﻥ "[13]. يعود تاريخ العلاقات الرسمية الأميركية – الصينية إلى أواسط القرن التاسع عشر، عند توقيع أول اتفاقية دبلوماسية بين البلدين عُرفت بـ( معاهدة وانغيا )عام 1844، والتي حصل الرعايا الأميركيون بموجبها على الامتيازات والحصانة الدبلوماسية[14]. ولكن ﺍﻟﺤﺭﺏ ﺍﻟﻌﺎﻟﻤﻴﺔ ﺍﻟﺜﺎﻨﻴﺔ ﻭﻤﺎ ﺘﻼﻫﺎ أدى الى ﺘﺤﻭﻴل ﺍﻟﺘﻔﻜﻴـﺭ ﻓـﻲ ﺍﻟﻌﻼﻗـﺎﺕ . ﺍﻟﺩﻭﻟﻴﺔ من المثالية الى الواقعية [15] . فقد دخلت الولايات المتحدة الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفيتي، خشية أن يمتد نفوذه خارج حدوده باتجاه منطقة الخليج العربي الغني بالنفط، ما يعني تهديد لمصالحها وعلي راسها النفط [16] فكان عليها إبعاد القوى المنافسة لها من خارج المنطقة والقوى الحيوية إلاقليمية التي قد تعارض مصالحها، فاتبعت "سياسة الاحتواء" على أساس انتشار قواتها في المنطقة من خلال وجود قواعد عسكرية والابقاء على أسطولها البحري ما يضمن لها حماية مصالحها في المنطقة.[17] وسياسة الاحتواء سياسة صاغها جورج كينان سفير الولايات المتحدة الأمريكية في موسكو عام 1947،وتبناها الرئيس الأمريكي هاري ترومان، تقوم على إنشاء سلسلة من الأحلاف والقواعد العسكرية بهدف عزل الاتحاد السوفيتي ومنع انتشار نفوذه في العالم [18]. وكانت تلك السياسة تتركز على “الأحزمة المتعاقبة”، وذلك لتطويق الاتحاد السوفياتي عبر ما يُعرف في الفقه الاستراتيجي الأميركي بـ”قوس الأزمات”، أي القوس الذي يتيح لأميركا أن تعزل الاتحاد السوفياتي وتحاصره، بدءًا من بحر البلطيق شمالًا مرورًا بأوروبا ثم تركيا وإيران، ومنها شرقًا حتى الصين [19].

بعد تفكك الاتحاد السوفيتي قامت الولايات المتحدة بتطوير سياسة الاحتواء، حيث قامت لجنة الدفاع المكلفة بالشؤون الخارجية بالبنتاغون عام 1992 بإعداد "دليل التخطيط الدفاعي" وجاء فيه: " إن هدفنا الأول هو تفادي ظهور منافسين جدد، إن هذه رؤية عامة تقع تحتها الإستراتيجية الدفاعية الإقليمية، وتتضمن سعينا الدائم لمنع آي قوة معادية من السيطرة على آي منطقة يمكن لثرواتها عندما ً تصبح تحت السيطرة أن تكون كافية لإطلاق قوة عظمى...وبناءا عليه ينبغي أن نملك آليات تردع مالكي إمكانيات التحدي من الطموح نحو التوسع في الدور الإقليمي أو العالمي" [20].

شغلت الصين حيزًا مهمًا من تفكيرمنظري السياسة الامريكان ومنهم (جوزيف س. ناي)، الأكاديمي ومساعد وزير الدفاع للشؤون الأمنية الدولية في حكومة (ببل كلينتون)، والذي جادل منظّري الأحادية القطبية، ويُنسب إليه ابتكار مصطلح “القوة الناعمة”، رأى أن “عبارة صعود الصين اسم على غير مسمى، إذ إن عبارة “عودة الصين” ستكون أكثر دقة، بما أن المملكة الوسطى [الاسم االقديم للصين] كانت من حيث الحجم والتاريخ لفترة طويلة، قوة كبرى في شرق آسيا. فقد كانت الصين فنيًا واقتصاديًا قائدة للعالم -ولو من دون امتداد عالمي – من سنة 500 إلى سنة 1500. فلم تتفوق عليها أوروبا وأمريكا إلا في نصف الألفية الأخيرة"[21]. وبحسب ما ذكره ناي، نقلًا عن محللين آخرين، "فإن الصينيين يصوّرون الولايات المتحدة بشكل روتيني “العدوَّ رقم 1” في البيانات الحكومية، والتقارير الإخبارية في الصحف التي تديرها الدولة، وفي الكتب والمقابلات. وأنه “ليس من المحتوم أن تشكّل الصين تهديدًا للمصالح الأميركية، لكن هناك احتمالٌ بخوض الولايات المتحدة حربًا ضد الصين أكثر من احتمال خوضها ضد أي قوّة كبرى غيرها"[22].

إنّ الاهتمام الاستراتيجي الأميركي بشرق آسيا سابق على المرحلة الحالية التي يكثر فيها الحديث عن هذه “الانعطافة” في السياسة الخارجية الأميركية منذ فترة حكم الرئيس باراك أوباما، لكون هذا التوجّه قد شهد زخمًا أكبر في عهده، ولا سيّما ولايته الثانية. لقد قامت الإدارة الأميركية، والتي ترى في منطقة بحر الصين الجنوبيّة مصلحة قوميّة جوهريّة، بإطلاق ما يسمّى (محور آسيا) والذي يحوّل سياسة الولايات المتّحدة تجاه الصين من سياسة مبنيّة، بشكل واسع، على مصالح تجاريّة مشتركة، إلى أخرى هدفها احتواء نهوض الصين، لذلك كانت رحلة الرئيس أوباما -التي رافقتها تغطية إعلاميّة كثيفة- إلى جنوب شرقي آسيا مؤشّرًا جيّدًا على نيّة واشنطن في إحاطة الصين وعزلها [23]. ومن المؤشّرات الدّالة على أهمّية المنطقة أميركيًا، أنّه من بين القواعد العسكرية الأميركية المنتشرة حول العالم والتي تقدّر بنحو 750 قاعدة، تتوزّع على 130 دولة[24]، (والبعض يرفع العدد إلى 1000 قاعدة) فإنّ 109 قواعد منها تقع في اليابان و85 في كوريا الجنوبية[25]، فيها أربعة وثمانون ألف جندي، 47 ألفًا في اليابان و37 ألفًا في كوريا الجنوبية[26].

يتبادل الصينيون والأميركيون الاتهامات بأن الجانب الآخر يعمد إلى “عسكرة” بحر الصين الجنوبي. وعلى الرغم من إعلان الأميركيين أنهم لا ينحازون لطرف ضد آخر في النزاعات الإقليمية، لكنهم أرسلوا سفنهم الحربية وطائراتهم العسكرية إلى المناطق القريبة من جزر متنازع عليها، في عمليات يطلقون عليها اسم “عمليات حرية الملاحة” ويقولون إنها تهدف إلى إبقاء طرق الملاحة البحرية والجوية مفتوحة للجميع [27]. قلق واشنطن من نفوذ الصين في المحيط الهندي أيضًا دفعها إلى تعزيز علاقاتها مع الهند كجزء من استراتيجيتها لمواجهة الصين، مستغلّةً حالة التنافس المتصاعدة بين الجارتين الآسيويتين، ولا سيّما بعد تزايد الأنشطة والمشاريع الصينية في سريلانكا، منطقة النفوذ الهندية والتي باتت تحت تأثير النفوذ الاقتصادي الصيني عبر المرافئ الممولة من قبل الاستثمارات الصينية، وكذلك في باكستان، العدو التاريخي للهند. يقول بانيتا: “مع الهند، عملنا على إطلاق مبادرة تنمية غير مسبوقة لتبسيط عمليات التصدير في ما بيننا وتعميق تجارتنا وإنتاجنا المشترك في المجال الدفاعي[28].

4- الاستراتيجية الامريكية لادارة الصراع

يقول " روبرت شتراوس هوب" وهو دبلوماسي وأكاديمي أميركي في كتابه " توازن الغد " الصادر عام 1994م:إن " المهمة الأساسية لأمريكا توحيد الكرة الأرضية تحت قيادتها، واستمرار هيمنة الثقافة الغربية، وهذه المهمة لابد من إنجازها بسرعة في مواجهة نمو آسيا وأي قوى أخرى لا تنتمي للحضارة الغربية " .

يعتبر مفهوم الإستراتيجية من أقدم المفاهيم التي عرفتها البشرية، حيث ظهرت في بداية الأمر في المجال العسكري ثم انتشر استعمالها حتى دخلت جميع المجالات والأنشطة الإنسانية. وقد تبلورت البذور الأولية للاستراتيجية كمفهوم، وفكر، ثم كوسيلة وكممارسة، مع الصراع المسلح منذ كان في أشكاله الأولى، ليبدأ مفهوم الإستراتيجية في التطور في مطلع عصر النهضة الأوروبية ليصبح جزءا من العلوم الاجتماعية ويرتبط بمجموعة من النظريات الاقتصادية والسياسية. وقد عرف "اربرت غوزنسكي" الاستراتيجية "بأنها المفهوم المركزي الموجه ِالذي يضم كل العناصر ويوجهها نحو غاية محددة" [29]. اما "الإستراتيجية في العلاقات الدولية:"فهي وضع خطط وتكتيك لقوة تسيير العمليات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والعسكرية في خضم المصلحة الوطنية، بحيث الإستراتيجية لا تقتصر على المجال العسكري فقط بل تمتد لكل الاختصاصات والقطاعات التي يمكن من خلالها بناء الدولة [30]. فالإستراتيجية هي أداة لتحقيق الأهداف والتأثير في إدارة دولة ما كي تستجيب لإدارة دولة أخرى، ويكون التأثير سواء بالإكراه باستعمال الإستراتيجية الحربية أو بالإقناع باستخدام الدبلوماسية[31].

يقول (ستانلي هوفمان) "أن العلاقات الدولية "هي العوامل والأعمال التي تؤثر في السياسات الخارجية والقوة للوحدات الأساسية التي ينقسم إليها العالم" [32]. "تأسست السياسة الأمريكية الخارجية على تجاذب الجدل بين المصالح والأخلاق، أو بين البراغماتية والأيديولوجية. وهي نفس العناصر التي عملت بها حتى بعـد الحـرب البـاردة لتحقيق طموحات النخب الحاكمة في الهيمنة على العالم. ويعني الاتساع والتنوع في أهـدافها العامة، عدم ثبات تلك الأهداف وتغيرها بتغير الظروف الداخلية للولايات المتحـدة وبطبيعـة الحال بتغير الظروف العالمية المتداخلة مع المصالح الأمريكية"[33] . ولكنها تتمحور حول فكرة أهمية السيادة الامريكية لحفظ التوازن في العالم، يقول صموئيل ب.هانتينغتون  "إن عالماً دون سيادة أميركية سيكون عالماً متسماً بدرجة من العنف والاضـطراب أكبـر وبدرجة من الديمقراطية والنمو الاقتصادي أقل من العالم الذي تستمر فيه الولايات المتحدة فـي ممارسة النفوذ،اكثر من أي بلد آخر، في إدارة الشؤون العالمية . وهكذا، فإن السـيادة الدوليـة المستمرة للولايات المتحدة هي أمر رئيس ومهم لرفاه وأمن الأميـركيين ولمسـتقبل الحريـة، والاقتصادات المفتوحة، والنظام الدولي في العالم "[34] . يتجسد التفكير الاستراتيجي الأمريكي في ثلاث مدارس رئيسية هي:

1- المدرسة التقليدية المحافظة. وابرز مفكريها وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر ويمكن مطالعة آرائه بالعودة إلى كتابين له: الدبلوماسية (1994)، وهل تحتاج أمريكا سياسة خارجية؟ نحو دبلوماسية القرن الواحد والعشرين (2001). وتتركز افكارها في أن الخطر الأساسي الذي يواجه أمريكا هو عدم استقرار وتوازن العلاقات بين القوى الرئيسية في العالم، ويعتبران أن دور التحالفات والشراكة أساسي بينها.

2- المدرسة التدخلية الحازمة . وتتمثل في أفكار المحافظين الجدد، ويركز هولاء على أن التهديد الأخطر الذي يواجه الولايات المتحدة هو ما يمكن تسميته بحزام الفوضى الجنوبي من الكرة الارضية والارهاب، ولا يعلقون أهمية كبرى على دور التحالفات والشراكات، ويؤمنون بأحقية التدخل العسكري المنفرد للولايات المتحدة حسب رغبتها.

3- المدرسة التدخلية المتدرجة (الإنتقائية) بالشراكة. يمكن وصفها أيضا بالمدرسة الليبيرالية المثالية فيعد أبرز مفكريها بريجنيسكي الذي نجد أفكارها في كتابين من كتبه العديدة وهما: رقعة الشطرنج الكبرى: تفوق أمريكا ومسلتزماتها الجيوستراتيجية (1997) وكتاب: الاختيار: هيمنة عالمية أم قيادة. وجوزف ناي في كتابه: القوة الناعمة: وسائل الفوز في عالم السياسة. تتقاطع نظرة هذه المدرسة مع مدرسة المحافظين الجدد في تحديد الخطر المهدد للولايات المتحدة باعتباره قوس الأزمات أو الفوضى الجنوبي، بالاضافة إلى الارهاب ولكن تختلف في سبل المواجهة .... إذ تعول كثيراً على أهمية التحالفات والشراكة الدولية وعلى استخدام القوة الناعمة والدبلوماسية في السياسة الخارجية الأمريكية، لبناء إجماع استراتيجي وتحالفات ضرورية والنظر إلى أن قيادة أمريكا للتحالفات الدولية يجب أن تكون مستندة إلى قناعة الآخرين الطوعية بها، مع إتباع سياسة توازن بين الحزم والتعاون مع روسيا. ويخشى من تنامي منافسة قطبية تستند إلى تعزيز الصين لدورها الأقليمي والعالمي مقابل تنامي المخاوف اليابانية في محيطها الحيوي. ويعتبر أنه من الحكمة اعتماد استراتيجية تأخذ في الاعتبار مصالح الصين المشروعة وتخفيف أية اندفاعات محتملة لها نحو طموحات أمبريالية[35].

ويعتبر زبينغو بريجينسكي وهنري كيسنجر من ابرز وجوه الاستراتيجية الامريكية الخارجية . حيث يقول بريجنسكي: "إن الهيمنة قديمة قدم الإنسان ذاته . ولكن السيطرة العالمية الراهنة لأميركا تتميز بسـرعة ظهورها، وبحجمها العالمي، وبطريقة ممارستها. فخلال قرن واحد حولت أميركا نفسها، وحولت أيضاً بواسطة ديناميات دولية، من دولة معزولة نسبيا في نصف الكرة الغربي إلى قـوة تصـل سلطتها إلى ارجاء العالم كلها وتمسك بهذه الأرجاء على نحو لم يسبق له مثيل قط "[36]. "يصف الواقعيون المدرسة الواقعية، في السياسة الخارجية الأمريكيـة، بأنهـا التنصل من الأخلاق في السياسة، وممارسة القوة، وتجنب المغـامرة، والتمـسك بأهـداف الذات بغض النظر عن الوسائل. ويعمل الواقعيون على التعامل مع الواقع على ما هو عليـه في صورة ممارسة فردية دون تأثير أيديولوجي" [37]. هناك تقاليد راسخة في السياسة الأمريكيـة الخارجيـة تمنح الأولوية للاقتصاد والتجارة والدفاع عن المصالح الحيوية للولايات المتحدة .وتنشأ هذه السياسة عن جدل مستمر بـين البراغماتية والايدولوجيا وبين العمل والفكر. فالجانب الأيديولوجي فـي الـسياسة الخارجـية تحركه عدة عناصر أهمها [38]:

1- الاستثنائية الأمريكية .

2- إغـراء الانعزاليـة .

3- الواقعية.

4- الطرف الواحد .

تعتبر الولايات المتحدة الامريكية منطقة بحر الصين الجنوبية مصلحة قومية جوهرية لذلك قامت بإطلاق ما يسمى محور اسيا uلى شكل مشروع قانون جرى تقديمه إلى الكونغرس الأمريكي في العام 1999، ويتضمن إقامة شبكة لنقل الطاقة، تربط أوروبا الغربية بآسيا الوسطى، وربما بالشرق الأوسط على شكل نظام أمن عابر لأوراسيا يقوم على أساس عسكرة الممر الأوراسي بوصفه جزءاً لا يتجزأ من «الاستراتيجية الكبرى». ويتمثّل الهدف، مثلما جرت صياغته في إطار مشروع القانون في تطوير إمبراطورية اقتصادية أمريكية على طول الممر الجغرافي الواسع.اصبح هذا الاتجاه في ظل إدارة بوش أساس النزعة التدخلية لدى الولايات المتحدة والناتو، وذلك بهدف إدماج جمهوريات جنوب القوقاز وآسيا الوسطى السوفييتية السابقة في دائرة نفوذ الولايات المتحدة. للوصول الى عسكرة مجمل الممر الأوراسي، انطلاقاً من شرقي المتوسط وحتى الحدود المشتركة للصين الغربية وأفغانستان، كوسيلة لضمان التحكم باحتياطيات النفط والغاز الكبيرة، وكذلك لـحماية أنابيب النفط وممرات التجارة. وقد أفاد غزو أفغانستان في تشرين الأول 2001 في دعم الأهداف الاستراتيجية للولايات المتحدة في آسيا الوسطى، بما في ذلك التحكم بالممرات . كان هذا الاتجاه موجهٌ إلى حدّ كبير ضد الصين وروسيا وإيران.

وفق استراتيجية واشنطن العالمية العسكرية، لابد أن تؤثر الممرات الأوراسية على سيادة الصين على أراضيها. فممرات النقل وأنابيب النفط التي تقترحها الولايات المتحدة والناتو وتحالف غوام مكرسة لتربط في وقت لاحق مع مشروع ممرات نقل الطاقة وأنابيب نفط نصف الكرة الغربي، بما في ذلك تلك المخطط لإنشائها في إطار الشراكة الأمريكية الشمالية للأمن والازدهار

من المؤشرات الدالة على أهمية المنطقة أمريكيا انه من بين القواعد العسكرية الامريكية المنتشرة حول العالم والتي تقدر بنحو 750 قاعدة تتوزع على 130 دولة والبعض يرفع العدد الى 1000 قاعدة فان 109 قواعد منها تقع في اليابان و85 في كوريا الجنوبية فيها أربعة وثمانون الف جندي و47 الفا في اليابان و37 الفا في كوريا الجنوبية . وقد تحدثت هيلاري كلينتون عن مركزية اسيا والمحيط الهادي واهميتها في الاستراتيجية الامريكية للمرحلة وذلك في مقالها (عصر أمريكا الباسيفيكي) والذي دعت فيه الى أهمية زيادة الاستثمار الدبلوماسي والاقتصادي والاستراتيجي في اسيا والمحيط الهادي كون اسيا والمحيط الهادي أصبحا محركا رئيسيا في السياسة العالمية وقد اكدت كلينتون على أهمية وصع استراتيجية تشمل مناطق تمتد من شبه القارة الهندية الى الشؤاطئ الغربية للأمريكيين والمحيط الهادي والهندي التي ترتبط على نحو متزايد عن طريق خطوط الشحن والمصالح الاستراتيجية وتضم ما يقرب نصف سكان العالم وان التركيز عليها هي من المسائل الإشكالية بين بلادها والصين كالديمقراطية وحقوق الانسان وحرية الملاحة في بحر الصين الجنوبي والشفافية في الأنشطة العسكرية والتي تعدها بكين أمورا سيادية فضلا عن التحالفات الأمنية الثنائية وتعزيز الوجود العسكري الأمريكي والحفاظ على السلام والامن في جميع انحاء منطقة اسيا والمحيط الهادئ ومن ضمن ذلك الدفاع عن حرية الملاحة في بحر الصين الجنوبي والتصدي لكوريا الشمالية وبرنامجها النووي . من جهته عاد زميلها ليون بانيتا وكان وزيرا للدفاع الى الحديث عن حرص وزارة الدفاع الامريكية على إعادة توازن التركيز الاستراتيجي الأمريكي وموقف الولايات المتحدة تجاه منطقة اسيا والباسيفيكي كما أشار الى العديد من الخطوات العملية التي قام بها في إطار تنفيذ الاستراتيجية الجديدة في مقال له بعنوان أمريكا وإعادة التوازن الباسيفيكي . اكد بانيتا الشراكات الجديدة في جنوب شرق اسيا والمحيط الهندي وزيارة عدد جنود مشاة البحرية المارينز وكذلك القوة الجوية الامريكية في منطقة شمال استراليا وأشار الى الاتفاق مع سنغافورة على نشر اربع سفن قتالية هناك إضافة الى اشراك دول أخرى في المنطقة في المناورات والتدريبات وبحلول عام 2020 سيكون 60 في المائة من القوة البحرية الامريكية منتشرة في المحيط الهادي وفقا للوزير الأمريكي الذى يرى ان ابراز القوة ركيزة لإعادة التوازن . انطلاقا من هذه النظرة سعت الولايات المتحدة الى السيطرة على الممرات البحرية الحيوية الممتدة من مضيق هرمز إلى بحر الصين الجنوبي.. وبناء شبكة من القواعد والتحالفات التي تحيط بالصين وروسيا على شكل قوس يمتد من اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا وفيتنام والفليبين في الجنوب الشرقي ومن ثم إلى الهند في الجنوب الغربي، لتنتهى إلى اتفاق مع الحكومة الأسترالية لبناء منشأة عسكرية في داروين على الساحل الشمالي من البلاد بالقرب من بحر الصين الجنوبي.. وإنشاء تحالف يضم دول المنطقة من الدول التي ليس لها علاقة جيده سواء بالصين او روسيا كما يحاول الأميركان التحرك باتجاه الهند لضمها الى قوس القواعد وجعلها جزء من التحالف الأسيوي مع أميركا . بالاضافة الى ذلك عمدت الولايات المتحدة الامريكية الى محاولة تقليل النفوذ الروسي في أوروبا وآسيا الوسطى عبر تشجيع بناء أنابيب نفط وغاز جديدة تمتد من بحر قزوين عبر جورجيا وتركيا إلى أوروبا باقتراح بناء خط أنابيب غاز العابر للأناضول(غاز نابوكو)؛ وهو ممر مخصص لنقل الغاز الطبيعي من أذربيجان عبر جورجيا وتركيا وصولاً إلى أوروبة مجانباً لروسيا , كذلك عملت الولايات المتحدة على تعزيز تواجدها في شرق أوروبا وفي منطقة البلطيق وشمال القوقاز بضمنها جورجيا وأوكرانيا، وتعزيز القوات الأطلسية في دول البلطيق الثلاث (لاتفيا وأستونيا) على حدود روسيا و(ليتوانيا) على حدود كالينغراد التابعة لروسيا ولا ترتبط بحدود معها،، فضلا عن بولونيا التي نصبَ بها الناتو درع صاروخي .. وبلغاريا ورومانيا (على البحر الأسود) التي نصبَ فيها مُعدّات تابعة للدرع الصاروخي.

من ناحية اخرى لاحظت الادارة لامريكية بان المنفذ المتبقي لكل من الصين وروسيا الى المياه الدافئة في البحر المتوسط تمر عبر ايران من خلال محور موسكو – طهران – بغداد – دمشق وصولا الى طرطوس على البحر المتوسط وحيث ان من الصعوبة التوصل الى ضم ايران الى التحالف الاسيوي الامريكي لامور تتعلق بطبيعة النظام السياسي في الجمهورية الاسلامية . في نفس الوقت نجحت الادارة الامريكية في خلق قاعدة عمليات قويه لها في أذربيجان، وهي المركز الجيواستراتيجية الأكثر أهمية في منطقة أوراسيا قلب العالم القديم، وتمثل بوابة السيطرة على منطقة حوض بحر قزوين الغني بالموارد النفطية والغاز الطبيعي، والذي من الممكن استخدامها لتهديد منطقة قلب الدولة الحيوي في إيران، وذلك لقربها الشديد من العاصمة طهران، والمناطق الإيرانية الفائقة الأهمية والحساسية، إضافة إلى وجود حجم ليس بالقليل لما يعرف بـ(الأقلية الأذربيجانية) الموجودة في شمال إيران، وتتميز بمشاعر عداء قوية إزاء المجتمع الإيراني، وتنشط داخلها حالياً بعض الحركات الانفصالية التي تطالب بالانفصال عن إيران والانضمام لأذربيجان، وكذلك تشكل قاعدة تهديد للمنشآت الروسية في مناطق منابع النفط الروسي، ومحطات الطاقة الكهرومائية، وأيضاً منطقة جنوب غرب روسيا التي تتمركز فيها الأنشطة الصناعية، ولأنّ أذربيجان تشكل بطريقة أو بأخرى محطة لدعم الحركات المسلحة في آسيا الوسطى ومنطقة القفقاس، وبالتالي فإن دعم هذه الحركات عن طريق باكو من الممكن أن يؤدي إلى المزيد من القلاقل في هاتين المنطقتين.

لمواجهة الاندفاع الصيني في استراتيجية مبادرة الحزام والطريق فقد افترح (أيثان كابشتاين) البروفسور في جامعة أريزونا و(جاكوب شابيرو) البروفيسور في جامعة برينستون اللجوء الى (استراتيجية الجودو) وهي استراتيجية افتصادية مستمدة من مبادئ الجودو، وهو فن قتالي ياباني، وقد استخدمها (ديفيد بيوفي) و(ماري كواك) كمجاز في كتاب "إستراتيجية الجودو (2001). الأصول يمكن أن تعود إلى" اقتصاديات الجودو، "مصطلح صاغه الاقتصاديان (جوديث جيلمان) و(ستيفن سالوب) لوصف استراتيجية عند بدء شركة في قطاع يهيمن عليه منافس كبير. تعتمد «استراتيجية الجودو» على استخدام قوة المنافس- وهو «الحجم الأكبر» في حالة الصين- ضده. على سبيل المثال: يمكن لشركات البيع بالتجزئة الصغيرة أن تتفوق على السلاسل الأكبر، المثقلة بالبنية التحتية المكلفة، عن طريق بيع السلع بسعر أرخص عبر الإنترنت. أو يمكنها تقديم تجربة استهلاكية تستهدف احتياجات العميل الفردية، وهو ما تعجز عنه الشركات العاملة على نطاق أوسع. تتكون «استراتيجية الجودو» من ثلاثة عناصر:

1- الحركة: الاستفادة من الحجم الأصغر للعمل بسرعة وتحييد مزايا المنافس الأكبر حجمًا.

2- التوازن: استيعاب ومكافحة تحركات المنافسين.

3- الرافعة المالية: استخدام نقاط قوة المنافسين ضدهم.

لكي تكلل «استراتيجية الجودو» الأمريكية بالنجاح في مواجهة العملاق الصيني، يجب أن تتكون من ثلاثة عناصر أساسية:

1- الاستفادة من انتهاكات الصين لمعايير الإقراض الدولية ضدها.

2- تسليط الضوء على الفساد الذي تنطوي عليه خطة طريق الحرير الجديد.

3- التوظيف المبتكر لموارد المؤسسة الأمريكية الجديدة لتحرير الدول الواقعة في براثن بكين المالية.

 

زهير جمعة المالكي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم