صحيفة المثقف

سامي عبد العال: "ببجي الخِلافة" في عصر ما بعد الحداثة

سامي عبد العاليبدو أنَّ عصر (الوسائط والألعاب الديجيتال) هو الواقع الطاغي بلا منازعٍ. إذ تتضاعف دلالة الأحداث خلالها بصورةٍ مذهلةٍ، وتتعلق إفرازاتُّها بالذاكرة وبالعيون التي تشاهد. وسيكون القولُّ الفلسفي لما بعد الحداثة ليس تنظيراً ميتافيزيقياً بقدر ما يلتقِّط أفكاره المحتملة من عالمنا المراوغ والراهن. وقد نوَّه الفرنسي جان بودريار إلى كَّم الاصطناع والتخييل الذي يلف هذا العالم ايهاماً بما سيحدث، تراكم يتخفى في شكل تكنولوجيا، ألعاب، علامات، إجراءات، صور بديلة. هذا وقد جاءت صورة الخلافة لدى تنظيم الدواعش إلى واقعنا بشحمها ولحمها التراثي الغابر، أتت بالصراعات الدموية حول الدين والسياسة والمجتمع، حول الطوائف والأحزاب، حول الجماعات والتنظيمات، حول النصوص والفتاوى، حول الخلافة والخليفة وشروطه وهيئته ورسمه، حول الإيمان والكفر، حول دار الحرب ودار السلام، حول المرأة.

وتلك الأشباح الرمزية باسم الشريعة دٌمجت تحت رحى الخلافة الإسلامية الديجيتال. لأننا كمتابعين ظللنا نتعلق بمشاهدها المرعبة عبر الوسائط والمواقع الإلكترونية ولا نراها إلاَّ بواسطة الفضاء الذي تبثه. إذْ كانت جميع معارك الدواعش منقولة بإيقاع التكنولوجيا ولم تكن سوى علامات مؤولة بكل عنف يُراد لها. وهو ما يجعل مفاهيمنا عن الحقائق والأشياء وحتى المفاهيم والمعتقدات غير منفصلة عن هذه الحركة. لأنَّ المهم بصدد الوسائط التواصلية هو الأداء المثير الذي يستغرق ويشكل وعينا بالأحداث. إنَّ الأداء فعل لا يجنبنا أية آثار لها طابع القوة والتوليف الذي نصطنعه بأنفسنا. ألاَ تزداد المشاهدً كثافة سيميائية مع ممارسات الإرهاب؟ هل هناك حدود ملموسة لصور الجماعات والتنظيمات التي تقاتل في مكان ما؟!

إنَّ بعض التصورات الدينية (كالخلافة) تمثل قبوراً طائرة من واقع الوسائط السارية فيها وقد حانت الفرصةُ لمن يملأها من خلال مرحلةٍ إلى أخرى. لقد تحولت التصورات التراثية إلى لاهوت إلكتروني حربي يبتز المشاعر الإنسانية ويشحن ضدها غرائز الصراع ويترك آثاراها كأصداء تتردد عبر أدمغة الملايين من البشر. لا يَفهم ذلك سوى صُنَّاعُ لاهوت العولمة المسلَّحة ولاعبيها، هؤلاء البارعون في حياكة الأفكار وتطريز العبارات وقصف أظافر الدول والمجتمعات وتجهيز أرض المعارك لابتلاع ما يواجهون من أعداء ونهب الثروات.

بأية معايير سنتفق أو لن نتفق، لم تكن  (خلافةُ أبي بكر البغدادي) إلاَّ نموذجاً جامعاً لضحايا التصورات الهُلامية لدى الاسلاميين. وما أكثر التصورات المدمرة التي يفرزها تاريخ "السياسة الشرعية" حتى غطت مناحي الحياة. فالذهنية التي ترعاها لا تمتلك تراثاً عقلانياً ولا تاريخاً نقدياً ولا استفهامياً للأعمال والأزمنة والرجال المشاركين فيها. الخيال الذي يجمعها بالحياة ليس خيالاً عادياً، بل هو شقيق الأساطير والخرافات تلاعُباً بالعالم والكون لأجل ما يُؤمن. وقد باتت تأويلات الدين في أجواء العالم الاسلامي راكضة خلف أفكار عنيفة ركضَ الوحوش في البريَّة. كلُّ يوم يخرج خليفةٌ (من العدم) انتظاراً لتنصيبه على كرسي السلطة وليس عليه الخروج من منصبه إلا بالاغتيال، وكلُّ يوم يُعلن تنظيم ما عبر أحراش المجتمعات العربية إقامة دولة الاسلام ولا يدري أيَّ إسلام يريد!! وفي المقابل لا يكف خليفة سواه عن منازعته راية الخلافة تحت أسنة الرماح ذاهباً مع الحروب أينما ذهبت.

وها هو ترامب قبيل رحيله عن السلطة (خليفةٌ من نوع آخر) يُطارد البغدادي حتى أدخله قبراً، نفقاً على حد قوله. قال ترامب بعد تصفية أمير داعش: أثناء مطاردته دخل البغدادي نفقاً مسدوداً من الطرف المقابل، حُشر فيه وهو يدري أنَّه لن يوصله إلى ما يريد وكان ينازع مصيره وهو يصرخ باكياً مخافةَ الموت...".  هكذا قد وضع خليفة الدواعش نفسه بهذا المأزق مثلما وضع أتباعه ووضع مجتمعات المنطقة (العراق وسوريا) في نفق الخلافة المظلم. فمفاهيم وثقافة الخلافة الأخيرةُ لا تُوصل الشعوب إلى أي منفذٍ للهروب على حضارة العصر تماماً مثلما لم يتسعف الأنفاق في هروب البغدادي. العصر الحي الأكثر تطوراً في أغلب مناطق العالم غدا ضيقاً كأنبوب في فم الخليفة. كل أنفاق الخلافة اللاهوتية بخلاف تطورات العطر لا تؤدي إلى شيء، فصائل الاسلام السياسي منذ جماعة الاخوان وفروعها المنشقة رفعت الاعلان نفسه (الخلافة) ولكنها لم تجْنِ سوى الخبال السياسي.

أتت الخلافة كـ"ألعاب قتالية" بمثابة المذبح الذي يُنحر عليه المسلمون وغير المسلمين. وقد حولت دار الإسلام بشكل ساخرٍ إلى دار حرب بامتياز. وبكلام ترامب الاعلامي أُظهر المسألة كأنَّها ملعب افتراضي بحدود التاريخ والجغرافيا يفعل بها ما يشاء. الكلمات الأولى التي نطقها الرئيس الأمريكي بصدد قتل البغدادي، هي" أنَّ الولايات المتحدة قضت على أكبر إرهابي في العالم". وهي كلمات مؤسسة باعتبار أمريكا أعظم قوة في المشهد، ولن تتنازل عن ذلك طالما تحارب أعداء من هذا الصنف. كأن هناك صراعاً للوحوش الأسطورية في ملعب تاريخي تتوافر فيه جميع عوامل الإثارة والمتابعة. وحوش برداء الخلافة وقداستها ووحوش برداء القوة  الامبراطورية العظمى في العالم. وبالتالي حينما تقتل القوات الأمريكية شخصاً، فلن يكون شخصاً عادياً، هو خليفة ( يا لهول هذه الكلمة اللعبة في التاريخ)،  رأس أكبر تنظيم إرهابي.

داعش بلغت شأواً كبيراً في الارهاب لا تفهمه إلاَّ أمريكا جيداً. كان تنظيم القاعدة تنظيماً وظيفياً عابراً للدول والقارات، وغير مستقر في مساحة بعينها وله كامل الأهمية من واقع ضرباته الخاطفة (لنتذكر ضربات الحادي عشر من سبتمبر)، ثم يأتي دور الوسائط الإلكترونية للنفخ في الأحداث لصالح قوى الحروب على الأرض. والقاعدة ظلت صورة مرعبةً من جهة الأخيلة الشبحية العالقة بها. أمَّا داعش  (كما يقول ترامب) فهو التنظيم الذي اسس دولة ملموسةً وجمع مجاهدي العالم من كل صوبٍ وحدبٍ، وكانت له قوة حربية مدمرة على جبهات القتال وأراد اجتياح لا منطقة العراق والشام فحسب، إنما العالم بأجمعه. ذلك اقتفاءً لآثار الخلافة القديمة مع بواكير المجتمعات الإسلامية ولم يكن أمامه سوى حروب الجهاد المسلح لتحقيق مآربه. مما أهلّه لأنْ يكون لا عباً افتراضياً معتبراً وقادراً على انتاج دلالات القوة والصراع على المستوى ذاته.

كان أبو بكر البغدادي يلُّم تحت عمامته السوداء ولحيته المحناة مساحة بعمر حضارات وثقافات ودول غارقة في الزمن، صورته لا تتوانى عن دفع مجاهدين من أقاصي العالم وأدناه إلى ساحات الوغى. جمعت الأوروبيين والشرقيين والشعوب الصفراء والحمراء، هؤلاء نطقوا لاهوتاً جهادياً رهن أوامره. نسب نفسه إلى "قبيلة قريش" كاستحقاق أخير مزيف لمن يكون خليفة في زمن ما بعد الحداثة. كيف يتنادى هؤلاء بقبيله تراثية في "عالم افتراضي" virtual world غطَّى كلَّ شيء حتى الحياة؟! هل الارهابيون يعتقدون أنَّ عصرنا مازال عصر القبائل والنحل والملل والطوائف وإن جاءت عبثية بغير أوانِّها تماماً؟

لقد غدت الدولة الداعشية أضخم تكتل قريشي راهن في الصور والأيقونات والأزياء والأفكار، كانت تأمل أنْ تظل سارية إلى قادم السنوات. ولو أطلقنا العنان للخيال، لأدركنا أنَّ أراضي تنظيم الدولة لم تكن إلاَّ ساحة مقابر بحرفية الكلمة على غرار التصورات التي تنتجها. في كلِّ ثانية، في كل برهة، كان يتم حفر القبور ونحر المرتدين والكفار وتقطيع الاجساد ودفن الجثث وطهي الرؤوس أمام المتابعين. كانت دولة الدواعش بالنهار عمليات "كَّر وفر وقتال"، وبالليل عبارة عن مواخير لسبايا المجاهدين على جبهات القتال. لقد انتصبت الخلافة لدي التنظيمات الارهابية على اعتاب الحضارة المعاصرة كخيمةٍ للدعارة باسم الجهاد وانزال الفاحشة ببنات الكفار!!

لكن من الذي صنع " الخليفة الديجيتال" والذي رأيناه في المعارك بهذه العلامات الوحشية؟ من الذي سلحه؟ من الذي أمده بالخرائط والأموال والعتاد اللوجيستي؟ من الذي سمح له بالتمدد كالثعبان ما بين نهري الفرات وبردى، ما بين الفُرس والروم، ما بين العرب والترك. جميع ذلك لا يهم، فلا إجابات واضحة كما أنَّ سؤال الـ "من" بوصفه الفاعل أمر يخل بالسياق والظروف. وبالتالي فهو سؤال سيتلاشى سريعاً مع حرارة المعارك التي كانت ممزوجة بالتراث والمفاهيم.

المهم أنْ ينظر المشاهدون- بعد هذا الصراع- فيرون صور دونالد ترامب على الوسائط الإلكترونية وقد ازدادت حجماً وقوة وحدَّة في الملامح والعبارات. اخترقت كافة الحقائق وصغرت تجاهها أية أفعال أخرى ولو كانت أفعال القتل والدمار. إن الملاعب السياسية في عالم الافتراض أكثر رعباً مما نتوقع ولن تكون أقل تأثيراً ومعاودة وتكراراً من ذي قبل.  والأسئلة تكرر نفسها: من هو الخليفة الديجيتال القادم الذي ستُحشد أمامه قوات الدول الكبرى؟ من هذا الذي سيتم تهريبه من مكان إلى آخر لتشويق المشاهدة؟ من الذي سيصمم حركاته ومساره التاريخي الجهادي؟!

حتى كان الانتظار (انتظار ظهور ترامب على شاشات التلفاز) له دور لا يقاوم في تضخيم الحدث، اعلن البيت الأبيض- عقب شيوع اخبار مقتل البغدادي- عن خطاب وشيك للرئيس يوضح الملابسات ويتلقى الأسئلة حول العملية. لم يتسائل أحد ما إذا كان الخليفة الأكبر قد قتل حقاً أم لا؟ ولم يشكك أحد سوى روسياً في واقعة القتل، فأشارت إلى كون المنطقة (قرية باريشا بإدلب) تحت مراقبتها طوال الوقت، وهي تدرك حجم تحركات الجهاديين فيها. وعلى أمريكا أنْ تقدم الدليل على صحة ما تقول!!

كان المسرح الافتراضي أمامنا وعبر شاشات التلفاز في أوج بريقه الإعلامي وعلى أعلى مستويات التخييل والإيهام. قوى سياسية تتناحر في جوف أدمغتنا ( روسيا وأمريكا والغرب والجماعات الارهابية إجمالاً)، بينما نحن شعوب وأصحاب المنطقة العربية لا نعلم شيئاً، أي شيء، عما يحدث أو حدث أو سيحدث. مثلما لم يكُّن لنا أيُّ قرار في إدارة  الخلافة الديجيتال التي تخرج من أنفاق الخيال، فلقد نشأت وتعملقت وتسلقت وزحفت وتضخمت في عقول أتباعها واعدائها راهناً كما تضخمت طوال التاريخ ونُسجت حولها الأساطير دون معرفة بحقيقتها وما هو حجمها الفعلي في تاريخ الاسلام وما إذا كانت من أصول الديانة أم لا؟!

شهد "مسرح ترامب" مصطلحات من قبيل: مات البغدادي كـ" الكلب والجبان". فالخليفة المقدس أصبح كلباً مدنساً على مرأى ومسمع من المتفاعلين الافتراضيين. وعلى مرأى ومسمع من الاتباع ومغاوير الجهاد، وفي المعارك كم كانت الكلاب تعوي باسم الخلافة حتى يحين التخلص منها، حدث ذلك بالموصل ونينوى وصلاح الدين في العراق وفي سوريا بإدلب واللاذقية وتل أبيض وفي ليبيا بالجبل الغربي ولبدة ودرنة وإجدابيا وسيرت، فهل كلاب التنظيمات الإرهابية تدرك هذا الدور القميء؟ كيف يُوصف صاحب المكانة المقدسة (أمير المؤمنين) بدور كلبي إلى هذا الحد؟! معنى هذا أن الكلاب الارهابية يتم رعايتها وحمايتها لتأدية الأدوار المنتظرة في يوم من الأيام.

أي أنَّ ترامب  كان يوصِّف رعاياه الارهابيين بما يليق بهم في احتفال عالمي بقتلهم بلمسات إلكترونية حتى يصبح قتلاً مضاعفاً وموحشاً. سياسات الكلاب ( من أمراء التنظيمات ومن رؤساء القوى الكبرى) إحدى حيل الخلافة المعاصرة وسط واقع لا يملك اصحابها منه شيئاً سوى القتال والانتحار. ففي الحقيقة لا يستطيع أي تنظيم إرهابي إنشاء دولته لا أقول جماعته- على تلك الخريطة- إلا بموافقة القوى العولمية كأمريكا وروسيا. الارهابيون هم أظافر تحل محل القوى المهيمنة في أقاليم الصراع الثقافي والحضاري والاقتصادي.

ذلك إزاء "الكلاب الوفية" التي هي من لحم ودم على حد قول ترامب، كلاب القوات الأمريكية المدربة التي أسهمت في اغتيال البغدادي. حينما سُئل ترامب عن ضحايا العملية، ردَّ بأن جنودنا بخير لم يُصب منهم أحد، كانت هناك فقط بعض الإصابات في الكلاب التي طاردته. أي كما يفهم ضمناً أن هناك كلاباً مدربة ووفية تطارداً كلباً متمرداً وخارجاً عن قبضة أمريكا ولابد من الإجهاز عليه.

وهذه التيمة في ألعاب الخلافة تمسك بتلابيب عبارة ترامب في وصفه للعملية بكونها "فيلماً سينمائياً رائعاً". عبارة بالغة الخطورة، فهي عقدة الدراماً في خطاب أمريكا السياسي وما تفعله بالإرهاب وبالمنطقة العربية لا مجرد كشف ملابسات مقتل زعيم داعش آنذاك. إن البيت الأبيض لا يختلف في كثير ولا قليل عن " سينما هوليوود"، الشاشة العولمية واحدة ، وأفلام الأكشن action films تتماثل حرفياً، وليس لنا نحن العرب إلاَّ التصديق ولعق الشفاة والاندهاش في حبكة الأحداث المثيرة، حيث كان وما زال النفق واحداً بالنسبة للبغدادي وللشعوب العربية الإسلامية. النفق هو القبر الذي احتوى الخليفة حياً كما مثلَّ الارهاب نفق العالم العربي وقبره المنتظر كذلك لو لم يعدل مساراته الحضارية والثقافية وينخرط في التنافس الكوني حول إبداع المعرفة والحياة.

عند هذه النقطة اختلطت حركة الأوراق ولن يفرزها ويفك خيوطها سوى لعبة Player Unknown's Battlegrounds وترجمتها الحرفية ( ساحات معارك اللاعبين المجهولين) واختصارها  (ببجي PUBG ). وهي لعبة تُفهمنا معنى الخلافة الديجيتال التي تلاعب بها دونالد ترامب وأشركنا في خيوطها، ونحن  بدورنا- دون قدرة لمعرفة أبعادها- اندمجنا داخل ساحات المعارك المجهولة وما زلنا.

حيث يتم اللعب - ضمن قواعد الـ" ببجي"- بأسلوب التصويب من منظور الشخص الأول أو الثالث، وقد يصل عدد اللاعبين إلى مائة لاعب كل منهم يهدف لأنْ يكون هو الناجي الأخير. ويمكن للاعبين الاختيار بين الخوادم ( نظام حاسوبي بوظائف تلبي الطلبات الواردة من أية حواسيب على الشبكة) والتي يكون فيها اللاعب وحده ( فكرة الذئاب المنفردة) وليس ضمن فريق معين، أو اختيار الخوادم التي تسمح للمشاركة بشخصين في الفريق أو أربعة ( فكرة التنظيمات). وفي كل الحالات، يعدُّ أخر شخص أو فريق باقٍ على قيد الحياة هو من يفوز بالمباراة. حيث كانت  (أمريكا) هي القوة الناجية الوحيدة من تلك اللعبة في ساحة الاسلام السياسي. وظلت تصوِّب بأوراق الخلافة لدى الجماعات الإرهابية ولم يكن البغدادي (ورمزية الخليفة) إلاَّ مجرد هدف استراتيجي مزدوج.

لعبة " ببجي الخلافة" الإسلامية لها وجهان... أولاً: اصطياد جماعات الاسلام السياسي التي تجري ورائها. أي تجميعها من شرايين ودروب العالم العربي باسم الدين. ألاَ تطلبون خلافةً على منهاج النبوة؟!! إذن فلتدخلوا ألعاب السياسة وبأسلحة حقيقية هذه المرة. فلتكن داعش هي اللاعب الجوكر حتى يتم التصويب تجاهه بجوار لاعبين محليين وتنظيميين آخرين. وبعد أنْ يبقى الدواعش لهم الغلبة في التصويب والقتل والتدمير والسبي، يتم افساح المجال لهم لتدمير المجتمعات ونهب الثروات وإشاعة الفوضى وبث المخاوف، وبعد أنْ يظن اللاعبون الأضعف قدرة التنظيم الداعشي على السيطرة، يكون الناجي الأخير ( أمريكا) هو القادر على قتل الجُوكر (القشاش) في نهاية الأمر (عملية قتل أمير التنظيم أبي بكر البغدادي).

ثانياً: حرق المراحل وإيغال أمريكا في المجتمعات العربية والهيمنة على ثرواتها وإدارة الخيال السياسي والأحداث لأجل مصالحها. وسيكون اللاعب المحلي ( الخلافة) مغذِّياً لخيال الإسلام السياسي وحاشداً لآفاق المجتمعات العربية باتجاه التخلص منها بالوقت نفسه. وهنا أمريكا هي الرابح الوحيد أيضاً حيث النفط والثروات والجباية العولمية وتجارة الحروب والدماء الرابحة. فأسواقها تخلط بين الـ" ببجي PUBG" والاستهلاك الذي بلا حدود. وبالتالي تغدو الحروب ضرباً من ألعاب الذخيرة الرمزية المتمثلة في الدين والثقافة والتخلص منهما بجانب ذلك. الأمر بالنهاية هو كيف تتحول الخلافة إلى جهاز سياسي حربي أشبه بالحزام الناسف الذي يدمر أصحابه ويحقق أكبر قدر من المكاسب!!

هكذا تم اصطياد البغدادي داخل ملعب ببجي الخلافة بهذا المنطق، لقد كانت العملية وستظل فلماً رائعاً ومثيراً. حتى أن سيدة البيت الأبيض الأولى ميلانيا ترامب -على لسان زوجها الرئيس الأمريكي- قالت هذا شيء مذهل، شيء فانتستيك fantastic لم أره من قبل. ولم تتلاش الكلمات دون جَّر وعينا الهش نحو ما تريد أمريكا فعله بتاريخ المنطقة العربية، يا لهذه الروعة في القتال والطهرانية في الهدف. كالـ"ببجي" تماماً حين تضع لاعبيها ومتابعيها مراقبين يشملهم الحياد المجاني والزائف متجاهلين من يدير حلبة اللعب والقتال والموت لأجل مآرب قذرة!!.

لعب ترامب على هذا الوتر السينمائي، وقد اشرك العالم العربي كله في لعبة ببجي الخلافة، لقد أشار مراراً إلى شعوب العالم الاسلامي: يجب عليكم ألاَّ تأبهوا بمقتل البغدادي، فقد أحرق العديد من الضحايا ودمر القرى والمدن وذبح المعارضين لدولته وقتل الغربيين وشرد الأيزيديين والكرد. وهؤلاء جزء من أفعال الـ" ببجي"، لكن اللاعب الأمريكي نحاهم مبكراً، حتى يظفر هو باللاعب القاتل (داعش) الذي أجَّل (هو أيضاً) نهايته لتكون عولمية بالقدر نفسه، ولتصبح غامضة ومهولة في الواقع الافتراضي بما يكفي.

أخذ ترامب يخاطب العرب والمسلمين بأنَّ البغدادي هو من أذل المجتمعات العربية والإسلامية التي حلت فيها خلافته وأسامها سوء العذاب (حرق الطيار الأردني، ذبح المصريين الأقباط بليبيا). وهو بهذا يمارس حَلْباً لضُروع الدول العربية الثرية على طريقة حلب الممالك والأمارات التي اعتبرها" بقرة حلوباً" في وقت ليس بالبعيد. وهذا جزء من "ببجي سياسي" تكون الخلافة فيها "ورقة ابتزاز" اقتصادي تجعل أمريكا مخلَّصاً منتظراً على الدوام من الإرهاب الذي اسهمت هي في صنعه (من ذقنه وافتل له كما يقول المثل الشعبي). أمريكا تمارس دور المبتز المتزلف والقاتل معاً، وهو  التطهر والاغتسال الكوني من الجرائم وبمساحيق وأدوات من أرض المعارك نفسها.

لم يكتف ترامب بهذا إنما أوعز إلى اتباع داعش بالمكايدة والتشفي والنكاية والسخرية. فالجائزة المدهشة دوماً كانت للمقاتل الأخير (أمريكا) بينما التشفي والوبال من نصيب المشاهدين وإنْ رأوا عجلهم (كلبهم الأكبر) يذبح أمام الأنظار. حيث نوّه ترامب في حينه أنَّ البغدادي أثناء الاجهاز عليه ومطاردته كان مذعوراً مرعوباً ولم يكن زعيما ينادي بالاستشهاد والجهاد كما يروَّج أتباعه. ولا تخفى الإغاظة بأن الدواعش كانوا يتبعون سراباً ولا يمشون وراء قائد شجاع وصنديد. ليتساءل المتلقي: هل يكون الخليفة كلباً نابحاً بهذه الطريقة وقد مات مختنقاً نتيجة جُبنه إزاء كلاب الجنود الأمريكيين؟! أي هو  خليفة لا يقوى على الالتزام بما قال في حث اتباعه مراراً على الجهاد والاستشهاد بشجاعة وأنَّ لهم الجنة والحور العين كما كان يردد!!

ليس هذا فقط،  بل أشار دونالد ترامب إلى أنَّ أمريكا احتفظت بأشلاءٍ من جسد الخليفة، جزء من عار الخلافة لتحليل DNA))، وربما أمريكا تعبر بهكذا معانٍ: لن يكون جسد الخلافة حياً إلاَّ ويكنس المجتمعات التي ينزرع فيها، وسيكون ميتاً لدينا كوثيقة بيولوجية يظفر بها الناجي الوحيد، الفائز الوحيد (دولة أمريكا). وبينما نحن العرب منشغلون بهول العملية وحدودها الخيالية، يذكر ترامب أنَّ جنوده ظفروا كذلك بآلاف الوثائق والخرائط من موقع المعركة، وهي وثائق مرتبطة بخطط داعش في المستقبل وكيف سيرسم تواجده على الأرض وكيف سيعود لو فقد بعضاً من أراضيه. ولذلك لم يفُت ترامب التحذير بأن خلفاء البغدادي المحتملين تحت أعين القناص الأمريكي وسيأتي دورهم الغبي في اللعبة نفسها، فلم تنته ببجي الخلافة التراثية بعد، لأنَّ اللاعبين المرسوم التخلص منهم وبعد أداء أدوارهم، سيحل أشباحهم قريباً في أشخاص آخرين وستتكرر الألعاب.

 

سامي عبد العال

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم