صحيفة المثقف

عبير خالد يحيي: البناء السيكولوجي للشخصية البطلة بين السيكوباتية والنرجسية

عبير خالد يحيىفي رواية (وكر السلمان) للأديب العراقي شلال عنوز.. دراسة ذرائعية باستراتيجية الاسترجاع


مقدمة إغنائية:

أدب الجريمة[1]: هو نوع أدبي من الروايات التي تركز على الأفعال الإجرامية، وخاصة على التحقيق، سواء من قبل أحد المحققين الهواة أو المحترفين في جريمة خطيرة، وبشكل عام جريمة قتل.

وهذا ما لا ينطبق على رواية (وكر السلمان) للشاعر والأديب شلال عنوز، فالرواية ليست بوليسية، محور الأحداث الرئيسي لا تدور حوله مجريات تحقيق جنائي للكشف عن الجريمة وهوية المجرم، الكاتب استهل العمل بالتعريف ببطل العمل، قدّمه منذ البداية بما يدّل على أنه قاتل متسلسل[2]، ارتكب جرائمه المتكررة في ذات المكان، وخلال فترة زمنية معينة، معتمدًا آلية واحدة في القتل، وبقيت الجرائم لا يعلم بها إلا منفّذها، واعتُبر الضحايا في قيد المختفين جنائيًّا وليس في قيد المقتولين، فالتحقيقات الجنائية لم تأخذ مجراها إلا في الثلث الأخير من الرواية، شاغلة مثلث الانحسار الذي انقلب من بعد العقدة باتجاه النهاية.

الغريب أيضًا أن الكاتب لم يقدّم لنا البطل (نعمان) بصورة القاتل المتسلسل الذي تنطبق عليه الصفات الأساسية في شخصية القاتل المتسلسل، المستنتجة من الكثير من الدراسات السيكولوجية التي درست شخصية القاتل المتسلسل وخلفيته، والتي ترى أن الأغلبية الساحقة منهم اكثر من 90% من الذكور، يأتون من خلفيات عائلية مضطربة أو مفككة أو مستبدة، وغالبًا ما يكونون ضحايا الاعتداءات الجنسية أو الذهنية أو الجنسية، ومع أنهم أذكياء إلا أنهم عمومًا لاينجحون في الدراسة، ويظهرون تصرفات عنيفة في سن مبكرة مثل تعذيب الحيوانات أو تشويه الذات أو محاولات الانتحار، يكبرون بميول جنسية منحرفة، يترافق أداءهم الجنسي بطقوس سادية مازوشية أو فتشية. وهم لا يشعرون بالندم مطلقًا، فالقتل عندهم يتم بصورة عفوية، أما القاتل المتسلسل الذي قدّمه الكاتب فكان على النقيض تمامًا، فنعمان ينحدر من أسرة مثالية، هو الابن الوحيد لأبوين متحابين، مثقفين، الأب على الرغم من أصوله البدوية إلا أنه كان تاجرًا يشهد له الجميع بالاستقامة، كما يشهد سلوكه على نبل المبادئ والأخلاق التي يتبناها، والتي نجح في غرسها في وحيده، فنشأ نشأة صالحة، وتفوّق على أقرانه في الدراسة ودخل كلية الحقوق التي أرادها له والداه، وعندما توفي والده أورثه تركة من الأملاك والأموال تجعله يعيش في بحبوحة تغنيه عن أي احتياج مادي، كما أنه لم يتعرض لأي عنف أسري أو جسدي، وعندما أحبته سناء الشابة المنحدرة من أسرة برجوازية إنما أحبته لكياسته وكرمه ومروءته ونبل أخلاقه، ورهافة إحساسه ومشاعره، فهو شاعر  ينطق لسانه شعرًا وأدبًا.. أما عن الندم، فقد كان عند نعمان طقسًا دائم الحضور،لا يقطعه إلا لحظات تنفيذ الجريمة:

بعد كل عملية قتل ينفذها نعمان في وكره الشيطاني، يرمي السكين جانبًا، ويجلس قرب المجني عليه ويجهش بالبكاء، ثم يعانق الجثة الهامدة ويمسح ببقايا دم الضحية على وجهه، وحينما يشم رائحة الدم يهدأ كأنما نسيم من طمأنينة طاف روحه، ثم يبدأ عمله الشاق والمضني بدفن الجثة في ذلك النفق.

إن أكبر وصف سيكولوجي قدّم به الكاتب بطله هو (نرجسي)، إلّا أن الأعراض من (ذهان وعدم القدرة على التمييز بين الصواب والخطأ وسماع أصوات ومشاهدة رؤى على شكل هلوسات) التي تعتري بطله قبل ارتكاب الجرائم، تحيل إلى قاتل (سيكوباتي (psychopathy[3]، ولكن القاتل السيكوباتي تختفي وراء شخصيته سمتان لا يمكن السيطرة عليهما وهما:

الانحراف الجنسي (الشذوذ)، والحاجة المفرطة للسلطة والهيمنة، ولم يُشر إليهما الكاتب لا من قريب ولا من بعيد، وهذا خلل في بناء الشخصية الروائية، يجب أخذه في نظر الاعتبار.

2232 وكر السلمان

السيرة الذاتية والأدبية للأديب:

شلال عباس عنوز – مواليد 1950

بكالوريوس قانون، محامي، شاعر وروائي عراقي، ترجمت بعض أعماله إلى اللغة الانكليزية والكردية والفرنسية والإيطالية .

عضو اتحاد الأدباء والكتاب في العراق من العام 1985، عضو الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب منذ 1992

عضو اتحاد الصحفيين العراقيين، عضو نقابة المحامين بالعراق، عضو اتحاد الحقوقيين العراقيين.

يكتب الشعر بأنواعه: العمود والتفعيلة وقصيدة النثر.

أعماله المطبوعة:

مرايا الزهور.. ديوان شعر صدر عام 1999

الشاعر وسفر الغريب.. ديوان شعر صدر عام 2013

وبكى الماء.. ديوان شعر صدر عام 2017

السماء لم تزل زرقاء.. ديوان شعر صدر عام 2017

امنحيني مطر الدفء.. ديوان شعر صدر عام 2018

حديث الياسمين.. ديوان شعر مشترك صدر عام 2018

صدى الفصول.. ديوان شعر مشترك

المستويات الذرائعية في تحليل هذا العمل

أولًا- المستوى الأخلاقي:

التبئير الفكري:

إن ما تقدّم، يجعلني أميل إلى افتراض أن الكاتب ما أراد أن يوجه ثيمة عمله باتجاه أدب الجريمة المتعارف عليه، وأنه ما قصد أن يكون بطل روايته قاتلًا متسلسلًا كشخص أو كفرد، فالكاتب أذكى بكثير من أن يقع في هفوة كهذه، فهو محام، درس المحاماة وامتهنها ويعرف كل ما قدّمتُ له في هذا الإغناء السابق، لكنه قصد أن يكون بطلُه –كقاتل- كاسرًا لأفق الواقع، مندخلًا في فضاء المحتَمَل، ليس فقط البطل كشخصية، وإنما أيضًا الأحداث ككل، وأراه يوجّه القارئ ليكون أكثر تشكّكًا، فلم يلاعبه على حبل التشويق، وإنما قطعه عليه ذاك الطريق حينما كشف حقيقة البطل من بعد الاستهلال بقليل، وكأنه يقول: إن بطلي من طينة طيبة لكنّه طغى!

وهنا سنعود إلى الدراسات التي أشرت إليها، والتي تتمحور حول فكرة أنه تمّ تشكيل القتلة المتسلسلين على ما هم عليه، ولم يولدوا على هذه الهيئة، وأنهم نتاج التجارب الوحشية المبكرة في حياتهم، لكن الكاتب أخرج كلمة(المبكرة) واستبدلها بكلمة (الطارئة)، وعلى هذه (التجارب الطارئة) بنى المحور الرئيسي أو الثيمة الرئيسية في الرواية، ألا وهي تجربة الحرب بالعموم، والحرب العراقية الإيرانية بالخصوص، التي حصدت من الأرواح والحيوات ما أتخمها لسنوات زادت عن الثمان، مات الأنس وتكاثرت الشياطين في العقول التي عجزت عن احتمال وقع الصدمة، وفي النفوس التي كمن فيها الشذوذ فقوّى فيها نزعة العنف، فغيّب عنها الضمير، وجعلها ذكاءها وتحكّمها الواقعي في أفعالها بعيدة عن سطوة القانون لفترة طويلة، قابل ذلك افتقارها إلى الشعور بالذنب الذي إن راوَدَها يكون آنيًا يزول بسرعة، وهذا ما يبررقدرتها على تعذيب الآخرين دون وازع من ضمير، أليس هذا هو واقع كل الطغاة من القادة الذين ارتكبوا الويلات بحق شعوبهم، وكل يقينهم أنهم يستحقون (أن تموت الرعية ليحيا الملك) ؟ !.

سنرى أن الكاتب قد أحاط بكل المؤهبات الخارجية التي أسست لتشكيل البطل القاتل، بإسقاطاتٍ عامة على أرضية الطغيان، لكنه حام حول الحقيقة البيولوجية دون أن يدخل في تفصيلها، الحقيقة التي تفسّر لنا بشكل تشريحي قد يكون قاطعًا كيف يختلف سلوك الناس اتجاه نفس التجربة، فمن غير المعقول مثلًا أن يتحوّل جميع الناس إلى قتَلَة إن أصابتهم شظية أكلت عضوًا من أعضائهم! حتى ولو كان العضو الذكري كما حصل مع بطل الرواية ! هنا نسأل هل الاختلاف بين الأسوياء والسفاحين المحتملين مردّه إلى خلل دماغي أم نفسي؟ بيّنت الدراسات أن هناك اختلاف بالمبنى الدماغي بين الأسوياء والسفاحين، "فوجدت عدّة دراسات أن هناك خللًا في الجزء الأمامي من الدماغ وفي منطقة الحصين وسط الدماغ وفي الجهاز الحوفي limbic system  والذي يتسبّب بسلوكيات عدوانية متطرّفة، كفقدان السيطرة واتخاذ قرارات خاطئة"[4] . بمعنى أن هناك شذوذ بيولوجي عند السفاحين، تذكّر بالإنسان البدائي أو غير المتطور، وهذا ما لا يمكن الجزم به في حال بطل روايتنا إلا لو تمّ الكشف على دماغه فعليًّا، لذلك وجّه الكاتب فكره منطقيًّا باتجاه الخلل النفسي، مركّزًا على العناصر التي تكوّن الشخصية، بمستوياتها الثلاث من الأسفل إلى الأعلى: الهوَ (الغرائز)، وال (أنا) الشخص نفسه، وال (أنا العليا) الضمير .

فإذا صعدت الغرائز (الهو) إلى (الأنا) يتم إشباعها دون النظر إلى أي اعتبارات (أخلاقية أو دينية)، لذلك يقف الأنا الأعلى (الضمير) رقيبًا بين الفرد وغرائزه، فيضبط سوية الفرد، فإن لم يفعل، يكون هناك خلل نفسي يُخرِج الفرد من خاصية الإنسان السوي، باتجاه النمط المتوحّش البدائي أو الإنسان غير المتطوّر، وعلى هذا الخلل النفسي بنى الكاتب شخصية البطل نعمان.

السؤال الذي يراودني هنا، هل لو كانت إصابة البطل ناتجة عن حادث عرَضي لا دخل للحرب فيها، هل كان سيسلك ذات السلوك الإجرامي؟ لو قصد الكاتب أن يكون الجواب (نعم)، هنا ستقوِّض (نعم) قصدية الكاتب بزجّ الحرب كديباجة للعمل ككل، والكاتب أذكى من أن يزج بأرضية عرَضية غير مقصودة ليقيم عليها البناء الفنيّ لمشروعه السردي هذا. إضافة إلى أن القاتل المتسلسل يقوم بقتل الأشخاص البعيدين عنه، بينما يصرّ نعمان على قتل الأقرباء والأصدقاء والأحباء، وكلّ من وثَق بنعمان. وهذا أيضًا خلل في بناء الشخصية الروائية، إذ ينبغي أن تكون الشخصيات الروائية مقنعة، مقبولة منطقيًّا بما هو معروف في نطاق الشخصية الواقعية، فلو كانت شخصية فانتازية لقبلناها بعيدة عن معايير المنطق. لكن الكاتب يصرّ على تقديم شخصيته البطلة بالخلل الذي ذكرناه، ويقدّم مبرّرًا قد نقبله أو لا، وأعتقد أن الكاتب يمارس سطوة على المتلقي ليسلّم بما يقدّمه له، وعلى هذا التسليم المفترض من قبله سلفًا يكمل بناء عمله السردي فنيًّا، يقول في الصفحة 12:

كل تلك الصفات والسمات الجسدية التي حدّدها لامبروزو لا تنطبق على نعمان، ربما تنطبق عليه بعض السمات النفسية، فهو نتاج حالة تزاوجت فيها مستجدّات رهيبة، وظروف عصفت بحياته مع ضياع الصبر والإيمان، فنظرية لامبروزو نصّت: على أن المجرمين معروفون بأشكالهم وصفاتهم، وحدّد تلك الصفات التكوينية، فكان في ذلك الوقت كل من تنطبق عليه هذه المواصفات يؤخذ بوصفه مجرمًا ويودع في السجن، وهي نظرية تخلو من العدل ويعتريها تعسّف قاس، عارضها وأضاف لها علماء الإجرام الفرنسيون بنظرية خاصة بهم.

إذًا، نحن أمام عمل روائي قصد فيه الكاتب أن يسرد فيه ويلات الحرب الإيرانية العراقية، عبر شخصية مختلّة إنسانيًّا، هي بالإسقاط المنطقي شخصية (الطاغية)، بغضّ النظر عن الخلل الفني في بناء تلك الشخصية، فإن كان سرد أحداث تلك الحرب بكل الأهوال والويلات قد جاء سردها على لسان شخص طاغية مختل إنسانيًّا، فكيف لنا أن نتخيّل الحجم الحقيقي لإرهاب وويلات تلك الحرب؟! وكيف لنا أن نتخيّل فداحة نتائجها؟! حول هذه الثيمة ألّف الكاتب روايته هذه، هي رواية أدب حرب، وجرائم القتل إحدى نتائجها الفادحة.

يؤكد ذلك ما أورده الكاتب في الصفحة 35:

... الحرب هي التي كبّلته بقيود الوجع، فعطّلت الحياة وشيطنت الفطرة،حوّلت الإنسان من كائن وديع إلى قاتل مفترس، جرّدته من ثوب إنسانيته، الحرب تغرس شجر العداء وتوقد نار البغضاء، فتبثّ صراخ الفناء في نفوس البشر وتقتلع فسائل الحب من الجذور...

فالتجنيس: رواية واقعية من نوع أدب الحرب.

الخلفية الأخلاقية:

حمل العمل الكثير من الرسائل الوجدانية الإنسانية، بعضها كانت مباشرة، والبعض الآخر إيحائي عبر سوق قصص فيها العبر والمواعظ، وكلها تدعو إلى فكرة السلام المجتمعي، الذي لن يتحقق إلا بتحقق السلام الإنساني، وهذا لن يكون إلا بتحقق السلام العالمي، وهذه العلاقات هي علاقات عكسية تقبل اتجاهات سهمية متوازية ومتعاكسة،

وبدأ بتحديد مشكلات الأمة من النواة، الفرد، الإنسان، الذي خاض حربه الخاسرة ضد الإنسانية، فانتهى قاتلًا أو مقتولًا، وكان لزامًا على الكاتب أن ينظر في العمق السيكلوجي والأيديولوجي للإنسان الطاغية، والضحية على حدّ سواء، وأن ينظر أيضًا بشمولية تاريخية وثقافية من الخارج، فأشار إلى ابتلاءات الأمة:

هذه الأمة ابتليت بالفتن والجهل والخرافات، ونكبت بالطغاة الذين الذين كانوا أشد فتكًا بها من الأعداء.

واستعرض ويلات الحروب، التربة الخصبة التي ترعرعت ونمت وشاعت فيها الجريمة بشرعية العنف والإرهاب لضمان ديمومة الشر، وشيطنة النرجسية في عقول شذّت عن الإنسانية لتدخل في حيّز الوحشنة الحيوانية، يقول:

إن الحرب لاتورث سوى الويلات والدمار والقتلى والأيتام والمعاقين والنفوس المريضة، ومن قال إن الحرب فيها منتصر؟! وهي تسرطن النفوس..

لم يتطرق الكاتب لموضوع الطائفية أبدًا، بل نظر إلى الحرب العراقية الإيرانية على أنها حرب بين جارين، بالدرجة الأولى، انتهكا حقوق الجيرة إنسانيًّا، ثم مسلمَين بالدرجة الثانية، دون أن يذكر الانتمائي الطائفي لأي من البلدين، إذ يكفي أنهما انغمسا في مستنقع الحرب الآسن، لينزع عنهما رداء الإنسانية أولًا، والإسلام ثانيًا، ليرتديا ثوب الحمق والغباء والمرض والطغيان.

يؤكد الكاتب على أن المرأة هي معادل موضوعي هام في الحروب، تطرحها الحرب ضحية، مقتولة بجرم الجسد وجرم الحاجة، المومس التي التقاها نعمان في حانة، كانت زوجة وأم، سرقت الحرب منها عائلَها، واضطرت لبيع جسدها، وكان تجارة رائجة أفرزتها الحرب بكثافة، لتعولَ الأفواه الصغيرة الجائعة. حتى هذه المومس جعلها الكاتب تبوح بالندم والاعترف بالخطيئة، وتنوي التوبة.

أدان الكاتب الجريمة، ونصر العدل، وهاهو جاسم ابن عم نعمان يتبرّأ من مشاعر الحميّة اتجاه نعمان، ويلبي نداء الواجب الإنساني والأخلاقي والقانوني، ويترأس قوة للقبض على ابن عمّه دون أي تردّد، فالكاتب لم يدع منفذًا لمجرم، وربما كانت النهاية التي جعلها مفتوحة أكثر تشدّدًا من حكم القانون، فالموت البيولوجي محكوم به كل البشر، يختلف الناس بدروب العبور إلى الموت، ودرب العبور الذي اختاره الكاتب للمجرم نعمان هو درب الشقاء بكل ألوانه، فهل أصعب من حياة فأر هارب في الصحراء؟!

بعد تثبيت البؤرة الفكرية، سأنتقل إلى المستويات الذرائعية الديناميكية:

ثانيًا- المستوى البصري:

بمدخليه:

المدخل البصري:

الإهداء: عتبة بصرية داخلية بعد العنوان الذي سأتناوله مفصّلًا في المستوى المتحرك، إهداء يؤكد ما ذهبتُ إليه من اعتبار ثيمة الرواية هي ثيمة الحرب، يقول بلغة بليغة ملخّصًا نتائج الحرب الفادحة:

الإهداء

إلى ضحايا الحرب، رجالًا، نساءً وأطفالًا.

إلى الذين تناثرت أشلاؤهم وأحلامهم معًا.

إلى المفقودين والأسرى.

إلى الذين خسروا أمانيهم وأكلوا أعمارهم.

إلى كل الذين اكتووا بنارها.

إلى الإنسانية المعذبة بسبب حماقات

مشعليها

أهديهم روايتي هذه لتكون شاهدة على

دموية الحرب وآثارها ودورها الخطير في

تعاسة البشرية وشيوع الجريمة في الأرض..

يقع العمل على بياض حوالي 213 صفحة، مقسم على 7 فصول، مرقّمة ترقيمًا فقط بدون عناوين، هناك التزام بترتيب الصفحة والهوامش والفقرات، وأدوات الترقيم، مضبوطة إملائيًّا ونحويًّا.

المدخل اللساني:

لن أبالغ إن قلت أن أكثر من نصف الرواية يقوم على توظيف الكاتب لثقافته المتشعبة في القانون وفي التحليل السايكولوجي والنظريات الإجرامية، والتحليلات الظواهر الاقتصادية والسياسية والحضارية والجغرافية والتاريخية، عبر الحوارات الخارجية المدروسة بين الشخصيات، والتي كشفت عن السويات الثقافية للشخصيات إلى جانب الكشف عن انفعالاتها الداخلية وانطباعاتها النفسية، ولأن الكاتب وظّف هذا الحجم الكبير من المعلوماتية جاءت الحوارات طويلة نوعًا ما، تميل إلى النبرة الاستظهارية، لأن المقصدية والأولوية كان سوق المعلومات، نختار أمثلة:

معلوماتية قانونية في النظريات الإجرامية:

وهي مما اكتسبه الكاتب من دراسته للقانون وممارسته المهنية كمحام:

قالت رحمة مضيفة: ومن أقدم هذه النظريات هي نظرية سقراط وتلميذه أفلاطون، لكن نظرية الدكتور لامبروزو أستاذ الطب الشرعي والعقلي في الجامعات الإيطالية هي أولى النظريات في الفقه الجنائي التي تستند على أساس علمي.

قالت سناء وهي تضع يدها على كتف رحمة: نعم لقد وضع ذلك في كتابه (الإنسان المجرم)، ثم تبعتها نظريات أخرى أضافت لها ولعل النظرية الفرنسية في مقدمتها.

معلوماتية اقتصادية:

" يا بني هذه المنطقة (الشورجة) هي روح العراق ورئته التي يتنفس منها، هنا المركز التجاري الذي يحرك اقتصاد البلد بمجمل نشاطاته المختلفة ويلقي بظلاله على الواقع السياسي فيه"

... هنا في هذه المنطقة يوجد كبار التجار المستوردين والمسيطرين على غذاء الناس وحركة السوق... هم قادرون على احتكار السلع، وبهذا هم من يشل أو يحرّك الاقتصاد...

معلوماتية سياسية دولية:

... أضاف همام قائلًا: " وعلينا القول إن العراق هو الذي ألغى اتفاقية دولية تنظم حالات الجوار والحدود وتشاطر المياه، وهي اتفاقية الجزائر التي وقعت بين البلدين عام 1975 فقد ألغاها العراق من طرف واحد، ونحن نعرف كما درسناه في القانون الدولي.... ص 81

معلوماتية تاريخية:

قالت رحمة: العراق أول بلد ظهرت فيه القوانين؛ لقد رأيناها في شريعة حمورابي وقانونه الشهير، وفي قانون أورنمو وقانون أشونة وقانون لبث عشتار والقانون الآشوري .

... قال محمود مشاركًا: وفي مملكة أوروك بنى الملك كلكامش أول سور للمدينة.. وفي عهده اخترعت الكتابة التصويرية ثم المسمارية....ص 181

معلوماتية اجتماعية:

تداخل أحد الطلبة في المحاورة قائلًا: هل نقدر أن نقول أن الفرد العراقي مزدوج الشخصية ؟ أجابه الأستاذ قائلًا: هذا السؤال أجاب عنه عالم الاجتماع العراقي الدكتور علي الوردي في كتابه (دراسة في طبيعة المجتمع العراقي) وحلّل شخصية الفرد العراقي باعتبارها شخصية ازدواجية بين البداوة والتحضّر.... ص 187

معلوماتية جغرافية:

أردف قائلًا: وللطبيعة الجغرافية لهذا البلد أثرها في خلق هذه الشخصية، فخصوبة أرضه ووجود النهرين فيه سمح له بإقامة حضارة عريقة، ولكن قربه من الصحراء جعله عرضة لغزو القبائل البدوية العربية والهجرة إليه والاستيطان فيه والاندماج مع السكان الأصليين...ص 187

معلوماتية سيكولوجية:

.. كان أستاذ مادة علم النفس يتحدّث عن حالات التطرف وتأثيرها على نفسية الفرد العراقي، حيث بدأ حديثه قائلًا: ثنائية التطرّف صفة مرافقة للفرد العراقي، فلا غرو أن يكون متطرفًا في كل شيء.... وحتى نجده في أحيان كثيرة متطرفًا في أشعاره وثقافته... ص186

استخدم ثقافته الفنية:

فذكر عناوين بعض الأفلام التي كانت رائجة في فترة أحداث الرواية مثل فيلم (نحن لا نزرع الشوك)، أيضًا أغاني مثل أغنية (ساكن قصادي وبحبه) لنجاة الصغيرة.. والأغنية العراقية التي كانت رائجة (على شواطئ دجلة مُر يا منيتي وقت الفجر). (هاي من الله قسمتي، دوم أتسلّه بدمعتي)

كذلك ذكر ألفاظًا عن (موضة) الأزياء التي كانت دارجة في فترة السبعينات والثمانينات: بنطال (جارلستون) ويُحسَب له أنه وضعها ضمن قوسين للتدليل على غرابتها.

ذكر بعض البرامج الإذاعية المحلية التي كانت رائجة: اسم البرنامج (من حياتي) ويقدم على شكل مشاهد تمثيلية..

كذلك ذكر أسماء بعض المطاعم التي كانت مشهورة في ذلك الوقت بشارع الكرادة، مطعم (دنانير) ووصفه وصفًا دقيقًا . ووصف شارع الرشيد كما كان في ذلك الزمن وصفًا دقيقًا أيضًا.

استخدم أمثالًا تراثية:

"العبد حر إذا قنع والحر عبد إذا طمع"

" عندما يفلس التاجر يفتش في دفاتره القديمة "

وأقوال لمشاهير:

قول أودولف هتلر في الحرب: " الحرب هي كفتح باب غرفة مظلمة لن تعرف أبدًا ما الذي سيحصل عند فتح هذا الباب".

قال أحد المفكرين: " ومشكلة الحرب بالذات أنها لا تترك وراءها أحدًا غالبًا أو أحدًا مغلوبًا، بل تترك جثثًا أو أصدقاء"

وقد صدق شكسبير حيث قال: " ليس في العالم وسادة أنعم من حضن الأم".

يقول باولو كويلو: "إن الكثبان تتغيّر بفعل الرياح ولكن الصحراء تبقى دائمًا نفسها"

باولو كويلو: " تذكروا أن المفتاح الخير في حاملة المفاتيح هو الذي يفتح الباب دومًا" .

أما عن ثقافته الأدبية ومعرفته الأكاديمية بالأجناس الأدبية:

ندركها بسهولة من خلال العديد من التراكيب والجمل التي استطعت جمع بعضها مثل:

كانت سناء تكتب الشعر بسلاسة وروعة، بسهله الممتنع، وكلماتها زاخرة بعمق المعنى ورشاقة الصورة .

يتكلّم عن أسلوب السهل الممتنع بالشعر .

قال نديم معقبًا: يا نعمان، أنا مع الرأي الذي يقول ليس هنالك شاعر كبير، بل هناك نص كبير وقصيدة كبيرة"

يتكلم عن موت الكاتب وسيادة النص .

أجابه نعمان: "نعم كما تفضّلت، ولكن على رأي أحد النقاد الأكاديميين الكبار، الشعر موهبة وصنعة لا تغني إحداهما عن الأخرى، وأنت لا تنقصك الموهبة ومجيد في الصنعة وغني في تجربتك".

كماعمد إلى إحلال القصائد النثرية ضمن مبنى العمل، فجاءت تخفّف من وطأة السرد الحدثي وقسوته، لجوء الكاتب إلى السرد عبر السارد العليم ساعد في تقبّل المتلقي نوعًا ما لهذا الإحلال التجريبي.

كان هناك تكرار لبعض الفقرات، مثل الفقرة التي تتحدّث عن الشورجة كسوق تجاري، وقصى سجن (نقرة السلمان) وقصة (أم ناصر)

البنية اللغوية:

انتقى المفردات والألفاظ البليغة من غير تقعّر، وقدّمها ضمن تراكيب وجمل سليمة النظم، محققًا الوقع السحري للجملة العربية الفصيحة بترتيبها المتسلسل (فعل – فاعل – مفعول به)، (مبتدأ وخبر)، ولم نشهد اختلال في الترتيب.

أما عن البنية البلاغية والجمالية:

لقد كتب الأديب روايته دون أن يتحرّر من شاعريته، وهذا فعل سلوكي ذرائعي طبيعي، فالكاتب ينطلق من ذاته، ولاسيما في اول عمل روائي له، والذات عند أديبنا هي ذات شاعرة بالدرجة الأولى، لذلك سنجد الكثير من الصور الشعرية التي خفّفت من جفاف وجلافة السرد الحدثي، وهي مقدرة تُحسب للكاتب الشاعر، إذ كيف نجح بالجمع بين شاعرية الصور ورعب السرد؟! لننظر في المشهد الذي يسبق قتل سناء، كيف تتودّد سناء لنعمان ردًّا على بروز نرجسيته،

قال لها وهو مازال ممسكًا بذراعها بعنف:.. لكنني أريدك لي وحدي؛ فكيف يكون ذلك وأنا فاقد لذكوريتي؟

قالت له متوددة: يا نعمان، ليكن حبنا روحيًّا خالدًا، وكما يقول قلبك: قلبي لم يحب غيرك، لماذا تجبره على كرهك وتجبرني على الندم؟..... الحب يحرر الرحمة من أسر أسوار القسوة وينقذ الأمل من صلافة الفقد، فالقلوب الرحيمة هي التي تنثر على هذه الأرض عبق الحياة، وتأتلق فراشات من ضوء في سماء الإنسانية....

كانت صوره البلاغية بالمجمل استعارات وتشابيه:

نهض مفجوعًا من مكانه عندما تذكر ذلك كأرنبة مستفزة داهمتها الأفاعي.

عندما تتصحّر القلوب، لا يجدي معها السقي بالتنقيط، فهذه الطريقة من السقي مكلفة الجدوى؛ لأنها تستهلك كل الثوابت

لا أمل في شفاء القلوب الآثمة بجرعات يائسة من فضيلة.

كلّ ما في الدار يبعثر صحوَه بضجيج يدكّ في عمق بلواه، فيؤجّج نيران ندمه، ويستل ما به من هيبة.

يشمّ بعضًا من عطرها الذي بقي في جوف الليل يتداوله الزمن بين أفيائه، يذكّره ببشاعة فعلته، ويضربه بسوط الحسرة فيتنقّل بين حويصلات ذكرى حزينة باكيًا مستباحًا ومزكوم الأنّة.

ومع نفث دخانه المتواصل كان ينفث أجزاءً من روحه، ويتأبّط حسرته المكلومة بدقّات مطارق اللوم وأهات معاول الوجعوحشرجات أنين الفقد.

تزخر روحه بصفصاف الأمل، وتتراقص أغصان الأحلام الوردية على ضفافه، فتزدهر أغاريد الطيور في دنياه.

يقاتله بؤس نحسه، وتعيث فيه المشاوير البلهاء التي اصطافت بصحراء روحه وأعاقت صفاء تفكيره.

كان يرمق أركان بيته يحسّه، بهزأ به ويصرخ في ارتحالاته المقزّزة التي أنهكها عتيّ الإجرام فشاخ فيها سواد المشاعر وأنهكتها ندّاهات الندم.

براكين الندم الحارقة التهمت صحوَه بعنف، واجتاحت أفق طمأنينته، فدقّت معاولها عمق هزيمته وأنهكته.

ثالثًا– المستوى المتحرك:

ندرس فيه فنيًّا التشابك السردي، وجماليًّا الأسلوب والسرد وتقنياته.

ويكون العنوان أول عنصر من عناصر التشابك السردي:

وكر السلمان: الوكر: له الكثير من المعاني القاموسية، لكن ما يعنينا منها هو: مغارة أو كهف أو مسكن أو مقر مشبوه يلجأ إليه ويختبئ به المجرمون وطريدو العدالة. السلمان منطقة صحراوية حدودية، يعمل أهلها بالرعي وتهريب البضائع من وإلى العراق، وتهريب البشر للعمل في السعودية الدولة الجارة، وخصوصًا الفارين من الخدمة الإلزامية والمطلوبين للدولة في جرائم شتى. فهو عنوان مكاني، بالمضاف والمضاف إليه.

إن العنوان بالمجمل يُفترض أن يكون مكوّن نصّي مكثَّف، ملخِّص لمتن أو مبنى الرواية، وعندما يختار الكاتب عنوان مكاني ينبغي أن يكون للمكان أهميّة تنافس أهميّة البطل والحدث معًا، وقد تنبّه كاتبنا إلى هذه الحيثية، فوصفه لنا في الصفحات الأولى من الرواية، وبالتحديد في الصفحة 17 وكأنه يقدّم لنا أبعادًا جسدية ونفسية واجتماعية لشخصية رئيسية، يقول:

في كثير من الأحيان يتبادر إلى ذهنه أن هذا النفق الشيطاني المهجور قد يكون مسحورًا ويحرّك فيه شهوة القتل، وربما هو مقتنع في قرارة نفسه أن هناك مناطق من هذه الأرض تستمرئ طعم الدم ورائحة الفناء، ففي هذه المنطقة يوجد سجن (نقرة السلمان) الذي حفر اسمه السيء والممقوت في ذاكرة العراقيين، فهو لم يكن سجنًا فحسب وإنما منفى، وأريدَ له أن يكون مكانًا لسجن الوطنيين والأحرار  في حقبة زمنية مضت.

الاستهلال: استهلال زمكاني بامتياز .

الوقت ضحى؛ الساعة تشير إلى العاشرة صباحًا، ودرجات الحرارة تكون على أشدّها في شهر آب ولاسيما وقت الظهيرة؛ جلس قرب الناقذة في مؤخرة الحافلة ذات الثمانية عشر راكبًا المتجهة نحو مركز محافظة المثنى من قضاء السلمان حيث مقر سكناه.

الزمكانية:

زمن الأحداث السنة السادسة من الحرب الإيرانية العراقية، أي في العام 1986

المكان: المكان الرئيس هو (وكر السلمان)، الأمكنة الثانوية متعددة ومختلفة بين مدن وشوارع ومطاعم وكافيهات وحدائق وأسواق وبيوت في بغداد والسماوة، وحافلات نقل وسيارات أجرة، ومخفر شرطة.

أما الحبكة:

فعبارة عن أحداث جرت في فترة حرب الجارتين المسلمتين العراق وإيران، بطلها المحمول على محور التكوين هو الشخصية المجرمة، نعمان الشاعر وطالب كلية الحقوق في جامعة بغداد، وحيد التاجر الخلوق القادم من قضاء السلمان الذي حرص على تنشئة ابنه نعمان تنشئة سليمة وسوية، نعمان وقع في حب زميلته في الكلية (سناء) والتي سيحملها محور المعارضة، الشاعرة الحسناء التي تنحدر من أسرة برجوازية، عاندت أهلها وأجبرتهم على قبول خطوبتها لنعمان، استدعيَ نعمان للخدمة العسكرية في الخطوط الأمامية، رغم أنه وحيد أبويه، تأخّر صدور قرار نقله إلى وحدات في الداخل أقل اشتباكًا، جعله عرضة لاشتباكات كثيرة، أصيب بقذيفة سببت له كسورًا في فخذه الأيسر، وأكلت عضوه الذكري، أصيب بالهلع الشديد، ونقم على الإنسانية جمعاء، لم يخبر سناء بإصابته، وصار يتملّص من دعوتها للزواج بحجج واهية، سينشأ بينهما الصراع ممثّلًا بمحور التوليد الذي ستتولد عليه الأحداث التالية:

استطاع نعمان أن يستدرج سناء للذهاب معه إلى بيته في قضاء السلمان، وهناك عرض عليها أن يريها (لُقى) موجودة في وكر أو كهف هو في الحقيقة مدفن أثري قديم، وهناك أخبرها بما أصابه، وأراها مكان سوأته، لاشيء إلا فتحة صغيرة لخروج البول، ذهلت سناء لكنها تماسكت، صارت تلومه لأنه أخفى الأمر عنها، انتابته حالة عدوانية استغربتها سناء، حديثه معها كشف عن نرجسيته الكبيرة ما أثار ارتياب سناء، وكان المكان مخيفًا جدًا ونتنًا، القسوة التي أمسك فيها يد سناء أكّدت لها أنه يضمر لها شرًا، فصارت تتودّد إليه حتى تلين قلبه، تخبره أنها ترضى بأن يكون حبهما روحانيًا خالدًا، لكنه كان يزداد قساوة وعدوانية، تستجير به، فيزيد من تخويفها، ضربته لاعنة أصله البدوي الذي أورثه الغلظة، فضربها، يتوالى العراك ليصل إلى ذروته (العقدة) غرس سكينًا في نحرها، وذبحها! ومرّغ وجهه بدمها ندمًا، قام بدفنها في الوكر، ثم عاهد شياطينه أن يقتل في ذاك الوكر كل من وثَقَ به من الأقرباء والأصدقاء، فكلّهم بنظره يستحقون الموت، يدفعه إلى هذا الاعتبار الغل والحسد لأنه ناقص عنهم، وأنه وحده يستحق ما يرفلون به من سلام نفسي ومكانة اجتماعية، كل ما تلى ذلك من أحداث يقع في مثلث الانفراج، بعد أن انقلب الصراع من بعد العقدة التي انتهى فيها دور محور المعارضة بموت سناء، لكن لذلك سنشهد ركودًا على محور التوليد، فالضحايا في الجرائم المرتكبة لا حقًا لم يدخلوا في صراع مع نعمان، وإنما شكّلوا طقسًا عاديًّا من أسلوب حياته الإجرامية...

بقي اختفاء سناء أمرًا محيّرًا لأهلها ولزميلاتها في السلك القضائي سيما رحمة التي استلمت منصب قاضية، الذين استغربوا انقطاع نعمان عن التواصل مع أهل سناء، وعن كل من له صلة بها من أصدقائهم المشتركين، غادر بغداد وأقام بالسلمان،

ارتكب نعمان العديد من الجرائم، وقتل العديد من أصدقائه باستجرارهم إلى الوكر ودفنهم فيه، ترافقه قطّة سوداء ظهرت بعد دفن أمه ولازمته في بيته، القطة هي الكائن الوحيد الذي شهد كل جرائمه، وكانت تصاب بحالة غريبة من الهيجان كلمّا اتجه بضحية من ضحاياه باتجاه الوكر، القطة بطبعها الحيواني هالها شناعة وفداحة الجرائم التي كان يرتكبها، كان يشبّهها بعباءة أمه، والحقيقة أن القطة السوداء أشار من خلالها الكاتب بالتلميح والإيحاء إلى موضوع أو ظاهرة التقمّص التي يؤمن معتنقوها بحلول روح المتوفى بجسد حيوان أو إنسان، وكأن القطة السوداء هي روح أم نعمان.

زيارة إلى بغداد، التقى فيها نعمان في أحد المطاعم صدفة بالقاضية رحمة، وهذا حدث سيكوّن محور معارضة جديد، يحمل رحمة وكل من ساندها لكشف حقيقة اختفاء سناء، حين تسأله رحمة عن مدى إصابته في الحرب وهل فقد أي عضو من أعضائه، يكتفي بذكر إصابته بكسور في فخذه الأيسر، وينفي أنه فقد شيء،  لكنه ارتاب في سؤالها، والحقيقة أن رحمة باشرت بالبحث عن سر اختفاء سناء، وحصلت على تقرير طبي من المشفى العسكري الذي تلقى فيه نعمان العلاج، وفيه كشف لما كذب بشأنه نعمان، وحامت شكوكها حوله، وطلبت من أهل سناء استئناف الدعوة واتهام نعمان بضلوعه باختفاء سناء، وعممت صور سناء على كل مدن العراق، أحداث وتحقيقات متسارعة أكدت توّرط نعمان في اختفاء سناء، عرف نعمان أنهم سيعتقلونه، حاول أن ينتحر لكنه جبن عن فعل ذلك، عند مداهمة منزله بقوة يرأسها ابن عمه جاسم رئيس قسم الشرطة في المدينة لم يجدوه، وجدوا فقط رسالتين معنونتين لجاسم، ووجدوا القطة السوداء التي سارعت بالركض باتجه الوكر، بينما جاسم يقرأ في الرسائل واحدة منهم يعترف فيها نعمان بكل جرائمه بالتفاصيل، وموضع قبر ومقتنيات كل ضحية باسمها، مبرزًا ندمه على قتلهم، وواعدًا بمعاقبة نفسه عقابًا شديدًا ! الرسالة الثانية مرفقة مع كل أوراق الطابو الخاصة بأملاكه الكثيرة في السلمان وبغداد مع دفتر حساب بنكي بمبلغ كبير، أن يكون جزء من تلك العقارات من نصيب أقربائه المخلصين، منهم محسن ابن عمه، وأن تكون بعض مدخولات المحل ببغداد صدقة ثوابًا لروحي والديه، كما طلب من جاسم بناء جامع في السلمان صدقة جارية أيضًا عن والديه، وخصص أن يكون بيته الكبير في حي المنصور من حصة أهل سناء ليكون مدرسة للأيتام، وتوزيع الباقي من العقارات والأموال على أهل المغدورين بعد بيعها من قبل المحكمة!.

النهاية:

طبّق عليها الكاتب المثل القائل (يموت الحاوي وأصابعه بتلعب).

عند مداهمة قوة البوليس للوكر الذي دلّتهم عليه القطة السوداء، صعق الجميع بدوي انفجار مهول داخل النفق ! لقد فخّخ نعمان النفق، وراح ضحية الانفجار اثنان من قوة الشرطة ! كانت آخر جريمة تُرتكب في وكر الشيطان ذاك، وتناثرت كل بقاياه في المكان، ولمح الرعاة شبحًا على أطراف المدينة، يركض صوب الصحراء، والغريب أنهم لم يفقهوا سره، تلاشى بين الكثبان.

نهاية لم تكن حاسمة، وكسرت أفق التوقع، تبريرها أن القاتل المتسلسل مراوغ جدًّا، ويخاف على نفسه، لذلك هو أجبن من أن يقتل نفسه، وأشقى من أن يسلم نفسه لحكم العدالة، هانت عليه كرامته، فقضى عمره فأرًا في الصحراء.

البناء الجمالي:

السرد:

السرد على لسان الراوي العليم، ضمير الغائب الذي ما حضر فيه إلا الكاتب! اعتدنا في الأعمال السردية أن يتخفّى الكاتب في شخصية من شخصياته أو يتنقّل عبر الشخصيات، لكننا في هذا العمل نرى الكاتب مجسّدًا في الراوي العليم، مهيمنًا على كل الشخصيات، عمل كباحث اجتماعي ومحلل سياسي واقتصادي وسيكولوجي، الوحيد الذي حدّ من هيمنته المطلقة هو البطل نعمان، لأنه الوحيد الذي أتاح له الكاتب حرية التعبير، عن طريق تقنية المونولوج، وتقنية تيار الوعي، والخطف خلفًا flashback، وهذه، إلى جانب الحوارات الخارجية، كانت أبرز التقنيات السردية المستخدمة.

الكاتب أيضًا مارس التجريب، من خلال مزج الأجناس الأدبية، حينما أدخل قصائد النثر في مبنى العمل الروائي، ولعب بعنصر الزمن، بالانتقالات المتعددة بين الماضي والحاضر، ما جعل خط الزمن The Time Line متكسرًا، ليس على استقامة واحدة.

اتبع الطريقة الاسترجاع في عرض الأحداث، فبدأ من انفراج ما بعد العقدة، بطريق راجع إلى العقدة ثم إلى البداية، ثم قفز مستأنفًا الانفراج إلى النهاية. وهي الطريقة المتبعة في الأفلام السينمائية.

الأسلوب: ناوب الكاتب بين الأسلوب الخبري التقريري والأسلوب الإنشائي، والأسلوب البلاغي المنزاح للجمال، ولمسنا أيضًا الأسلوب الواقعي المباشر، استخدامه لأدوات الربط بكثرة، ولا سيما فاء الاستئناف، طوّفت المباشرة على أسلوبه في الوصف، وهذا ما لا يمكن أن نجده في قصائده، فهو من أكثر الشعراء حرصًا على التخفّف من أدوات الربط، لأنه يدرك جيدًّا أن الأسلوب المباشر ممجوج جدًّا في الشعر، كما أنه غير مستحب في السرد، أمّا حين استخدم الأسلوب الأدبي الشعري وهو من نوع السهل الممتنع فأبدع حقيقة،

الحوار: حوارات خارجية طويلة بالمجمل، عندما تحمل المعلوماتية، تميل إلى الاستظهار والإلقاء الخطابي، وقصيرة عندما تكون بكلام عادي سؤال وجواب، كلها باللغة العربية الفصحى، وهذا يُحسب للكاتب.

الشخصيات: كثيرة العدد، متنوعة، عمل الكاتب على وصف أبعادها الجسدية والنفسية والاجتماعية، وأجاد الربط بينها وبين الأحداث بحيث لا نجد شخصية زائدة على الأحداث، فلكل شخصية دور مهما صغر.

الصور الجمالية: كثيرة، رصدنا بعضها في المدخل اللساني.

رابعًا- المستوى النفسي:

المدخل السلوكي:

كثيرة هي التساؤلات المطروحة في هذا العمل، ومنها ما يصّعد إلى مرتبة الإشكاليات، حاول الكاتب أن يستفزنا بها وأن يشركنا بطريقة التحفيز في البحث عن أجوبتها، لقد استطاع الكاتب عبرها أن يدخلنا في عمق الذات الطاغية، كيف تفكّر، وما هي مستوى العلائق بين الأنا والهو والأنا العليا عنده، يقول في الصفحة 31:

.. لم يكن هناك مكان حتى للغيبة في ذلك البيت الطاهر، فكل ما فيه شفّاف ومنتظم ونقي، ولكن كيف انحرف هو عن هذا النقاء؟ تلك هي الطامة الكبرى ! وكيف سلك درب الغدر والقتل والإيقاع بمن هم أقرب الناس إليه؟ كيف دبّ هذا السرطان القاتل في نفسه ؟ ومن نفخ هذه الريح الصفراء المسمومة في رؤاه وعقله ؟ وما هي الفائدة ؟ وما هو الناتج الذي سيحصده؟ من يقدم على مشروع ما يحسب له مردودًا يعود بالنفع عليه، ما هي المنفعة المادية والمعنوية من فعله الشائن ؟

فعلًا هي تساؤلات إشكالية ! لم نجد لها عبر تاريخ البشرية حلولًا وإجابات مجدية ! لماذا ينحرف الإنسان باتجاه الجريمة أو الرذيلة إن كانت نشأته صالحة؟! ولماذا يقتل الطاغية؟! ما جدوى وما هي المكاسب المادية والمعنوية المرجوة من جرائم الدم؟! تساؤلات جعلتني أستقصي عن إجاباتها عبر محركات البحث، وكان النتائج كما يلي:

إن كان فرويد قد استخدم الرموز الأسطورية في تفسير نشأة الأخلاق والدين والحضارة، باعتماده على رمزين أسطوريين الأول (الوليمة الطوطمية) بطابعه الأنثروبولوجي الاجتماعي (مقتل الأب والتهامه في الجريمة والعقاب لديستويفسكي)، والثاني (العقدة الأوديبية) بتجلياتها السيكولوجية التربوية، وفي كلتا الأسطورتين تتجلى جريمة قتل الأب وغشيان المحارم [5]، من الأسطورة الأولى فسّر فرويد نشأة الحضارة الإنسانية بمضامينها الأخلاقية، ومن الثانية فسّر نشأة الأنا الأعلى (الضمير) والتكوين الخلقي في المستويين السيكولوجي والتربوي،

إذا أسقطنا ما استنتجه فرويد من خلال رمزيه الأسطوريَّين على (نعمان) سنجد أن نشأة نعمان ستشكل مفترضًا مربكًا لما استنتجه فرويد فيما يختص بشهوة القتل تحديدًا بغض النظر عن الضحية، إن كانت في نظرية فرويد أقارب وأرحامًا، فهي عند نعمان حبيبة وأصدقاء، وهذا ما يحوّل التساؤلات السابقة إلى مرتبة الإشكالية. لا أجوبة لها !.

يعيد الكاتب طرح التساؤلات بطريقة أخرى، لأنه مصرّ على الإتيان بجواب، يستعين بتفسير علمي مقتضب، ليس حاسمًا بل يحتمل عدة احتمالات، يقول:

يقرر بعد كل عملية قتل يرتكبها أن لا يعود لعادته القديمة متناسيًا ندمه السابق، فهل هو السلوك الشائن الذي اعتاد عليه وأصبح عادة له، أو هو انحراف أخلاقي اكتسحه في لحظات الضعف ؟ ثم هل هو حدث طارئ أو هو امتداد جيني؟ أو بالأحرى هل هي صفة أزلية دائمة أو هي صفة مكتسبة ؟!

... انقسم علماء النفس.. بعضهم قال أنها عامل جيني وراثي، والبعض الآخر قال هو خلل عقلي، وآخرون أجمعوا على أنها مران لسلوك منحرف أنتج عادة لا يمكن تخطيها.

أسئلة فلسفية عن ظواهر:

عن جدوى الحروب والطغيان، وعن الصراع بين الشر والخير، أيضًا إشكالية ما زالت تبحث عن إجابات:

لماذا تبتلع الحربُ السلام ولماذا يتسيّد الطغاة عرى المصائر، لماذا تذبح الحقيقة على مقصلة النفاق؟ فهل أن الشر أقوى نفاذًا من الخير أو أن أصحاب الخير هم القلة، ولماذا نحن أنهارٌ من عطش ومدن من جفاف، لماذا يفوز الباطل في دروب الافتراء؟ ولماذا يتكئ الجمال ويتعالى نباح القبح ؟

شهوة القتل وفلسفة وجودية عبثية وخطيرة عن القدر: حديث بين نعمان وناصر قبل أن يجهز الأول على الثاني:

لماذا تصر على قتلي؟ أي ذنب جنيته بحقك ؟

إنها شهوة القتل التي تملكتني...هي لعنة الحرب يا ناصر، صدقني أنا أحبك، لكنه حب يسكنه الموت..

كيف يحقّ لك قتلي لمجرد شهوة مريضة تلبّستك؟... وخلقتُ بشرًا مصون الكرامة والنفس؟

لماذا وضعك القدر في طريقي وقد اغتالني قبلك ؟ هي لعبة الحياة المخيفة التي تعلمناها منذ الأزل، التي جعلت منا سيّدًا ومسودًا وحاكمًا ومحكومًا وقاتلًا ومقتولًا، أرادنا القدر أن نكون بين بين، فهذه فلسفة القدر الرهيبة يا صديقي.

المدخل الاستنباطي:

موعظة عن حب الوطن والتمسك بالأصالة والجذور والمكرمات وحسن الخلق، قالها يومًا والد نعمان:

يا بني هنا جذرك، فداوم على سقيه بالمكرمات كي يبقى المنبت كريمًا ومخضوضرًا بنقاء المحبة وصلة الرحم وحب الوطن، فمن هذا المكان جئت أنت كما جاء أبوك وجدّك، فاحفظ وفاءك للمكان ولا تدعه يتلوّث بعهر الغباء وموت الأحلام وتغلغل الحقد وسقطات الجريمة

تعقب أمه مؤكدة كلام الأب:

يا بني اسمع كل كلمة قالها لك والدك... يا بني هذا المكان تاريخك فحافظ على نقائه،إياك أن تفرّط بما ضحى من أجله والدك وأجدادك، فلا تهدم ما بنوه، فأنت الوحيد الذي يحمل سرّهم وجذوتهم وامتدادهم.

المدخل العقلاني:

تناص بلاغي مع القرآن الكريم: (صار قاعًا صفصفًا لا أمل في إذكاء روح الرجولة فيه) .

الرواية تناص ومحاكاة بالاسم (نعمان بطل الرواية) والقصة مع النعمان بن المنذر ملك الحيرة،

لقد خرج النعمان من الحرب معتلًّا، لا يشفيه ولا يريحه غير سفك دماء أحبابه، فأصبح بديلًا عن ملك الموت في قبض أرواحهم.

تناص أيديولوجي مع الحجاج بن يوسف الثقفي:

أنت الآن تعتدي على حق وهبه الله لي وحماه القانون، فمن لأباح لك قتلي؟

فيما أعتقد، لقد أباحت لي ذلك الشريعة نفسها التي أباحت للحجاج وسواه من الحكام الطغاة في أن يتسيّدو ا ويحكموا باسمها...

ولماذا تقتدي بالحجاج وغيره من الطغاة الظالمين، وتجعله المثل السيء للشريعة والدين؟ لماذا لا تقتدي بعدالة الخلفاء الراشدين وسواهم من المصلحين الذين تركوا لنا أثرًا طيبًا وقدوة حسنة.

خاتمة:

أتمنى أن أكون قد وُفّقت بتسليط إضاءات على هذا العمل السردي الأدبي الهام، الذي حفل بالكثير من الظواهر المجتمعية والإنسانية الشاذة التي قذفتنا بها الحروب، إن نجحت أدين بالفضل إلى المنهج الذرائعي الذي مكّنني من ترتيب المستويات التي أدرس العمل عبر مداخلها العلمية والفلسفية والنقدية الشاملة التي لا تدع لناقد مجالًا لإنشاء أو انطباعٍ متحيّز، محابٍ أو مجابه، وأتوجّه بالشكر للمنظر العراقي عبد الرزاق عودة الغالبي، منظّر وواضع الآلية التطبيقية للنظرية الذرائعية، كما أوجّه التحية للشاعر والأديب شلال عنوز، وأهنّئه على دخول باب السرد الروائي من بوابة واسعة، وأرجو له استمرار المضي بذات تألّقه الشعري في هذا الدرب السردي المضيء .

 

بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي

الإسكندرية

..................

المصادر والمراجع

1- وكيبيديا- أدب الجريمة

2- القاتل المتسلسل هو الفرد الذي يقترف عدة جرائم قتل على امتداد فترة زمنية، على عكس الفرد الذي يقتل أشخاصًا عدة دفعة واحدة- موقع القتلة المتسلسلون – نورة حسن.

3- السيكوباتي: يعرّف الشخص المصاب بالاعتلال النفسي بأنه شخص يعاني من اضطراب عقلي مزمن مع سلوك اجتماعي غير طبيعي أو عنيف – ويكيبيديا – اعتلال نفسي

4- القاتل المتسلسل – مقالات – شبكة النايل الأخبارية – ابتسام سليمان – 14/ 3 / 2018

5- الوليمة الطوطمية في سيكولوجية فرويد- على أسعد وطفة – صحيفة المثقف

6- المراجع: الموسوعة الذرائعية بمجلداتها الثلاث تأليف عبد الرزاق عوده الغالبي – تطبيق د. عبير خالد يحيي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم