صحيفة المثقف

مهدي الصافي: مجتمعات الضحايا والجلادين.. بلادنا العربية

مهدي الصافيصناعة الخوف والموت والاستبداد، دهاليز التعمية والتجهيل، واقبية الجلد الذاتي، وثقافة الحزن والهزيمة والانكسار، مجتمعات القدر المفروض مسبقا، المنتظرة للخلاص الكوني، تلك الظواهر نتاج عدة عوامل مجتمعة، تحيط بقوة احيانا شعب او امة او حتى المجتمعات الاثنية او الطائفية الصغيرة، وتعزله او تعرقل مسيرته الحضارية الطبيعية، وتأخذه في مسارات وطرق جانبية، تجعله يدور حول نفس محور التخلف المتوارث..

البيئة، والتراث، والاديان والطوائف، وقصص الماورائيات او الغيبيات الاسطورية المقدسة، توارث العادات والتقاليد البدوية او البدائية، الفقر والظلم والاضطهاد، والسلطة الابوية المغلقة على الاسرة او العشيرة او الطائفة

(مع اننا قدمنا نقدا في مقالات سابقة لمايعرف بالسلطة الابوية العليا على انها تمثل احد اسباب الهزيمة في المجتمعات العربية، ولكن مانقصد به هنا نقدم السلطة الابوية خارج اروقة انظمة الحكم او السلطة والاحزاب السياسية، انما هيمنة السلطات الاعتبارية الدينية والاجتماعية).

وجوانب كثيرة تظهر مع تغير الانظمة السياسية الشمولية او بعد انهيار الدولة(المليشيات وعصابات الخطف والتسليب والتهريب والمخدرات والاعمال التجارية الممنوعة او كالاتجار بالبشر او بأعضائهم الخ)، هذه الفوضى المنتجة للاضطرابات السياسية والاجتماعية والدينية العامة، تكاد تكون برامج ومخططات معدة مسبقا، تتحالف فيها القوى الامبريالية العالمية، والدول الاقليمية التوسعية المجاورة للدول العربية، مع الطبقات والجماعات السياسية الانتهازية الفاسدة، التي تعد نهب الثروات الوطنية غايتها الرئيسية من هذه التحالفات، ولهذا تجد هذه الدول من السهولة بمكان تجنيد ماتراه عميلا او خادما مطيعا لمصالحها الاستراتيجية....

كسر ارادة الشعوب تبدأ بتفكيك المجتمع الى طبقات وفئات وتجمعات صغيرة، ثم يتم الانقضاض على افراد تلك المكونات او الطبقات نوعيا، واخضاعها للاستسلام الكامل لهيمنة الدولة او النظام السياسي (وهذا يطلق عليه احيانا بالمجتمعات الفردية، اي لاتوجد ثقافة عامة موحدة، المهن، والوظائف، والاعمال، والثقافات المتعددة او الاهتمامات الاحادية)،

تعد تلك العملية المتوارثة اسلوب متبع منذ رحيل الاستعمار عن بلاد العرب اواسط القرن الماضي، ثقافة الاقطاعي السيد، والفلاح العبد، وحتى مع تولي السلطة من قبل الضباط الاحرار او الحركات السياسية القومية، رجعت معظمها بالتدريج الى العقلية البدوية او القروية في الحكم، واصبحت اكثر تخلفا او برجوازية من الانظمة الملكية التي سبقتها او جاءت على انقاضها، مع ان صفة التوحش والفساد والرشوة رافقت تلك الانظمة الجمهورية وصولا الى ثورات الربيع العربي بعد 2003،

هذه الولادات السياسية العبثية، هي نتاج بيئة وطبيعة اجتماعية مكتسبة مشوهة ايضا، يلعب الدين والمذاهب والطوائف والحركات الاسلاموية دورا بارزا في تكوينها،

وتقديمها للرأي العام على انها مقدمات دول العدل الالهي(تقديم ثقافة الاحزاب الاسلامية)،

لكن الذي يحصل ان العرب لايرون على الارض غير ثقافة ارهابية عشوائية وهابية داعشية، لا اساس شرعي لها في تاريخ الاسلام الاول ولا الثاني(الاول في عهد النبي محمد ص، والثاني في مايسمى عهد الخلفاء الاراشدين)،

فتاوى تستند الى فقه واستنباطات او اجتهادات وتأويلات شيطانية، قدمتها بعض المدارس والمذاهب المتشددة او الاراء الشخصية المتطرفة(فرقة الخوارج، او ابن تيمية)، كما يوجد في المذهب الجعفري مدارس وفرق واجتهادات واراء مغالية (ومتطرفة في حكم مايسمى بالمخالفين، او ضد حكم الخلفاء الراشدين الخ.)،

في منطقة او رقعة جغرافية(مليئة بالصراعات ونزاعات الجيوسياسي)معقدة ومتشابكة، وفيها طموحات انفصالية اثنية وطائفية، ورغبات توسعية استعمارية اقليمية، تجعل من هذه الارض مستنقع لاثارة الفتن، ولتمرير مشاريع الهيمنة الامبريالية على مصادر الطاقة وحركة التجارة الدولية بين امريكا والاتحاد الاوربي من جهة وبين الصين وروسية من جهة اخرى....

لابد ان تراجع الشعوب العربية نتائج ثورات الربيع العربي، وتحديدا تجربة الاخوان في حكم مصر، وفشل النظام الديمقراطي في العراق، واعلان دولة الخلافة بعد سقوط الموصل بيد داعش2014، وماحدث في سوريا بعد الانتفاضة الشعبية (وكذلك في اليمن وليبيا الخ.)، ولعل التجربة المصرية الجديدة (لحكم العسكر) بعد سقوط حكومة الراحل حسني مبارك، واقصاء حكومة الاخوان بالقوة العسكرية والشعبية،

هي الاكثر دلالة على التذبذب اوالتأرجح والتراجع العربي الاجباري، اي لم تكن الفترة او التجربة طويلة بعد ثورة 25 يناير2011، صعود وهبوط متسارع لحكم الاخوان، ثم رغبة عارمة في الشارع المصري لتدخل الجيش وحسم الموقف، وبعد ان استقرت الامور بعد تشكيل لجنة التعديلات الدستورية، واعلان الانتخابات الرئاسية، ومجيء الرئيس السيسي للحكم، انقسم الشارع الى مؤيد ومعارض مرة اخرى،

فصورة او تاريخ وذكرى الانظمة الجمهورية الحديدية البوليسية، لازالت عالقة في اذهان الشعوب العربية (تجربة جمهوريات الخوف عهد عبد الناصر، ونظام صدام، والقذافي، والاسد، وعلي عبد الله صالح،  الخ)، مع ان الغالبية الشعبية تؤيد عودة قوة وهيبة السلطة الى الشارع، حيث سجل انتشار واسع لعصابات استغلال الفراغ الامني والسياسي(هذه العصابات تنام مع قوة السلطة، وتطفوا بسرعة غريبة على السطح  مع غيابها الكلي او حتى الجزئي)، وهي تشكل نموذج عن الازمات والمشاكل الاجتماعية النائمة، والتي تثبت غياب دولة المؤسسات عن بلداننا لفترات طويلة،

وانحدار المستوى الثقافي والاخلاقي، وتراجع المؤسسات التعليمية والتربوية عن مواكبة التطور الحضاري العلمي العالمي، وغياب الخدمات ومؤسسات الضمان الاجتماعي والصحي، فضلا عن تصاعد نسبة الفقر والبطالة مع الانفجار السكاني والتعثر الاقتصادي، وانتشار التجمعات والاحياء العشوائية، وهي بيئة لانتشار الجريمة والعنف والضياع، الخ.

لقد تعودت شعوبنا على نظرية القيادة الحديدية الرمزية للاحزاب او الطوائف او الاثنيات وتوريثها، وذلك راجع الى التركيبة الاجتماعية المتنوعة للشعوب العربية، المكونة من قبائل وعشائر وافخاذ او اثنيات وطوائف وفرق او عرقيات مختلفة،

وهذه الحالة لايمكن لها ان تكون دولة الامة المؤمنة بوحدة الدولة والمجتمع، ومن هنا تجد انها تتخوف كثيرا من كلمة او مفهوم الفيدرالية (يمكن مراجعة اصدار الباحث الاسلامي الدكتور الراحل محمد علي الناصري رحمه الله حول نظام الولايات في الاسلام -طبعة لندن)،

لانها شعوب غير معتادة على نظام الشورى او الديمقراطية الاجتماعية قبل السياسية، بل هناك دائما تعامل فوقي وطبقي اجتماعي وثقافي غير انساني، تتوارث المجتمعات العادات والتقاليد التي تحتقر بعض المهن، وثقافة تحقير او التقليل من شأن المرأة نصرة للثقافة الذكورية الاجتماعية والدينية،

ونود ان نطرح عدة نقاط تحدد نوعا ما علاقة المجتمعات الحاضنة لثقافة الضحايا والجلاد (الجماعة والزعيم او العشيرة وكبيرها او شيخها او الطائفة ومرجعها او سيدها الخ.):

اولا: السلطة الدينية المقدسة اجتماعيا وعرفا

ثانيا: السلطة الحاكمة المستبدة اي نظام الدولة الفاشل

ثالثا: ثقافة سيادة المسؤول على مؤسسته او دائرته او الوزير على  وزارته

رابعا: سلطة الرجل على المرأة او الاب على الابناء البالغين

خامسا:  سلطة الاستاذ او المعلم على الطلبة والتلاميذ

سادسا: سلطة القضاء المسيس الداعم للسلطة او رجل الامن على المواطن

سابعا: سلطة الاعراف والتقاليد القبلية والاجتماعية البدائية

ثامنا: سلطة الشارع (تلك السلطة التي تفرض على الناس الالتزام بنمط معين من الالتزامات التقليدية او التعامل مع الواقع وفق الظروف) على الناس، وهي مزيج من التراكمات السلبية المتوارثة

هذه الجوانب او العراقيل المحيطة بالمجتمعات العربية، تعمل على تأخير تحرر الانسان من قيود الدوائر المغلقة، ومن الاغلال المصطنعة المتعددة الاتجاهات، والتي تشكل منظومة قيمية رجعية غير متناغمة ولا متناسبة مع حركة العالم الحضارية او العلمية المتسارعة....

وقد تشكل جائحة كورونا، والتقدم العلمي والعسكري والاقتصادي للدول القريبة من بلداننا، ، الحافز او الصدمة المتوقعة والمنتظرة، لاخذ مبادرة اعادة الحسابات الوطنية الشاملة، في التنمية الداخلية، والعلاقات الاستراتيجية مع المحيط الاقليمي والدولي (بالتحول المحوري في العلاقتات الدولية المختلفة)، لا ان تراوح في دائرة التجهيل وصناعة دولة الحارات والجماعات ومافيات الفساد المتحالفة مع الاحزاب او الانظمة الحاكمة...

النخب السياسية العربية الجديدة (اي التي ظهرت بعد الربيع العربي)، نخب اسلامية انهزامية منكسرة او متقهقرة،  غابت عن ايديولوجياتها وافكارها وثقافتها رؤية القيادي او الزعيم والعضو الترابي الزاهد،

انما باتت تبحث عن المكاسب الامتيازات المادية، واساليب توريث المناصب والمرجعيات القيادية، انتقلت من ثقافة تحريم التكنولوجيا وماكان يعرف بالملذات والشهوات الى قاعدة الضرورات تبيح المحظورات، (استبدلت اية:  وتودون ان غير ذات الشوكة تكون لكم).. سورة الانفال، بأية: (قل من حرم زينة الله التي اخرج لعباده والطيبات من الرزق: من سورة الاعراف).

تتلون وتتغير الافكار والحاجات والاجتهادات تبعا للاهواء الشخصية احيانا، وتلك الثقافة تعد اساس المنظومة القيمية العربية، اي لاتوجد اضافات تاريخية لهذه المنظومة،  الا ما يقال عنه من انه جاء مع الاستعمار او عبر بحوث ودراسات المستشرقين، وكأن شعوب الدول العربية لاترغب بالدخول في مرحلة المراجعة والنقد والتغيير او التحول الحضاري،

حتى باتت دولنا عبارة عن قرى مدنية وليست مدن كما هو متعارف عليه دوليا، ففي مدننا المفترضة تجد كل المتناقضات الاجتماعية والسياسية والثقافية، بداوة على قبلية وعشائرية مقيتة، ومدنية معبأة بالافكار الدخيلة او المستوردة، وبالواقع المريض المفروض بالقوة(القوة السياسية والدينية والاجتماعية)، حيث تمثل التجربة الديمقراطية الفاشلة في عراق مابعد 2003، المثال الاكثر واقعية لحالة الاعرابي الذي لايظهر منه غير عيونه البارزة من وسط اليشماغ الملفوف حول وجهه (غطاء رأس الرجال للزي العربي) التائه بين التراث الميت، وغبار الصحراء، وبين الحداثة المتوهجة ابداعا واستنارة وتحديا وعلما، مما يتطلب ان يشعر الجميع بأهمية النقد التاريخي والموضوعي الجاد، لكل المراحل السابقة التي لم تؤسس لالدولة المؤسسات الناجحة نسبيا، ولا لقاعدة وارضية خصبة للانتقال من مرحلة الانظمة الثورية الشمولية الى انظمة الاستقرار والتنمية والبناء الديمقراطي السليم (كما فعلت بعض دول شرق اسيا)، بالعكس تم تسجيل  انتكاسات متعددة واضحة، بهجرة العقول المفكرة والعلمية الى الخارج، وزيادة نسبة الامية، وغياب دور ونزاهة وقوة استقلالية السلطة القضائية وانفصالها عن المؤثرات السياسية، وهذا ينطبق ايضا على دول الخليج العربي، التي لم تستثمر انظمتها الحاكمة المستوى المعاشي والاقتصادي الجيد لمواطنيها، لبناء منظومة قيمية انسانية عصرية تؤمن بدولة المواطنة، تسمح بضمان الانتقال السلمي للسلطة (سواء بالتحول الى ملكية او اميرية دستورية او ولايات فيدرالية اتحادية حقيقية)، لكن مانراه زيادة في نسبة المعارضة المهاجرة او القابعة في اقبية السجون السرية، وتصاعد في انتهاكات حقوق الانسان الخ.

هل هو قدر الشعوب العربية ان تبقى اسيرة ثقافة الضحايا والجلاد؟

لافرق في هذا التساؤل ان يكون تعذيب الضحايا جسديا او نفسيا ومعنويا، فالتوحش ان تجبر هذه المجتمعات على العيش بطريقة غير طبيعية ولاسوية،

تارة توجه وتقاد الى مسارات دموية فاشلة، دون رؤية واقعية او عملية لمقومات المواجهة وادامة زخم التعبئة النضالية او الثورية (كمسارات الجهاد والمقاومة وتحرير فلسطين الخ.)، وتارة اخرى تقمع بالفقر والاقصاء والتهميش والتطويع على التبعية العمياء لقيادات نخبوي منافقة او مأجورة (انظر مايحصل لمايسمى بالمعارضة السورية التي توزع اغلب مقاتليها على جبهات خارجية وصراعات اقليمية متعددة،  لاتمت بأية صلة بشعارات التغيير والتحول الديمقراطي في بلادهم، كما توزعت ولاءات قياداتها ايضا بين الدول القريبة والبعيدة)...

لابد ان يبقى الانسان العربي في حالة ثورة دائمة، ضد الفساد والظلم والفشل السياسي، يطمح من خلالها الى نيل حريته الكاملة في مايراه صالحا لبلاده وشعبه، عبر التنظيم والعمل السياسي التنموي(البعيد عن الايديولوجيات والاعتبارات الدينية او الاجتماعية)، الذي يقف مع الجميع دون استنثاء مع الضحية، كما مع الزعيم الجلاد واتباعه او حاشيته، بغية ان ينزع الناس عن رأسهم صورة وفكرة الخضوع للخليفة الجلاد او الرئيس والقيادي العظيم او المقدس، وان تسلم امورهم وامور بلادهم للكفاءات والنخب العلمية المفكرة..

ليس هناك مبررات منطقية او عقلانية ان يشعر اي مواطن كادح او موظف او عاطل عن العمل ان القدر وضعه في هذا المأزق او الموقف الصعب والبائس، بقدر ماتعد انها دلائل واضحة عن الفساد واخفاقات الانظمة الحاكمة، فالعدالة الاجتماعية تقتضي ان لاتدير الدولة ومؤسساتها ظهورها لمشاكل ومعاناة المواطنين، وعليها ان تبحث عن سبل الاصلاح والانقاذ والمساعدة، وان لايستمع الضحايا الى تجار الدين المتواطئين مع الانظمة الفاسدة، تلك التي لاتعرف غير اسلوب الادانة واللوم وتحميل مايسمى ذنوب الناس اسباب تدهور اوضاعهم المعاشية والصحية والامنية، وتضخ بكثرة خطابات التخدير والصبر والانتظار كلما لاحظت بصيص للوعي قد اخترق اماكن ومساحات سلطتهم المطلقة على الدين، بدلا من الدعوة والمطالبة بأنصاف تلك الشرائح والطبقات المسحوقة المنسية...

عندما تغيب ثقافة الزعامات والقيادات يصبح كل مواطن زعيم وقائد لنفسه في المجتمع الحر، وعندها ستختفي بعدها كل المعاني والمحسوبيات الاجتماعية والسياسية الاستعلائية الساذجة عن الامة،

وليبقى الانسان العاقل الكامل الاهلية للاختيار والقيادة الشخصية دون وساطات او تدخلات عرفية او رسمية... يوم ينتصر الضحايا على الجلادين سلميا، تنتقل شعوبنا الى مرحلة الديمقراطية الحضارية المدنية دون سلاح او دماء.

 

مهدي الصافي 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم